يبدو أنّها لم تُفتح منذ زمن طويل، فقد كانت متصلّبة وأصدرت أصواتًا غريبة قبل أن تُفتح أخيرًا.
حين أخرجت رأسها قليلًا، لم ترَ سوى مبنى مشابه في الحجم يقابلها عبر زقاق ضيّق، فلم يكن هناك ما يُسمّى بالمنظر.
لعلّي سأُكلَّف هنا أيضًا بأعمال التنظيف أو بإيصال الرسائل.
رفعت فريا رأسها عن الأوساخ التي تلوّث أرضيّة الزقاق المظلم وجدران المباني الكئيبة.
“هناك حمامة”
لمّا رأت الطيور، تذكّرت لوس.
ذلك الفتى الذي كان يعشق الطيور الطليقة في السماء.
“جيّد أنّه لم يأتِ معي.”
كانت تشتاق إليه، لكنها ارتاحت لعدم رؤيته هنا.
ومع ذلك، لم يعنِ هذا أنّها لم تقلق بشأنه.
فهو كان واسع المعرفة، لكنّه يجهل ما هو أهمّ.
لم يكن يعرف أنّ الفتيل إذا لم يشتعل يجب أن يُحفَر قليلًا بالسكّين، أو أنّ الخبز حين يتعفّن ينبغي تمزيق جزء منه وادّخاره كطعام للطوارئ.
‘فريا …’
لمّا تذكّرت وجهه المبتسم إليها ابتسامة باهتة، امتلأ صدرها بالانفعال.
‘أحيانًا أشعر أنّ لقائي بلوس لم يكن سوى حلم.’
مدّت يدها بعادة مألوفة نحو صدرها تتحسّس القلادة.
فوقعت يدها على هلال يرمز إلى ديانا، وسرعان ما تلاشى قلقها.
***
المكان الجديد لم يكن دار أيتام بلا شك.
فالناس هنا ينامون حتى وقت متأخر، ولا يجتمعون كلّ صباح لتناول الطعام.
يعيشون معًا، لكن دون أيّ تواصل.
وكانت فريا فضوليّة تجاه هؤلاء الذين يقطنون معها.
‘ترى ماذا يعمل هؤلاء الناس؟’
كبر فضولها يومًا بعد يوم.
رأت من يقوم بأعمال التنظيف أو ببعض الأشغال، لكن لم يخرج أحد للتسوّل أو الحياكة.
وكانت فريا قد أدركت منذ زمن أنّ الخبز الذي تأكله لا يأتي مجّانًا.
‘فما الذي يفعله هؤلاء ليكسبوا المال؟’
والأغرب أنّها منذ جاءت إلى هنا، لم تُكلَّف هي أيضًا بأيّ عمل.
‘هذا غريب حقًّا.’
وبينما كانت تفكّر هكذا، ظهر شايلو أمامها.
خلع معطفه الطويل، وأعطى عصاه لشخص ما.
كان شعره أقلّ كثافة مما مضى، لكنه كان يرتدي ثيابًا تبدو باهظة.
“اللورد بايل. لقد وصلت.”
تذكّرت فريا أنّها سمعت ذات مرّة أنّ شايلو يتمنّى أن يترك مهنة التجارة ليصبح نبيلًا.
فقد قيل إنّه يمكن شراء لقب النبلاء بالمال.
“مرّ وقت طويل.”
“مرحبًا.”
انحنت فريا قليلًا وهي ترتدي فستانًا قصيرًا بدا عليها غريبًا.
لم تكن سعيدة برؤية مدير دار الأيتام بعد زمن.
نظر الرجل إليها بعينين حادّتين تفحصان هيئتها.
ورغم كلامه اللطيف، لم يكن في وجهه أثر للمودّة.
حرّكت شفتيها عدّة مرّات، ثم تمكّنت بالكاد من قول اسمها: “أنا فـ … فريا”
“أيّ تحيّة هذه لأبيك؟ اقتربي يا صغيرة.”
لم تنادِه فريا يومًا “أبي” مثل بقيّة الأيتام.
في البداية لم تعتد ذلك، ثم بعد ذلك لم تكن ترغب أصلًا.
الرجل ذو العينين الشبيهة بعيون الأسماك الفاسدة أعاد تفحّص جسدها المرتجف خوفًا.
“صوفيا أحسنت تربيتكِ. لقد صرتِ فتاة ناضجة بعض الشيء. أليس كذلك؟”
كان يتصرّف وكأنّه أب حقيقي، ممّا جعل فريا تشعر بالقرف، فحبست ملامح اشمئزازها بصعوبة.
‘لم تُطعِمْنا سوى العصيدة الشاحبة وأرهقتنا بالعمل، وأنت تقول أحسنت تربيتي؟’
كاد صدرها ينفجر من الغضب حين سمعته يمدح صوفيا.
“كم عمرك الآن؟”
“لقد بلغت الخامسة عشرة.”
“جيّد جدًّا. هذا رائع حقًّا.”
لم تفهم ما الذي يجعله “جيّدًا” ، ورغم أنّه بدا وكأنّه يمدحها، إلّا أنّها لم تشعر بأيّ سرور.
كلّ ما أرادته هو أن تبتعد عن هذا الرجل.
ثمّ قال المدير كلامًا مضحكًا: “ألم تشتاقي إلى أبيك؟ ها؟”
لم تعتبره فريا يومًا أبًا، فكيف تشتاق إليه؟
ولمّا لم تجب، ابتسم متصنّعًا وتابع: “كما تعلمين، من الواجب ردّ الجميل لمن ربّاك. وأنتِ بالفعل تؤدّين ذلك جيّدًا.”
أومأت فريا برأسها.
“سأحسن التصرف.”
فإن طُردت من هنا، لن تجد سوى الشارع.
وتخيّلت أنّ حياتها ستكون أشدّ قسوة، فشعرت بقوّة جديدة.
قبضت يدها بإحكام، فهزّ الرجل رأسه راضيًا.
“نعم، أرى أنّكِ قادرة على ذلك.”
داعب شايلو لحيته بارتياح.
“لقد تعبتِ كثيرًا حتى الآن. لكن هنا، لن تضطرّي إلى مثل تلك الأشغال الشاقّة. ستعيشين كفتاة حقيقيّة. بل قد أرسلك لاحقًا لتعلّم الطهو أو الرقص”
‘فتاة حقيقيّة…؟’
تذكّرت فريا الفتيات اللواتي كانت تراهنّ في الشارع أحيانًا،
يرتدين أثوابًا مزيّنة بالدانتيل، ويبتسمن بتصنّع.
كنّ ينزلن من العربات ، بأيديهنّ قفّازات بيضاء وعلى رؤوسهنّ قبّعات فاخرة مزيّنة.
‘هل يُعقل أن أصير مثل هؤلاء وأنا التي كنت أستجدي الناس؟’
لم تصدّق كلمة ممّا قال. ولم تتمنَّ أبدًا ثيابًا جميلة.
‘لماذا يقول أشياء غريبة كهذه؟’
كانت معتادة على التنظيف والطهو وغسل الصحون ومساعدة الفتيات في التزيّن.
وكان كلّ ما تأمله أن تُكلَّف بمثل هذه الأعمال التي تجيدها.
“دعيني أرى … هـم”
تفحّص شايلو فريا من رأسها إلى قدميها كما لو كان يقيّم سلعة.
ثمّ رفع شعرها الكثيف عن جبينها فجأة وصرخ: “اللعنة! ما هذا؟”
كان هناك ندبة لا تُمحى على جبينها.
وفجأة تغيّر وجهه، فركل الطاولة بقدمه ورمى الكرسي.
“عاجزة حتى عن الاعتناء ببضاعة كهذه، و تجرؤ على طلب المال؟”
كان يشتم على الأرجح صوفيا.
شدّت فريا قبضتها وهي تنتظر أن يحين دورها.
عاد شايلو يكشف جبينها وهو يصرخ.
‘الآن سيتحوّل قبضته إليّ.’
ضغطت فريا على أسنانها خوفًا، فيما كان شايلو يصرخ مجددًا: “لماذا هذا العيب فيك؟”
“آسفة. لم أكن أهتم بنفسي جيّدًا.”
“أنتِ لا تدركين كم هو خسارة عظيمة. ولن تدركي ذلك أبدًا”
ظلّ يصرخ ويهيج حتى جلس على الأرض، ثمّ جذب جسدها إليه، فمالت ضعيفة. لم تفهم شيئًا ممّا كان يقوله.
‘ليت أحدًا ينقذني.’
التفتت مرتجفة إلى المارّين، لكن لم يحرّك أحد ساكنًا.
“…اللعنة.”
أطرق شايلو رأسه بخيبة كبيرة.
كان شكله مرعبًا حتى أنّ فريا لم تعرف ماذا تفعل.
“فريا. لو خيّرتِ، هل تشترين تفاحة معطوبة أم سليمة بلا عيب؟”
لم تفهم مغزى كلامه فجأة عن التفاح.
لم تشترِ شيئًا من قبل، لكنّها أيقنت أنّ الإجابة قد تجلب غضبه، فآثرت الصمت.
تنفّس شايلو بعمق وأكمل: “أنا لا أخسر في التجارة أبدًا.”
رغم أنّها لم تفهم شيئًا، ظلّت تهزّ رأسها بالموافقة.
كان أمرًا غريبًا.
لماذا لم يضربني؟
كانت متأكّدة أنّه سيُبرحها ضربًا، لكنّه لم يفعل، فزاد قلقها.
ربّما لو ضربني لكان أسهل…
تكورت على سريرها، عاجزة عن النوم، زافرة بحزن.
الجلوس هكذا بدا أشدّ إيلامًا من تلقّي العقاب.
“لم يمضِ سوى أيّام قليلة، لكنّي أشعر كأنّي عشت هنا سنوات.”
أرهقها المكان، جسدًا وروحًا.
تذكّرت أنّها، رغم صعوبة التسوّل، كانت أكثر راحة من الآن.
وبينما تقلّبت على الفراش، سمعت بابًا يُفتح.
خشيت أن يكون شايلو، فأغمضت عينيها وتظاهرت بالنوم.
“فريا. هل أنتِ نائمة؟”
إنّه صوت لوتي.
اقتربت بحذر وجلست قرب السرير.
أرادت فريا أن تحدّثها، لكنها شعرت بالحرج، فاكتفت بالاستلقاء مستديرة بظهرها.
“فريا. يجب أن تُصغي جيّدًا لما سأقوله.”
كان صوت لوتي همسًا غامضًا، وما روته بعدها كان صادمًا.
“هل تفهمين؟ فريا. هذا المكان غريب جدًّا”
فزعت فريا، فقالت لوتي إنّ دار الأيتام كان أفضل من هنا.
“ليس أفضل من دار الأيتام؟ أهذا ممكن؟”
“هناك على الأقل كنّا نخرج أحيانًا. أمّا هنا … فالأفضل ألّا تدخلي هذا المكان أصلًا. صدّقيني يا فريا”
أومأت لوتي بوجه موقن.
كانت صغيرة لا تعرف الكثير سوى الأعمال البسيطة، لكنّها أيقنت أنّ هذا المكان لا يصلح للعيش.
ذكّرها كلامها بما كانت تشعر به منذ قدومها، وبالأخص حين تذكّرت كلمات المدير الغريبة.
‘بالفعل، لم يكن بعقله السليم.’
ثم اتسعت عيناها أكثر عند سماعها تتمّة كلام لوتي: “لذا يا فريا، يجب أن نهرب من هنا.”
كانت لوتي تتذكّر حديثًا بين شايلو ورجال آخرين:
‘كيف حال الزراعة هذه الأيام؟’
‘ليست سيّئة.’
‘يبدو أنّ وقت الحصاد قد حان.’
كان شايلو يلمس وجنتيه الدهنتين ضاحكًا.
لم تفهم لوتي كلّ شيء، لكنها كانت تعلم أنّ هذه الأحاديث تسبق دائمًا أحداثًا سيّئة.
فخرجت من الغرفة بقلق وهي تنظّف.
‘لقد حمتني فريا من قبل، والآن جاء دوري لأحميها.’
انعكست عزيمة قوية في عيني لوتي وهي تمشي في الممر.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 8"