“هي من أيقظت فيّ الموهبة المذهلة التي أملكها، رغم أنّي كنت شبه يتيم.”
عند حديثه هذا، أومأت فريا ببطء. فقد كان كلامه يعكس وجه شبه بينهما؛ لم يملكا شيئًا، وتُركا من الجميع.
“ربّما لهذا السبب أعجبتُ بكِ منذ البداية. هنا، لا يعترفون كثيرًا بنبلاء منطقة ديلموند.”
كلماته أعادت إلى ذهنها تلك النظرات الكثيرة التي كانت تحدّق بها كما لو كانت حيوانًا نادرًا. تابع مايكل، وقد لاحظ الغمّ يخيّم على وجهها.
“أقول هذا حقًا لأجلكِ، عليكِ أن تغادري جانب وليّ العهد بأسرع وقت. إنّه رجل ماكر للغاية، وسيلحق بكِ الأذى لا محالة.”
“… لكن.”
صحيح أنّ لوكيوس جرحها بخداعه، واستغلّها بالفعل، لكن فكرة أنّه قد يؤذيها كانت عسيرة التصديق.
“أنتِ لا تعلمين كمّ الدماء التي لطّخ بها يديه ليحافظ على عرش ولاية العهد.”
روى لها أنّه، في الأيام التي يجنّ فيها، يقتل عشرات، بل مئات من الجنود. وأنّ سهول الحدود امتلأت بجثث رفاقه الذين أبادهم بسيفه.
“أحيانًا يختفي بمفرده، ثمّ يعود في تلك الأيام. بل سمعتُ أنّه حاول يومًا أن يُهين جلالة الإمبراطورة. ذُعرَت حينها بشدّة وأسقطت شمعة، فأحرقت غرفتها.”
كان ذلك هو الحادث الذي ذكره لوكيوس لها من قبل.
‘لكنّه قال إنّ أحدهم حاول قتله يومها …’
“لو لم يكن مذنبًا، فلماذا ابتعد عن القصر تلك المدّة الطويلة؟”
“لأنّ حياته كانت في خطر.”
“مستحيل. فالمعلّم العظيم هيرو، والسيد جيميني الذي أصبح قائد في سنّ الرشد، كانا يحميانه عن كثب.”
كان من الصعب تصديق ذلك كلّه، ومع ذلك لم تستطع أن تسدّ أذنيها عن هذا الحديث الغريب.
***
ليلٌ حالك في أقبية القصر الإمبراطوري—
كان رجلٌ ذو شعرٍ فضّي يقلب صفحات كتابٍ سحري، حين ظهر أحدهم عند الدرج.
شخص يرتدي عباءة قرمزية أخذ يتجوّل قرب مايكل، ثمّ خدش بطرف أظفاره الطويلة الحمراء حافة الطاولة مُصدرًا صوتًا غريبًا. رمق مايكل الزائر بنظرةٍ سريعة ثم أغلق الكتاب.
“جئتِ إذًا.”
وحين ضمّ يديه باحترام، أزاحت القادمة قبعة عباءتها إلى الخلف، فكشف الضوء الخافت عن ملامح ميلادي الباهرة.
طعنت ميلادي بذراعها مايكل بطرف ظفرها وقالت: “مايكل ، متى سيموت الإمبراطور بحقّ؟”
“لو مات الآن، سيكون الأمر مزعجًا.”
قهقهت ميلادي وهي تميل برأسها إلى الخلف.
“صحيح.”
كان لا بدّ أن يموت لوكيوس أولًا، ثمّ بعده الإمبراطور.
لحظةٌ انتظرتها طويلًا حتى إنّها باتت تستعجلها أحيانًا. ألقت الإمبراطورة عباءتها القرمزية على الأرض.
“لو مات الإمبراطور سريعًا، لاستطعتُ عندها أن أدعوك إلى مخدعي دون تردّد …”
“جلالتكِ، ذلك اليوم قادمٌ قريبًا.”
ابتسم مايكل بخفوت عند قولها. لم يكن يحمل تجاهها أيّ شعورٍ شخصي؛ كانت ابنة المرأة الغجرية التي ربّته. تلك الغجرية ماتت، وأوصت بأن يعتني بميلادي. وكان عليه أن يردّ الجميل ولو على حساب حياته.
“جيّد. وكيف تسير أمور تلك الفتاة؟”
“لقد بدّلتُ الطريقة قليلًا.”
“من دون أن تخبرني؟”
بدت الدهشة على وجهها، إذ لم يخالف أوامرها من قبل.
أسرع مايكل فضمّها من الخلف وهمس عند أذنها: “ظننتُ أنّ طريقة أكثر بؤسًا وبشاعة ستكون مرضية أكثر لجلالتكِ”
“يا للعجب! أكثر بؤسًا وبشاعة؟ أنت لا تكفّ عن إرضائي يا مايكل.”
ابتسمت الإمبراطورة برضى وهي تنقر أظافرها بعضها ببعض، أمّا هو فكانت عيناه خاليتين من أيّ تعبير. لم يبدّل خطّته لذلك السبب أصلًا.
‘ما دام المخطّط يسير كما أريد، فحسب.’
فقد تساءل إن كان من الضروريّ تدمير تلك الفتاة ذات العينين الخضراوين الحقيرتين.
أحد الأسباب أيضًا أنّها لم تقع في شباكه رغم محاولاته. ولو لجأ للسحر المناسب، لَما كان ذلك مستحيلًا، ومع ذلك …
‘لا، لا أرغب في ذلك.’
لقد غيّر نظرته حين رآها ذات يوم تُطعم طفلًا يكاد يُنهش من الجوع قطعة خبز، وتخلع عباءتها لتغطيه.
لم يكن ذلك تمثيلًا. وقد لمس في تصرّفها صدقًا خالصًا لم يعرفه من نبلاء هذا العالم.
‘ليست رحمةً متعالية كما يفعل النبلاء.’
نظر إلى ميلادي وهي تلهث بحرارة ثمّ ابتسم بهدوء.
“جلالتكِ، حان الوقت لتُحطّميَني.”
وحين زحف نحو السرير وجثا على ركبتيه، غمر ظلّ الإمبراطورة زاوية الغرفة بأكملها.
***
كانت الأيام تمضي والصداع لا يفارق رأسها، لكنّها لم تعد قادرة على الانتظار.
‘يجب أن أُنقذ لوتي بسرعة.’
كان التفكير في ما قد تعانيه لوتي تحت يدَي شايلو وصوفيا يُثقِل كاهلها بالذنب. وفي اليوم الذي وضعت فيه خطّتها، طلبت المساعدة من آرتشر وهيـرو.
“أحتاج إلى مكانٍ تختبئ فيه لوتي لفترة.”
فحتى لو خرجت، فلن تستطيع أن تعمل كخادمة لعدم ثبوت هويّتها، كما أنّ القصر كان خطرًا بسبب تردّد شايلو إليه.
“إن كان الأمر كذلك، يمكنني المساعدة.”
كان لدى هيرو منازل عديدة في أقاليم متفرّقة، وقد اختار بالفعل مكانًا مناسبًا.
“سننقلها إلى هناك مؤقتًا، ثمّ نستعيدها لاحقًا.”
“هيرو، أنا ممتنّة لك حقًا.”
كانت فريا تشعر بالامتنان الصادق لهما، بعيدًا عن كلّ ما يخصّ لوكيوس، لأنّهما ذكّراها بأنّ في العالم أناسًا طيّبين بحقّ.
“سأتظاهر بأنّي ضيف وأُحدث ضجّة، وحينها تُخرجان لوتي من الباب الخلفي.”
أومأت فريا بثقة لحديث هيرو.
في العربة التي كانت تجري بسرعة، راجعوا الخطة مرّة أخيرة.
“هل من الضروري أن تذهبي بنفسك؟”
“لا أستطيع الجلوس مكتوفة اليدين، كما أنّ الأيدي قليلة.”
كان عليهم التحرك بسرّية تامّة، فلا مجال لإشراك الكثيرين.
كانت متنكرة بثياب رجل، وحين عدّلت هندامها، التفتت إلى آرتشر الجالس قبالتها.
“آرتشر، احرس الباب الخلفي جيدًا.”
فبعد أن يقتحم هيرو وفريا المكان وينقذا لوتي، سيُهرّبها آرتشر عبر الباب الخلفي إلى العربة المنتظرة.
“لا تقلقي.”
قالها وهو يضع يده على مقبض سيفه الطويل بنظرة جادّة.
‘ما دام من طلب هذا هو تلك التي لا تطلب شيئًا عادةً …’
كانت فريا، رغم قامتها الصغيرة، تملك عزيمة صلبة.
لم تكن تطلب المساعدة من أحد، ولا تشارك أحدًا همومها.
‘صفة ضروريّة للبقاء في هذا العالم القاسي، بلا شك …’
شعر آرتشر أحيانًا بشيء من الأسف تجاه استقلاليّتها الزائدة.
‘تذكّرتُ يوم لقائنا الأوّل.’
كانت طفلةً هزيلة تكاد تموت جوعًا، أمّا الآن فقد كبرت.
بثيابٍ سوداء ضيّقة، وقد أخفت شعرها الطويل تحت القبّعة، ما عاد بالإمكان تمييزها أهي فتى أم فتاة.
‘ما الذي يحدث بالضبط …’
لقد مضى أكثر من عشر سنوات على تركه منزل النبلاء و خوضه حياة الخشونة. ومع ذلك، كان يرى في عينيها قلقًا عميقًا لا يُخطئه.
‘ظننتُ أنّها بدأت تتعافى قليلاً …’
كانت كحملٍ جريحٍ حين التقاها أول مرّة، لكنّها بدأت تشرق مع الوقت. وكان مراقبة ذلك يُشعره بالرضى. غير أنّها عادت مؤخرًا لتغرق في الكآبة.
‘ربّما لم يكن مجيئها إلى القصر فكرة جيّدة.’
ظنّ حينها أنّ الحياة هناك ستكون أكثر دفئًا وشبعًا. وكان ينوي أن يجد لها رجلًا طيّبًا يناسبها يومًا.
‘لن أزوّجها إلّا لمن يستحقّها، هذا ما كنت أريده.’
لكنّ الأمور تعقّدت في المنتصف ولم تجرِ كما خطّط. فوليّ العهد لوكيوس كان رجلًا رائعًا حقًا، وولاؤه نحوه لم يتغيّر.
‘لكن طريقته مع فريا لم تُرضني أبدًا.’
تنحنح آرتشر قليلًا وقال بتحذيرٍ رقيق: “فريا، لا تقومي بأيّ عملٍ متهوّر، مفهوم؟”
“بالطبع. وأنتَ أيضًا، كنْ حذرًا يا آرتشر.”
توقّفت العربة، فنزلت فريا وهيـرو عند فم الزقاق، بينما ابتعدت العربة ببطء عن الأنظار.
“فريا، ابقي قريبةً منّي فقط.”
“آسفة لأنّي أثقلت عليكَ بهذه المهمّة الشاقّة.”
“مهلاً، ألَسنا أصدقاء؟”
ابتسم هيرو بابتسامةٍ مشرقة حين رآها تنظر إليه بأسف.
“شكرًا لك.”
“هذه أوّل مرّة لا أُخبر فيها سموّ وليّ العهد بما أفعل.”
لطالما تجنّب إخفاء الأسرار عن لوكيوس، لكنّ الوضع هذه المرّة لم يحتمل الصمت.
لم يبتغِ هيرو سوى أمرٍ واحد: أن يجلس لوكيوس على عرش الإمبراطورية سالمًا. ولو ابتعدت فريا عنه ورحلت بسلام، فلن يخسر شيئًا، بل ربّما يكون ذلك الأفضل للجميع.
‘إذًا، لا تهمّ الوسيلة ما دام الغاية صائبة.’
أخفى هيرو ما في قلبه من حسابات، وحدّق في ثيابه الأنيقة مبتسمًا.
“ألا أبدو اليوم مثل شابٍّ نبيلٍ ثريّ أكثر من كوني ساحرًا؟”
“بل أنت كذلك فعلًا.”
“آه، أحقًا؟”
تبادلا ضحكة خفيفة، فخفّ التوتّر الذي سبق مهمّتهما قليلًا.
ثمّ تقدّم هيرو عبر الزقاق الضيّق المبتلّ وطرق الباب الذي عُلّقت فوقه فانوسة حمراء.
“من هناك؟”
“جئتُ لأشرب كأسًا من الخمر.”
انفتح اللوح الصغير الذي يغلق ثقب الباب، وبدا وجه هيرو متوتّرًا قليلًا، لكنّه استعاد رباطة جأشه سريعًا.
التعليقات لهذا الفصل " 74"