ومع ذلك، يبدو أنها لم تُصب إصابةً خطيرة، بما أنها ما زالت قادرة على تحريك ذراعيها. لعلّ سروال الفروسية السميك المبطن لحماية الفخذين من الاحتكاك بالسرج، مع القميص والسترة والمعطف، قد شكّل طبقةً واقية خففت من الصدمة.
“هاه…”
الوقوع في حفرةٍ عميقة أعاد إليها ذكرياتٍ قديمة.
ففي الحديقة الخلفية كان هناك بئران: أحدهما يُستخدم فعلاً لجلب الماء، والآخر كان يُستعمل للعقاب.
ورغم أن رمي أحدهم في بئرٍ جاف لم يكن عقوبةً شائعة، إلا أن “فريا” كانت قد اختبرتها مرةً بنفسها.
لقد حُبستُ هناك مرةً واحدة فقط.
كانت تلك عقوبةً لأنها أحرقت فستان صوفيا المفضل أثناء كيّه.
“أن تعاقبني هكذا من أجل فستان واحد …”
لقد تجاوزت صوفيا حدود الشر في كل تصرفاتها، وحتى الآن، ما إن تتذكر تلك الحادثة حتى ينتابها الفزع.
ومع ذلك، لم تستطع منع نفسها من الابتسام بمرارة حين أدركت أن تلك التجربة جعلتها أقل ذعرًا مما يحدث الآن.
“كما قال آرتشر، حتى الأشياء الغريبة قد تنفع يومًا.”
حين حاولت فريا رفع جذعها، أفلت منها أنين.
“على الأقل لم ينكسر شيء، هذا جيد”
لكن ملابسها الجديدة المخصصة للصيد أصبحت خرابًا.
يا للأسف، كانت باهظة الثمن.
لم تكن تحب الفساتين لأنها تعيق الحركة، لكن هذا الزي كان مريحًا وجميلاً وأحبّته كثيرًا.
لاحظت أن بضعة أزرار مذهّبة من سُترتها قد اختفت، وحدّقت في سروالها الأبيض الملطخ بالسواد وحذائها الجلدي المخدوش قبل أن تهز رأسها.
يجب أن أخلع الحذاء أولاً.
التسلّق بيدين و قدمين عاريتين سيكون أسهل كلما خفّ وزنها.
فخلعت حذاءها ومعطفها وسترتها، أما القبعة فقد اختفت تمامًا. بدأت تتفحص جدران الحفرة بعناية بحثًا عن نتوءات حجرية.
يمكنني الصعود من هذا الاتجاه.
وما إن رفعت يدها وبدأت التسلق حتى تساقطت ذرات التراب تحت قدميها. لكن الأمر لم يكن سهلاً كما في طفولتها، فسقطت مرارًا.
“هذا غريب فعلاً…”
كان من المفترض أن يتم تفقد الغابة مسبقًا قبل إقامة الصيد احتفالاً بخطوبة الأمير، فكيف تُترك حفرةٌ بهذا الحجم؟
“ولا أثر لجندي واحد …”
لو علموا بسقوطها، لكانوا أنقذوها منذ وقت. لكن الأولوية الآن هي الخروج من هنا.
رغم سقوطها المتكرر، لم تيأس فريا.
“أشعر أن أظافري كلها قد تآكلت …”
ومع محاولاتها المتكررة بدأ الغروب يحلّ.
لبست ما كانت قد خلعته واحدًا تلو الآخر، وقد بدأ القلق يتسلل إلى قلبها من احتمال أن تمضي ليلتها هنا.
في الماضي، كنت أعرف ما ينتظرني غدًا.
ربما لم تكن سعيدة، لكنها عاشت ضمن نظامٍ واضح.
“أما الآن، فلا أعلم شيئًا إطلاقًا.”
أسندت ظهرها إلى أحد جوانب الحفرة، وشعرت بطعمٍ حلو مرّ في فمها. وبينما كانت تغفو قليلاً، سمعت صوتًا غريبًا.
“… ما هذا؟”
صوت معدنٍ يُسحب على الأرض جعلها تنتفض واقفة.
رفعت رأسها فرأت لوكيوس يقف فوق الحفرة.
“فريا، لمَ تجلسين هناك كالحمقاء؟”
رغم أن الموقف لم يكن يحتمل المزاح، إلا أن ملامحه لم تخلو من الهدوء. رمقته فريا بنظرة حانقة، فأنزل حبلاً إلى أسفل.
“سأربط الطرف الآخر بالشجرة وأشدّه، تمسكي به واصعدي.”
رغم غيظها منه، إلا أن الحبل كان بالضبط ما تحتاج إليه.
أمسكت به وجذبته بقوة حتى تأكدت من ثباته، ثم بدأت التسلق ببطء. كانت يداها تؤلمانها، لكنها تجاهلت الألم.
“فريا، اصبري قليلاً بعد!”
سمعت صوته يعلو وهي تقترب من الحافة. مدّت يدها بكل قوتها حتى لامست العشب أخيرًا. وما إن خرجت من الحفرة حتى ارتمت على الأرض تلهث.
“هل تستطيعين الوقوف؟”
اقترب منها لوكيوس ومد يده. كادت تمسك بها، لكن شيئًا لفت انتباهها.
“ما هذا؟”
“يبدو أن حظي كان سيئًا اليوم.”
كان الدم يغطي ساقه، وقد غُرِز خنجرٌ صغير في كاحله.
دت الجراح خطيرة.
“كان عليك استدعاء الطبيب بدل أن تأتي إليّ!”
صرخت به، ثم غطت فمها فجأة، وقد خطر لها سبب ذلك الاضطراب الغريب في الغابة.
“… هل حدث هذا مجددًا؟”
‘أن يحاول أحدهم ارتكاب جريمة في يوم خطوبة ابنه؟’
كانت الحقيقة واضحة، لكنها رفضت تصديقها.
“نعم، أمرٌ سخيف فعلاً.”
قالها لوكيوس وهو يمسح العرق المتصبب من جبينه.
لقد بدأ كل شيء حين خفتت الأصوات في الغابة فجأة.
ساد السكون كما لو أن موجةً هائلة ابتلعت المكان، ثم بدأ الحرس الذين يرافقونه يسقطون واحدًا تلو الآخر.
“آه، هكذا إذن.”
كان من المفترض أن فرسان القصر لن يشاركوا في الصيد بحجة حماية القلعة. وبينما كان يحاول الفرار من مطارديه، رأى حراس فريا مطروحين في العشب.
“اللعنة، كان عليهم أن يستهدفوني وحدي!”
صرخ بغضب، وفجأة انهالت عليه سهام من الأشجار.
رغم الموقف الخطير، ظل يقاتل بثبات، يصد السهام بسيفه. عضّ على شفتيه وأمسك بلجام حصانه بقوة. لم يحتمل فكرة أن فريا في خطر.
‘يجب أن أنقذها فورًا.’
وبينما كان يندفع عبر الغابة، ظهر أمامه ظلّ ضخم.
“ها هو إذًا.”
كان رجلاً عملاقًا يحمل فأسًا، أحد فرسان هارت الذين استأجرتهم السيدة. كانت تلك أول مرة يواجهه وجهًا لوجه بعد أن سمع عنه الكثير من الإشاعات.
‘هل سمعت لماذا لم يرَ أحد فرسان الأمير هارت قط؟ لأن من يراه لا يبقى حيًا.’
“أنا مشغول، فاختفِ من طريقي.”
لم يجبه الرجل المقنّع، بل لوّح بفأسه العملاق. فهم لوکيوس أنه لن يتمكن من الوصول إلى فريا إلا إن هزمه.
إذن مواجهةٌ مباشرة.
اندفع العملاق نحوه، فتفاداه لوكيوس بسرعة وضرب بسيفه باتجاه ركبته، لكن خصمه كان أسرع مما ظن. بدا الرجل متفاجئًا من سرعة هجومه.
“ظننتَ أنني سأرتعد خوفًا من إشاعاتٍ سخيفة؟”
وكانت الإشاعات حول لوكيوس نفسه لا تقل رعبًا — يُقال إنه يستحمّ بالدماء، وإنه يلعق نصله بعد أن يقتل خصمه.
اندفع العملاق مجددًا، فهوت فأسه بقوةٍ حطمت نصف جذع شجرة.
“هاه … هاه …”
تحيّن لوكيوس فرصة الهجوم، لكن خنجرين طارا فجأة نحوه، أحدهما أصاب كاحله والآخر كتفه.
“تسمي نفسك فارسًا، ثم تطلب المساعدة؟ يا لك من جبان.”
تزلزلت نظرات الرجل عند كلماته، فاستغل لوكيوس تلك اللحظة وطعن صدره مباشرة. حدث كل شيء في ومضة.
“أوه …”
سقط الجسد الضخم أرضًا بصوتٍ مكتوم، فاهتزت الأرض قليلاً.
سحب لوكيوس سيفه ببطء، ولم يكن النظر إلى عيونٍ تفارق الحياة أمرًا سارًّا. أطلق صفيرًا فجاء حصانه، لكنه بالكاد استطاع الركوب عليه من شدة جراحه.
“سموّك!!”
كان جيميني قد وصل مع الجنود، يصرخ بقلق.
“جيميني، نظّف المكان.”
“سموّك، دعني أرافقك!”
“لا. هذه مهمتي.”
“لكن جراحك خطيرة!”
لم يكن”جيميني من النوع الذي يقلق بسهولة، لكن ملامحه الآن كانت متوترة.
“لا تقلق، لست غريبًا عن هذا النوع من الإصابات.”
ترك جنوده خلفه وتوجّه نحو الحفرة حيث كانت فريا.
“يجب أن نعود إلى القصر بسرعة.”
“للأسف، لا أستطيع التحرك أكثر من هذا.”
لم تكن تريد البقاء معه وحدهما، لكنها لم تستطع تجاهل حالته. نظرت إلى السماء المظلمة بتردد، فقال لوكيوس: “علينا مغادرة هذا المكان أولاً.”
“حسنًا.”
كان البقاء في العراء بعد كل ما حدث تصرفًا خطرًا.
“لكن إلى أين نذهب؟”
“على مقربةٍ من هنا البحيرة التي زرناها معًا آخر مرة.”
“آه …”
لم تخفَ عنها الإشارة التي في كلماته، لكنها لم تملك خيارًا.
ساعدته على الصعود إلى الحصان وسارت به بصمت عبر الغابة، ولم يُسمع سوى أنفاسه المتألمة تختلط بأصوات الحشرات الليلية.
“لقد وصلنا.”
ساعدته على النزول، ثم دفعت بابًا مخفيًا بين الشجيرات، فظهر كوخٌ صغير بارد.
“لحظة فقط.”
أجلسته على السرير، أشعلت النار، وبدأت تبحث حولها.
“دعني أرى الجرح.”
“لا بأس، مرّ عليّ ما هو أسوأ.”
كان في تلك اللحظة يُذكّرها بـلوس، فهو أيضًا كان يحرص على إخفاء جراحه عن الجميع.
“سأصبّ قليلاً من الشراب عليه.”
سكبت الكحول على جرحه، فصدر منه أنينٌ مكتوم.
“هكذا فجأة؟!”
“أتقول إن هذا لا بأس به؟”
لم تصدق أنه تمكّن من ركوب الحصان وإنقاذها بهذا الجرح.
كان اللحم عند كاحله مشقوقًا بعمق، وشظية من النصل مغروسة فيه. لابد أن الألم كان لا يُحتمل.
‘عليّ أن أزيلها.’
لكنها لم تستطع فعل ذلك وهي صاحية. رفعت الزجاجة إلى فمها وشربت جرعة كبيرة.
“فريا، لا تشربي الخمر …”
“اخرس.”
“حـ، حسنًا.”
تعثرت كلماته وهو يحدق بالرأس الصغير المنحني فوق جرحه، يراقبها بصمت.
التعليقات لهذا الفصل " 80"