ما إن اشتعلت النار جيدًا حتى أخذ صوت احتراق الحطب يتردّد بهدوء في المكان.
كان المبنى صغيرًا، فلم يكن هناك فاصل واضح بين غرفة النوم وغرفة الجلوس.
عضّت فريا شفتها بإحكام، ثم التقطت بطرف أصابعها قطعة النصل المكسور بيدٍ غمرتها بالكحول لتعقيمها.
“آه …! أرجوكِ، برفق، افعليها برفق من فضلكِ.”
“لقد انغرزت بعمق، لهذا يؤلمكِ.”
لم يكن لوكيوس كما في الماضي حين كان يتلقى حتى الجراح العميقة دون أن يطرف له جفن. بعد أن كشف عن هويته الحقيقية، صار يتدلّل كطفلٍ صغير. حاولت فريا أن تتجاهل أنينه وهي تركز بكل حواسها في أطراف أصابعها.
‘هاه، الأمر ليس سهلاً أبداً.’
كانت هي الأخرى في وضعٍ صعب. فمحاولتها الخلاص من الحفرة قبل قليل استنزفت ما تبقى من قوتها في يديها.
عندما حاولت مجددًا تحريك الشظية، صرخ لوكيوس بألمٍ حاد.
“إن واصلت الصراخ هكذا فلن أستطيع نزعها.”
كانت هذه أول مرة تخرج فيها قطعة معدنية من جسد أحدهم، لكنّها اعتادت في الميتم على انتزاع شظايا الخشب من أذرع وأرجل الأطفال الصغار. وإن تركت الشظية كما هي، فسيصاب الجرح بالتهابٍ خطير وقد يتعفن ساقه.
“لكن فريا، أنا مريضٌ ينزف كثيرًا.”
“صاحب السمو، أنا لستُ طبيبة.”
“آه… أآه…”
أغلق لوكيوس عينيه بقوة وارتسمت على وجهه الحمرة وهو يئنّ من الألم.
“اشرب هذا.”
ناولته زجاجة الخمر الموضوعة على الأرض، فشربها بسرعة. ثم عادت فريا لتعبث بجرحه وتغوص بإصبعها قرب الشظية.
“فريا، برفق، أرجوكِ … يؤلمني كثيرًا.”
نفد صبرها، فهبت واقفة، ولفّت قطعة قماشٍ ودسّتها في فمه لتمنعه من إصدار صوت.
أرادت أن تُنهي الأمر بسرعة وتبتعد عنه. وما إن ساد الصمت حتى صار العمل أسهل قليلاً.
عندما نزعت الشظية التي انغرست بعمق في اللحم، ارتجّ جسده بعنف، وخرج أنينه المكتوم من بين القماش.
“آه…”
سكبت مزيدّا من الخمر على الجرح ثم لفّته بقطعة قماشٍ بيضاء بإحكام. وما إن انتهت حتى شعرت بأن قواها قد خارت تمامًا. جلست على الأرض، وأخذت تحدق بسقف الغرفة وهي تلهث.
“اللعنة …”
كانت يداها ترتجفان دون أن تتوقفا.
“فـ … فريا.”
همس بصوتٍ متعب، فتنهدت طويلاً ثم جلست من جديد.
كان يحاول أن يستند على الوسادة دون جدوى.
“الجرح في كاحلك، فلماذا لا تستطيع السيطرة على جسدك؟”
أغضبها ضعفه الذي يثير قلقها على الدوام، لكنها لم تستطع القسوة على رجلٍ مصاب.
اقتربت منه لتساعده، وحينها لاحظت أن قميصه قد تلطخ بالدماء. في انشغالها بساقه، لم تلحظ جرح كتفه من قبل.
“…لماذا دائمًا هكذا؟”
إنه ولي عهد الإمبراطورية، صاحب الجسد الأرفع منزلة بين الجميع، فلماذا لا تراه إلا مصابًا أمامها؟
كانت هي من أنقذته من الموت، وها هو من جديد، ينزف أمامها.
“فريا، يمكنكِ أن تغضبي مني إن أردتِ.”
رغم الألم، حاول أن يرسم ابتسامة باهتة على وجهه.
“لا تفعل هذا. لا تُصبْ بعد الآن هكذا.”
كان الغرور يليق بلوكيوس، وريث العرش المتكبّر. قالتها فريا بحدة وهي ترفع وسادته لتساعده على الجلوس.
“سأفحص الجرح الآن.”
لو كانت عاقلة لذهبت به إلى الطبيب بدل أن تتورّط بهذا.
لكنها حينها كانت مرتبكة واستسلمت لكلامه دون تفكير.
“… الدم ما زال ينزف.”
ما إن رأت السائل الأحمر يتسرب حتى تلاشت كل أفكارها.
فتحت قميصه الممزق هنا وهناك، فظهرت الجروح التي تركتها الخناجر وهي تخدش جلده. كان جسده مليئًا بالندوب القديمة، وها هي تضاف إليه واحدة جديدة.
التعليقات لهذا الفصل " 81"