تأملت عينان صفراوان لامعتان المجوهرات والملابس التي يرتديها هيرو، ثم فُتح الباب له على الفور.
انحنى الرجل بخضوع أمامه قائلًا: “سيدي، شكرًا لقدومك.”
قال هيرو وهو يتبختر نحو الطاولة العريضة في الطابق السفلي: “ما أغلى مشروب عندكم هنا؟”
اختفى الرجل الضخم لبعض الوقت بعد أن طلب منه هيرو ذلك.
كان المكان أسوأ مما كانت فريا تتذكره؛ رائحة الخمر والعطور والدخان المتعفن تملأ الجدران، تفوح منها نتانة خانقة.
كانت الفئران تركض تحت الأقدام، ونساء شبه عاريات يجلسن على الأرض ويدخنّ في سباتٍ مملوء باليأس.
قال هيرو بصوت منخفض: “فريا، لا تنظري حولك كثيرًا، قد يثير ذلك الشكوك.”
استعادت فريا رباطة جأشها، فاعتدلت واقفةً رغم التوتر الذي بلّل راحتي يديها عرقًا.
عاد صاحب الحانة يحمل صينية الخمر وقال بخضوع: “ها هي، سيدي، الشراب الفاخر كما طلبت.”
قال هيرو وهو يضع بعض القطع الذهبية على الطاولة: “سمعت أن في هذا المكان عروضًا مثيرة ومسلّية، أليس كذلك؟”
تهلّل وجه صاحب المكان ابتهاجًا بالذهب وقال: “بالطبع يا سيدي، نحن الأفضل في هذا الحي، لدينا فتيات بارعات في الغناء والرقص.”
أشار بإصبعه إلى إحدى النساء، فاقتربت فتاة ترتدي فستانًا أخضر مزينًا بالريش وبدأت ترقص وتغني.
وفجأة، وقعت عينا فريا على وجه مألوف وسط طبقات المساحيق الكثيفة. كانت “لوتي” ترتدي فستانًا أخضرًا كاشفًا وتتحرك بجمود، بلا حياة في عينيها.
‘لوتي …!’
كادت فريا أن تهرع نحوها لتعانقها، لكن ارتجاف جسدها جعل هيرو يشدّ على كمها بهدوء.
قال بخفوت: “ذات الفستان الأخضر …”
ثم رفع صوته يخاطب صاحب الحانة: “كفى عرضًا الآن، أريد بعض الرفقة، الجلوس وحدي يجعل الشراب مرًّا.”
ابتسم الرجل بوقاحة وهو يلمّح إلى المال: “الممثلات عندنا مشغولات كلّهن، يا سيدي…”
فأسكت هيرو كلامه بوضع كيسٍ ثقيل من الذهب على الطاولة.
تغيّر وجه الرجل فورًا وسأل بتودّد: “من ترغب، يا سيدي؟”
“الفتاة ذات الفستان الأخضر.”
صرخ الرجل: “لوتي! لوتي! ابقي أنتِ فقط، والبقية إلى الداخل!”
اقتربت لوتي وجلست على الطاولة، تناولت الكأس وشرعت تشرب مباشرةً.
ارتجفت شفتا فريا وهي تضع يدها على فمها كي تكتم شهقتها. لم تمضِ سنة بعد، لكن لوتي تغيّرت كليًّا.
قال هيرو بهدوء: “نريد بعض الهدوء الآن.”
اختفى صاحب المكان، فاستطاعت فريا أخيرًا أن تهمس: “لوتي، لوتي…”
لم تجب.
“إنها أنا يا لوتي.”
عندها فقط، تلألأت في عيني لوتي الباهتتين بضع شرارات من الوعي.
“فـ … فريا؟ لا … لا يجب أن تكوني هنا!”
ارتجفت وهي تهمس بخوف.
قال هيرو: “فريا، خذيها معكِ، اخرجي الآن، سأهتم بالباقي.”
“أرجوك، أعتني بالأمر.”
أمسكت فريا بيد لوتي وسارت بها في الممر، بينما رفع هيرو يده فوق الطاولة يتمتم بتعاويذ سحرية.
وفجأة اشتعلت النيران في الخشب، ودوّى صراخ: “حريق!”
اختلط الناس وهم يركضون هربًا، مما أتاح لفريا و لوتي الهرب بدون شكوك.
قالت لوتي وهي تلهث: “فريا … حقًا أنتِ؟”
“نعم، ألم أقل إنني سأعود لأخذك؟”
ارتجفت شفتا لوتي وقالت والدموع تترقرق في عينيها: “يا غبية … تلك وعود لا يُفترض أن تتحقّق. لا أحد كان سيلومكِ لو لم تعودي.”
كادت فريا أن تبكي، لكنها تماسكت وقالت وهي تمسك بكتفي لوتي: “اسمعيني جيدًا. لا يمكنني الخروج معكِ الآن، لكن في الخارج ينتظرك رجل اسمه آرتشر، سيوصلك إلى مكان آمن.”
“آرتشر؟”
“نعم، رجل ضخم ساعدني كثيرًا، يمكنكِ الوثوق به.”
لم يكن هناك وقتٌ لتبادل القصص أو البكاء، فالنجاة كانت أولوية.
كانت لوتي تسعل، وجهها شاحب وجسدها نحيل. أمسكت فريا يدها الخشنة وشعرت بغصّة في صدرها.
“عليك أن تستعيدي صحتكِ أولًا، مفهوم؟”
“نعم … أختي.”
اقتربتا من المطبخ حيث يوجد الباب الخلفي، لكنّ رجلًا ضخمًا اعترض طريقهما.
“من أنتِ لتأخذي الفتاة؟!”
أجلست فريا لوتي جانبًا، وأمسكت خنجرها بإحكام. لم يكن أمامها سوى محاولة واحدة. لو فشلت، ستموت.
قال الرجل بعد أن قبض يده: “تبدين مشبوهة، ها؟”
تقدّم نحوها بتهديد، فاستعادت فريا ما علّمها إياه جيميني عن طريقة إسقاط الوحوش الكبيرة: اضرب نقطة الضعف.
قالت بثقة: “ليس لدينا وقت، انصرف!”
ثم وثبت بجانب الجدار وركلته لتأخذ زخمًا، وغرزت خنجرها.
لم يدرك الرجل ما حدث حتى سقط أرضًا.
“لوتي، هيا بنا!”
سألتها لوتي بخوف: “فريا … هل قتلته؟”
“لا، فقط جُرح قليلًا، سيستفيق قريبًا.”
تجاوزتا جسده بسرعة، وما إن خرجتا من الباب الخلفي حتى كان آرتشر في انتظارهما.
احتضن لوتي بسرعة وقال لفريا: “اذهبي إلى هيرو الآن.”
“أعتمد عليك، آرتشر.”
“لا تقلقي.”
بدت لوتي صغيرة جدًا في ذراعيه، فتشبثت فريا بدموعها وهي تتذكر الطفلة التي كانت تطلب منها أن تحملها عندما كانت تؤلمها قدماها.
مسحت دموعها وقالت بصوت ثابت: “اذهبوا فورًا.”
حاولت لوتي قول شيء، لكن العربة كانت قد وصلت، فصعدت مع آرتشر وغادرا.
وخلفها، سمعت فريا صوت هيرو يقول بابتسامة هادئة: “إذن، لننصرف نحن أيضًا.”
نظرت إليه فريا وقالت: “هيرو…”
“لا تقلقي، لم يكن حريقًا حقيقيًا، لكنه يبدو كذلك في أعينهم. أما المال، فاستعرته مؤقتًا من خزائن القصر، فمرتّب ساحر البلاط لا يكفي لذلك.”
صعد الاثنان إلى العربة وغادرا المكان. جلست فريا منهكة، تخلع قبعتها بينما العرق يتصبب منها.
قال هيرو وهو يلاحظ الخنجر الملطخ بالدم: “استخدمتِ السلاح إذن.”
أجابت بصوت منخفض وهي تمسح نصل الخنجر: “كنت أرجو ألا أضطر لذلك.”
قال بلطف: “ما دمتِ بخير، فذلك يكفيني.”
أومأت برأسها صامتة، تحدّق عبر النافذة بعينين حمراوين من أثر الدموع.
***
وفي مكانٍ آخر، كان لوكيوس عائدًا من أطراف الإمبراطورية مع جيشه. اخترق الغبار الكثيف وصاح جيميني: “سموك، الخيول مرهقة، نحتاج إلى استراحة قصيرة.”
أومأ لوكيوس موافقًا، يائسًا من إرهاق رجاله.
“سنستريح ساعة واحدة هنا.”
كان يتوق إلى العودة إلى القصر، فقد أوكل أمر فريا إلى هيرو و آرتشر، لكنه لم يكن مطمئنًا.
‘قريبًا، فريا … قريبًا سأُنهي كل هذا.’
كانت مهمته في الحدود مجرد ذريعة. أراد الابتعاد عن القصر ليتحرّك بحرية.
فقد حصل أخيرًا على الوثائق التي تثبت شكوكه القديمة: أنّ ميلادي، الإمبراطورة، لم تنل دعم النبلاء بطرقٍ شريفة.
‘كل من عصى أوامرها، قُتل.’
كان السحر الأسود سلاحها، والممالك التي سقطت بسببها لا تُحصى. كل ثرواتهم كانت تُستخدم لتزيينها وإطعام غرورها.
‘الآن لا أحد يجرؤ على ذكر اسمها حتى.’
أصبح الرأي العام يميل إلى جانبها، بينما بقي لوكيوس محاطًا بالفقراء والضعفاء وحدهم.
‘ذلك الكونت إديليون عديم الفائدة …’
تذكّر كيف خان هو وسيلينا عهدهما معه في ليلةٍ واحدة.
‘إذًا، عليّ أن أركّز على الشمال.’
كانت قوة الإمبراطورية متركزة هناك، في بيت ديبيرتو العظيم، رغم ضعف نفوذهم الأخير.
لم يكن السيد ديبيرتو يهتم بالعرش بعد الحادثة التي غيّرته، لكن لوكيوس لم يتوقف عن إرسال رسائل الإخلاص إليه.
‘لو أصبح ديبيرتو في صفي … فالنصر مضمون.’
كان جيشه مستعدًا، وقد درّبهم سرًّا تحت غطاء حملةٍ ضد الغزاة. باع أراضيه الجنوبية التي ورثها من والدته لتمويل ذلك.
التعليقات لهذا الفصل " 75"