من الخارج، كان صالون استقبال كونت بيرول يبدو فخمًا وواسعًا، وكأنه يخصّ عائلة ثرية.
جلس شايلو يغوص بجسده في الأريكة، زافرًا دخان سيجارته الطويل في الهواء.
كانت ورق الجدران قديمةً وممزقةً في بعض المواضع، واللوحات المعلّقة تُظهر وجوهًا غريبة لا يعرفها أحد.
“همم … إذًا، الأمور وصلت إلى هذا الحدّ.”
قال شايلو بتفكيرٍ عميق، فردّت صوفيا وهي تُلقي رأسها على ركبتيه وهمست: “شايلو، لا يسعني إلّا أن أُعجب بك حقًّا.”
مرّ قرابة عشرين عامًا منذ أن تعارفا.
كانت صوفيا حين بلغت سنّ الرشد شابّةً جميلةً مفعمة بالحيوية.
أنقذها شايلو ذات مرة حين خسرت كلّ أموالها في القمار ووقعت في ورطةٍ خطيرة.
‘مهما كان الأمر، فقط أَمُرني وسأنفّذ.’
لم يكن لصوفيا عائلة تبحث عنها، فسارت خلفه وأصبحت عشيقته.
لكن عندما ذبلت نضارتها، خمد حبّه سريعًا.
‘يكفيني أن أكون قربك، ولو لم يكن حبًّا.’
تعلّقت به صوفيا حتى انتهى بها المطاف مديرةً لدار الأيتام.
كان شايلو في الظاهر تاجرًا عاديًّا، لكنّه في الحقيقة رجلٌ خطر، لا يتوانى عن الانخراط في أكثر الأعمال ظلمةً إن كانت تدرّ عليه المال.
وخلال كلّ تلك السنوات قربه، لم تُفصح له صوفيا عن سرّها يومًا.
‘إنّه الورقة الأخيرة، التي لا تُكشف إلّا في اللحظة الحرجة.’
حين تركته لفترة ثم فشلت في كلّ ما حاولت فعله، لم تجد بدًّا من العودة إليه.
غير أنّ وضع شايلو نفسه لم يكن جيّدًا أيضًا.
فشراء لقب النبالة لم يكن كافيًا لتلميع سمعته.
كان المال يتبخّر بلا نهاية، ثمّ جاء خبر غرق سفينته المحمّلة بالبضائع في عاصفةٍ هوجاء.
‘لو ساعدته الآن، فلن يُبعدني عنه ما حييت.’
لذا كشفت له عن عملٍ سريّ قامت به لصالح الإمبراطورة.
وحين سمعها، عرض عليها شايلو خيارين.
‘كلاهما محفوفٌ بالمخاطر، لكن الربح فيهما عظيم.’
قالت صوفيا إنها ستقابل الإمبراطورة أولًا، فحذّرها قائلًا إن عليها التأكد من كون الإمبراطورة صديقةً لها أم عدوّة.
“صدق أو لا تصدق، الإمبراطورة أرسلت قاتلًا إلى ذلك البيت.”
لم يأتِها إلى العنوان الذي تركته في القصر عربةٌ محمّلةٌ بالذهب كما ظنّت، بل رجلٌ ضخم الجثة.
أُصيبَت عيناها بالاحمرار من الغيظ، فكيف تُكافأ بعد كلّ ما فعلته لأجلها، بمحاولة إسكاتها فحسب؟
“حسنًا، من كان في ذلك البيت؟”
كانت تعرف أنهم لن يتأكدوا من جثتها شخصيًّا، لذا وضعت بديلةً عنها هناك.
لقد كانت تُربي طفلةً تُشبهها تحسّبًا ليومٍ كهذا.
“يبدو أنكِ أذكى ممّا تبدين.”
ابتسمت له صوفيا ببهجةٍ وهي ترفع رأسها.
“والآن، هل حان دور سموّ وليّ العهد؟”
“هو في موقفٍ لا يسمح له بالرفض.”
كان شايلو يعتزم الحصول على قصرٍ أو مقاطعةٍ ضخمة مكافأةً له.
“وطبعًا، هذا مجرّد البداية. لقد ربّينا تلك الصغيرة بعناية، ومن الطبيعي أن نحصل على ثمن تعبنا.”
“بالطبع، فنحن تقريبًا والديها الحقيقيّان.”
مدّت صوفيا يدها تتحسّس يد الرجل، فأطفأ سيجارته ببطء.
وبينما تخيّل كم المال ستحمله له هذه المرأة، شعر بدفءٍ من العاطفة القديمة يعود إليه.
“الكونتيسة بيرول.”
“آه، كفّ عن مناداتي بذلك، إنك تمزح معي!”
كان الصالون خاليًا من أيّ خدم، لكن نظراتهما المشتعلة ملأت المكان حرارة.
***
تعافى لوكيوس بسرعةٍ بفضل علاج هيرو.
كان يرغب في التحدّث مع فريا بهدوء، لكن الوقت لم يسمح بذلك، إذ كان عليهم حضور حفل الصيد الذي أُقيم بمناسبة خطوبة هارت مورسياني وسيلينا إديليون.
“حقًّا، أمرٌ يثير الغيظ.”
قال هيرو وهو يقف بجانبه يُساعده في ارتداء ملابس الصيد.
كان من المهين أن يكون حفل خطوبةٍ كهذا أكثر فخامةً من مراسم وليّ العهد نفسه.
“الأدهى من ذلك أنّ أحدًا من النبلاء لم يعترض.”
“هيرو، معظمهم لا يبالون من سيكون الإمبراطور في النهاية.”
فأولئك سيقسمون الولاء لمن يعتلي العرش فحسب.
انعكست في عيني لوكيوس النحيلتين نظرةٌ باردة وحادّة.
“ما علينا إلّا التركيز على العدو.”
“لكن …”
تردّد هيرو وهو يفكّر في المزاج الكئيب الذي خيّم مؤخرًا على لوكيوس وفريا.
“ألم يكن يفترض أنك أعظم ساحرٍ في العالم؟ ما الذي يُقلقك إذًا؟”
“إنّها الآنسة دوبوا.”
تردّد هيرو للحظة يفكر في أن يبوح بأنّه ساعدها ذات مرّة لإنقاذ صديقتها.
لكنّه قرّر ألّا يذكر الأمر. ثم قال بعد صمتٍ قصير: “المهلة شارفت على الانتهاء، فماذا تنوي بعد ذلك؟”
ما زال يؤمن بأنّ اتحاد لوكيوس وسيلينا هو الخيار الأفضل.
فالوقت لم يكن مناسبًا للمشاعر، بل للسياسة.
‘سموّه هو الوريث الشرعيّ والأمل الأخير للإمبراطورية.’
أما الإمبراطور العاجز، فقد غرق في ترفه، تاركًا شعبه يموت جوعًا.
‘ربّما جلالته لا يدري بما يفعل نبلاؤه …’
لأنّ الأوامر تُنفّذ عبرهم.
كان هيرو يؤمن بأنّ لوكيوس سيُنهي هذا الظلم حين يعتلي العرش.
فهو لم يكن عطوفًا، لكنه كان عادلًا.
‘ولذلك نحن بحاجةٍ إلى دعم كونت إديليون أكثر من أيّ وقت.’
فهو مفتاحٌ لتعزيز السلطة بسرعةٍ وسهولة.
“هيرو، لنؤجل هذا الحديث إلى وقتٍ لاحق.”
لم يكن يحتمل التفكير بفريا أكثر.
لم يفهم متى وكيف تشابكت مشاعره على هذا النحو.
لم يعرف الحبّ من قبل، ولا سمع به كثيرًا.
‘كلّما نظرتُ إليها، تتبدّد أفكاري جميعها.’
كانت مشاعر لا يحتاجها الآن.
‘على الأقل، من أجل الإمبراطورية … ومن أجل والدتي الراحلة.’
تماسك لوكيوس وهو يرتدي سترته الرمادية الخاصة بالصيد، فيما ألقى هيرو عليه تعويذة حماية.
“لن يفلح أيّ سمٍّ في إصابتك هذه المرّة.”
لكنّ الحماية المطلقة لا وجود لها.
قال هيرو بجدٍّ: “إن شعرتَ بخطرٍ، فالانسحاب هو الخيار الأمثل يا سموّ الأمير.”
“هيرو، لن أُصاب أو أموت قبل إنهاء هذا كلّه.”
لقد واجه الموت أكثر من مرّة بالفعل.
***
أُقيم حفل إعلان خطوبة سيلينا وهارت في الهواء الطلق، وتوالت كلمات التهنئة والدعاء بسعادتهم.
“احتفالًا بخطوبة سموّ الأمير وابنتي، أطلقتُ مئة ثعلبٍ في الغابة. أتمنى أن تكون مطاردتكم ممتعة!”
قال الكونت إديليون وقد ازداد وزنه، محاولًا التفاخر بثروته أمام النبلاء.
كان معظم الحاضرين متحمسين، يتباهون بملابس الصيد الفاخرة.
لكنّ العروسين نفسيهما كان لهما شأنٌ آخر.
“سموّ الأمير، ألا يجدر بك الابتسام قليلًا؟”
سألته سيلينا، لكن ملامحه الكئيبة بدت كمن يحضر جنازة.
ابتسم بسخرية وقال: “يبدو أنكِ على الأقلّ في مزاجٍ جيد.”
عضّت سيلينا شفتيها بعنف.
‘أتظنّ أنني سعيدة بهذه الخطوبة؟’
وحين وقعت عيناها على لوكيوس والسيدة دوبوا في الجهة المقابلة، شعرت بالغليان.
بدأت تشكّ بأنها ارتكبت خطأً فادحًا، لكن الوقت فات للتراجع.
“نحن لسنا أحرارًا لنفعل ما نريد يا سموّ الأمير.”
قالت ببرودٍ وهي تحاول كبح انفعالها.
“كما تعلمين يا آنسة إديليون، لا أطيق هذه المظاهر الزائفة.”
“لكن عليك أداء واجبكَ، يا سموّ الأمير.”
“وهذا تحديدًا ما أكرهه.”
ألقى نظرةً خاطفة على والدته التي كانت تضحك في المقعد الأمامي، ثمّ شدّ لجام حصانه بعنف.
“إلى أين تذهب، يا سموّ الأمير؟”
“أظنّ أنّني أدّيتُ دوري في هذا المسرح السخيف.”
لقد سئم من دور الدمية بلا إرادة.
ولولا تهديد والدته بإيذاء نفسها، لما حضر أصلًا.
“سموّ الأمير! انتظرني!”
لم تحتمل سيلينا فكرة أن تُترك وحيدة أمام الجميع، فلحقت به بسرعة.
***
وفي ركنٍ آخر من ساحة الصيد، خيّم جوٌّ بارد.
كان لوكيوس يرتدي سروالًا أسود وقميصًا أبيض وسترةً بنية، يملؤه التوتر.
خلال الحفل بأكمله، لم تلتفت إليه فريا ولو مرةً واحدة.
انحنى قليلًا وهمس إليها سريعًا: “فريا، في تلك الليلة … أعلم أنني أخفتكِ كثيرًا.”
“لا بأس.”
لم يكن اهتمامه بالحفل أو الخطوبة، بل بتلك المرأة التي تقف بجانبه بوجهٍ خالٍ من أيّ دفء.
كان يعلم أن إظهار مشاعره خطير، لكنه لم يعُد يحتمل الصبر.
“سموّ الأمير، يبدو أنّ الصيد سيبدأ قريبًا.”
“فريا … أرجوك.”
لكنها لم تلتفت إليه حتى النهاية.
لم يكن يعنيها الصيد ولا التقليد السخيف المرافق له، لكن لوكيوس لم يكن رجلاً عاديًّا، وكان عليه أن يتصرّف وفق مكانته.
بمجرّد أن دوّى صوت البوق معلنًا بدء الصيد، انطلقت الحمائم في السماء.
تقاليد الحفل كانت تنصّ على أنّ من يصيد أكثر عددٍ من الثعالب سينال بركةً وسعادةً في زواجه.
ركب الجميع خيولهم وانطلقوا بحماسة.
تنفّست فريا بعمق، ثم حرّكت حصانها ببطء.
ما زالت تكره ركوب الخيل، بل وحتى رؤيته.
‘سينتهي هذا قريبًا على أية حال.’
كانت تظنّ أنها تجاوزت مشاعرها.
‘لكن ما إن أقف قربه، حتى ينهار كلّ شيء.’
ذلك الشعر الذهبيّ اللامع كأشعة الشمس، وتلك العينان الزرقاوان اللتان كانتا تبحران فيها برقةٍ قاتلة…
تجاهلت وجوده إلى جوارها، ثمّ انطلقت بحصانها بسرعةٍ أكبر.
‘لا يهمّ صيد الثعالب أو أيّ شيءٍ آخر.’
كلّ ما أرادته هو أن تختفي بعيدًا، في مكانٍ لا يراها فيه أحد.
التعليقات لهذا الفصل " 78"