لم يكن يهمّ متى استعاد ذكرياته، فالأمر لا يغيّر شيئًا.
فهو لم يُخبرها على أيّ حال.
“كنتُ أخفي الأمر لأنّي خشيت أن تتعرّضي للخطر.”
“لكن، لماذا تُخبرني الآن إذًا؟”
لم تستطع فهم ما كان يقصده.
‘أعلم أنّ جلالتك في خطر، هذا واضح لي.’
فهو يواجه الإمبراطورة الطامعة في العرش، ويتحمّل أعباء أعمال لا تُعدّ ولا تُحصى.
وإن كان قد اعترف لها بأنه لوس الذي قابلته في الميتم، لزاد الأمر تعقيدًا.
‘كان إخفاء ذلك أسهل من التورّط في متاعب لا نهاية لها.’
لكنّ اعترافه هذا جعل فريا أكثر اضطرابًا.
شعرت وكأنّ ذكرياتها الجميلة، التي كانت الربيع الوحيد في حياتها البائسة، قد سُلبت منها.
“فريا، أنظري إليّ، أرجوكِ.”
“رجاءً، دعني.”
تحرّرت من بين ذراعيه، ونظرت إليه بعينين تشتعلان غضبًا.
الرجل الذي جعل قلبها يرتجف …
والرجل ذاته الذي خدعها.
‘يا تُرى، كم كان الأمر مسلّيًا بالنسبة له؟’
مجرد فتاة التقته صدفة في الميتم.
بلا خلفية، بلا عائلة، بلا سند … مناسبة تمامًا للاستغلال.
يُحسن إليها حين يشاء، ويهينها حين يملّ.
‘حتى العقد الذي اقترحه في البداية …’
لو كانت نبيلة، أو حتى لها والدان معروفان، لما تجرأ على ذلك.
كانت بلا عائلة ولا مال، لكنّها لم تشعر يومًا بهذا القدر من المهانة.
وما جعلها أكثر بؤسًا هو أنها كانت ترتجف كقصبة أمام أبسط كلماته.
‘كم كنتُ مثيرةً للشفقة.’
ارتجفت كتفا فريا وهي تنهض ببطء.
“سأعود الآن.”
أربكت نبرتها الباردة لوكيوس، فمدّ يده مجددًا نحوها.
“فـ… فريا، أرجوكِ، استمعي إليّ فقط.”
استدارت، لكن يداها كانتا ترتجفان حتى اضطرت لتقبض على معصمها الأخرى لتثبّتها.
نظرت إلى يده التي أمسكت بها، وابتسمت بسخرية مرّة.
‘وليّ عهد إمبراطورية مورسياني … مجبرٌ على الزواج.’
أسلافه الذين ندر نسلهم، وضعوا قانونًا يمنع وليّ العهد من اعتلاء العرش ما لم يتزوّج.
‘ولهذا وُجدت “السيدة فريا دوبوا” — شخصية وهمية.’
لكن السيدة دوبوا لم تكن هي، ولن تكون.
فكيف ليتيمة من ديلموند أن تتقمّص دور نبيلة لم توجد أصلًا؟
تأمّلت الباب المغلق أمامها بعينين خضراوين انطفأ بريقهما.
‘هل ما يحاول الإمساك به الآن هو أنا؟ أم دوبوا النبيلة؟’
ارتسمت على شفتيها ابتسامة جافة.
لم يكن الأمر يحتاج إلى تفكير طويل.
فريا اليتيمة التي تربّت في الميتم لا تليق بوليّ العهد.
هذه حقيقة يعرفها حتى الكلاب في الشوارع.
“لا تقلق، سأفي بالعقد تمامًا.”
بهذه الكلمات أنهت حديثها وغادرت الغرفة دون أن تلتفت خلفها.
***
“آنستي، يبدو أنك لم تنامي جيدًا مؤخرًا. هل نذهب لزيارة السيد فالتر قليلًا؟”
“لا بأس، بيل.”
كانت فريا قد تغيّرت مؤخرًا، لكن بيل و ميريام لم يعرفا السبب.
فريا التي كانت دائمًا مشرقة ولطيفة أصبحت جامدة الملامح، وأحيانًا مخيفة.
“حضّري لي بعض الشاي فقط، أرجوكِ.”
صارت تكره رؤية لوكيوس، بل وتتحاشى لقاء هيرو وجيميني أيضًا، لأنهم يرتبطون به بطريقة أو بأخرى.
حتى آرتشر، الذي كان يُشيد بلوكيوس ليل نهار، لم تعد تطيق رؤيته.
“آنستي، لديكِ زوّار.”
“… من يكون؟”
نادرًا ما كان النبلاء يبدون اهتمامًا بها، ولم يكن يزورها سوى الكونت ديبيرتو في العادة.
‘ليس هذا وقت الزيارات … لا أريد رؤية أحد.’
وضعت يدها على جبينها مهمهمة، ثم خرجت إلى غرفة الاستقبال —
لتجد هناك ضيوفًا لم تتوقّعهم مطلقًا.
“تشرفنا، السيدة دوبوا.”
“أنا الفيكونت فيرول. تأخّرتُ في تقديم احترامي لسيدة فاضلة مثلكِ.”
كان شايلو و صوفيا جالسين معًا، يتصنّعان الرقي وهما يحتسيان الشاي.
بدا المشهد مألوفًا جدًا، حتى شعرت فريا وكأنها عادت إلى الميتم مجددًا.
‘لقد اكتشفوا أمري.’
أدركت فورًا أنها لن تستطيع إخفاء الحقيقة هذه المرة.
عين صوفيا الحاقدة كانت دليلاً كافيًا.
“إنه شاي منحه لنا وليّ العهد، رائحته رائعة.”
قالت صوفيا بابتسامة ساخرة وهي تحتسي رشفة، ففتحت فريا فمها بهدوء.
“بيل، ميريام، هلّا تركتمانا قليلًا؟”
هذا الحوار القادم لا يجب أن يسمعه أحد.
“لكن، آنستي …”
تردّدت ميريام وهي تحدّق في وجه شايلو الكئيب، فبادرت فريا إلى طمأنتهما بابتسامة لطيفة.
“لا تقلقا، إنهما من معارفي القدامى من ديلموند.”
“حسنًا، إن احتجتِ شيئًا، نادينا فورًا.”
“شكرًا لكما.”
وبقي في الغرفة ثلاثة فقط، و أكواب يتصاعد منها بخار الشاي الساخن ببطء.
“حقًا، كنتِ موهوبة بالخداع منذ الصغر، لكن لم أتخيّل أنكِ ستُقدمين على حيلة بهذه الجرأة.”
تحدثت صوفيا بضحكة باردة وهي تضع الفنجان بعنف على الطاولة.
“يا للعجب، هكذا تتحدثين إلى ابنتكِ بعد هذا الغياب الطويل؟”
قال شايلو ساخرًا، متصنّعًا دور الأب الحنون.
كادت فريا أن تتقيّأ من هذا التمثيل المقزّز.
‘مهما كانا يخططان له، لن يكون في صالحي أبدًا.’
قطّبت جبينها، فابتسمت صوفيا بخبث.
“أجل، ليس لكِ أحد سوانا الآن. سنحرص على أن تكون حياتك في القصر … سلسة.”
‘ما علاقتهم بالقصر؟’
“عمّ تتحدثين؟”
كادت تصرخ من شدّة امتعاضها من هرائها.
“هل كنتِ تتحدثين إليّ؟”
توقّفت صوفيا مصدومة، بينما رفعت فريا ذقنها متحدّية.
‘وهل يوجد غيرك هنا؟’
تدخّل شايلو محاولًا تهدئة الجو: “هيا، يا صوفيا، فريا تقوم بعملٍ ممتاز، لا داعي لإثارة المشاكل.”
لم تعرف سبب ادّعائهما دور الزوجين، لكنها أيقنت أنه لا بدّ من التخلّص منهما.
لكن مواجهة من كان يعذبها طوال طفولتها لم تكن بالأمر السهل.
بعد لحظة صمت، قالت بنبرة منخفضة وثابتة: “أنتم تعرفون جيدًا من يقف خلفي، لذلك من الأفضل أن تتركوني وشأني.”
كانت تأمل أن تنجح تهديداتها في ردعهم.
“هل أخبرتكِ من قبل أنني أحبّ نظراتكِ هذه؟ أيتها الفتاة.”
قال شايلو وهو يمرّر لسانه على شفتيه، ينظر إليها بجشع.
“يا ترى، هل يعلم وليّ العهد أنكِ من الميتم؟ أو ربما جلالة الإمبراطور والإمبراطورة؟”
تابعت صوفيا بنبرة خبيثة: “لن يصعب علينا إثبات أصلكِ. ثم إن الأطفال الذين عاشوا معكِ ما زالوا معنا. تتذكرين الفتاة “لوتي”، أليس كذلك؟”
ضيّقت عيناها وهي تذكر الاسم.
“سمعتُ أنها ساعدتكِ على الهرب، صحيح؟”
“……”
كانت تأمل أن لا يكون قد انكشف الأمر، لكن الحظّ لم يكن حليفها.
ارتجف جسد فريا وهي تقبض يديها بقوة.
لم يكن من الصعب تخيّل ما حدث للوتي …
فقد عرفت دومًا مدى قسوة و حقارة هذين الشخصين.
“لا داعي لكل هذا الغضب، يا عزيزتي. يمكننا تسوية الأمور وديًا إن كنتِ عاقلة.”
“في النهاية، أنتِ من ستخسر أكثر إن تعنّتِ.”
قالت صوفيا بابتسامة باردة وهي ترفع فنجانها مجددًا.
‘تهديد صريح إذًا.’
أخذ شايلو يتحدث عن مشاريعه القادمة مطولًا، لكن فريا لم تسمع شيئًا.
***
كان كل شيء فوضى.
منذ تلك الليلة الماطرة التي التقت فيها بلوكيوس في المكتبة، لم تره بعد ذلك.
فقد غادر إلى الحدود بعد ظهور مؤشرات مقلقة هناك.
وربما كان ذلك أفضل، فهي لم تعد قادرة على مواجهته بعد الآن.
‘كنتُ ساذجة لأظنّ أنني أستطيع خداع الجميع.’
كانت نهاية متوقّعة.
بعد زيارة شايلو وصوفيا، ازدادت همومها ثقلًا على كتفيها.
‘إن استمرّ الأمر هكذا، سأفسد كل شيء.’
كانت قلقة على لوتي، وعلى مصيرها الذي لا تعرف إلى أين يتّجه.
“فريا، تبدين شاحبة للغاية.”
قال مايكل بابتسامته الهادئة المعتادة.
لم تكن ترغب في لقاء أحد، لكن وجوده كان يبعث في نفسها بعض الطمأنينة.
كان مايكل الوحيد الذي يجعلها تشعر بشيء من الراحة.
“هذه وصفة صنعتها بنفسي، ستساعدكِ على النوم ليلًا.”
“شكرًا لك.”
كانت حقًا بحاجتها.
في الليل، كانت تجلس على الأريكة عاجزة عن النوم، تطاردها أفكار مخيفة.
كم كانت تكره خيالها الجامح في مثل تلك اللحظات.
ناولها مايكل الزجاجة بابتسامة لطيفة، ثم قال بهدوء: “هل قلتُ لكِ يومًا أننا متشابهان كثيرًا؟”
“……؟”
“في الحقيقة، أنا الابن غير الشرعي لعائلة سحرة.”
بدا على وجهه مزيج غريب من الراحة والمرارة، وكأنه يبوح بسرّ دفين لأول مرة.
فحسب القوانين، لا يحقّ له أن يكون ساحر البلاط الإمبراطوري.
لكنّ دعم الإمبراطورة له، مع موهبته الفريدة، جعلاه ساحر القصر رغم ذلك.
إلا أن أحدًا لم يعترف به فعليًا.
“أمّي رحلت منذ زمن، والعائلة نبذتني.”
كائن منبوذ من الجميع.
شعرت فريا بالأسى وهي تسمع صوته المليء بالحزن …
فقد كان يشبهها كثيرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 73"