لم تدرك كم كانت غارقة في أفكارها إلا حين سمعت نداء ميريام، فعادت إلى وعيها بصعوبة.
كان رأسها مثقلًا بالهموم، حتى إنها عندما عادت إلى غرفتها جلست طويلًا شاردة لا تفعل شيئًا.
‘لوتي، و الكونت ديبيرتو، وسموّه لوكيوس.’
فجأة نهضت من مكانها ونادت ميريام التي كانت ترتّب الزهور في المزهرية.
“هل سمعتِ من قبل شيئًا عن عائلة ديبيرتو؟”
أسرعت ميريام نحو فريا بعينين تلمعان بالحماس.
“بالطبع، إنها قصة قديمة لكن شهرتها عظيمة.”
كانت تتحدّث عن المأساة التي تسبّبت في سقوط عائلة ديبيرتو، التي كانت تُعدّ ثاني أقوى أسرة في الشمال بعد العائلة الإمبراطوريّة.
“يُقال إنّ طفل الكونت اختفى في أحد الأيام.”
بمجرد سماعها ذلك، بدأت فريا تفهم كلمات الكونت و البارون من قبل. فبعد تلك الحادثة، ماتت الكونتيسة من الحزن، وأصيب الكونت بمرضٍ في القلب.
“إذًا هكذا كان الأمر.”
لذلك كان جسده ضعيفًا إلى درجة اضطراره لحمل الدواء معه دائمًا. الطفل المفقود، والكونتيسة التي ماتت وهي تبحث عنه، والكونت المريض.
‘تلك العائلة التي بدت سعيدة، انهارت في لحظة واحدة.’
كانت فريا قادرة على تفهّم حزنه تمامًا.
“هذه القصة سمعتها سرًّا من أحاديث الكبار.”
خفضت ميريام صوتها وهمست في أذن فريايا.
“تردّد وقتها أن عائلة ديبيرتو تعرّضت لتلك المأساة لأنّها كانت تؤيّد سموّه لوكيوس.”
“… من الذي تجرّأ على فعلٍ كهذا!”
صرخت فريا بصوتٍ مرتفع قبل أن تسارع لتكميم فمها بيدها، إذ لم يكن هناك داعٍ لتسأل من كان الفاعل.
“سمعت أن الكثير من الأسر النبيلة انهارت في تلك الفترة.”
“… كم أجهل الكثير من الأمور.”
“فأنتِ قدمتِ من ديلموند يا آنستي.”
“شكرًا لكِ على حديثك اليوم.”
“لا شكر على واجب، الآن حاولي أن ترتاحي.”
أعدّت ميريام الحليب والبسكويت قبل النوم ثمّ غادرت الغرفة.
كان جسد فريا متعبًا، لكنها لم تشعر بأنّها قادرة على النوم.
فارتدت فوق قميص نومها معطفًا سميكًا وشالًا، وأخذت مصباح الزيت. كان الممرّ في الطابق الثاني هادئًا.
ترى هل عاد إلى غرفته؟
نظرت بسرعة نحو الغرفة المجاورة ثم أسرعت في خطواتها.
وبينما كانت تمشي، رأت مكتبة صغيرة وفتحت بابها بحذر. كانت مكتبة وليّ العهد الخاصة. لم تكن كبيرة، لكنها احتوت عددًا جيدًا من الكتب.
“لنرَ … تاريخ مورسياني.”
أخذت الكتاب وجلست في مقعدٍ قرب النافذة، وضعت الشمعدان على حافة النافذة واحتضنت وسادة ناعمة وبدأت بالقراءة. ومع مرور الوقت، ازدادت ملامحها كآبة.
“هذا أشبه بجذور شجرة متشابكة!”
كانت الأحداث متداخلة إلى حدٍ لا يمكن فهمه من القراءة فقط.
أنهكها الأمر حتى وضعت الكتاب على بطنها واستلقت للخلف.
أرادت فقط أن تعرف المزيد عن لوكيوس والكونت ديبيرتو.
‘ما هذا الشيء المسمّى سلطة؟’
كيف يمكن أن يؤذي الأبرياء إلى هذا الحدّ؟
ولم تكن هذه الكلمات موجهة للإمبراطورة وحدها. فبالنسبة لها، لم يكن هناك فرق بين شايلو و الإمبراطورة.
ثمّ سمعت صوت الباب الخشبي الثقيل يصرّ، فأسرعت بإطفاء الشمعة. لم تكن قد ارتكبت شيئًا خاطئًا، لكن قلبها أخذ يخفق بشدّة، فدفنت وجهها بين الوسائد.
سسس-!
كان صوت ثوبٍ يُجرّ على الأرض في الظلام، فزاد خوفها و عضّت على إصبعها.
وفي تلك اللحظة لمع ضوء البرق تلاه صوت الرعد، وأخذ المطر يطرق على النوافذ بعنف. شحب وجهها تمامًا.
‘لا أحبّ المطر …’
رغم أنها تخلّصت من خوفها مع مرور السنوات، إلا أن ليالي المطر ما زالت ترعبها.
كانت تشعر أنّ أحدهم سيلفّ شعرها الطويل ويجرّها إلى ظلمةٍ أعمق. تردّد في أذنيها صوت بكاء طفل وضحكة امرأة غريبة.
“فريا.”
لم يكن القادم مخلوقًا مرعبًا، بل صوتًا مألوفًا جعل دموعها تنهمر بغزارة.
كم كتمت بكاءها منذ النهار حين رأَت الكونت يبكي، وكأنّ صدرها كان ينهار معه دون أن تدري السبب.
“هه …”
رفعت رأسها من بين الوسائد لتجد صدرًا دافئًا يحتضنها.
“ما زلتِ تخافين من المطر.”
كانت بين ذراعي لوكيوس، لكن صوتها المرتجف لم يسمح لها بفهم كلماته جيدًا.
‘فريا تقول إنها لا تخاف الأشباح، لكنها تخاف المطر؟’
‘لستُ خائفة من المطر، بل من السماء حين تبرق، ومن ذلك الصوت المخيف.’
تردّد صدى الحديث القديم في أذنيها، ثم شعرت بأنفاس دافئة تلامس جبينها.
“فريا، سأكون دائمًا بقربكِ حين يهطل المطر.”
“هذه الكلمات …”
كانت بالتحديد ما قاله لوس لها من قبل.
مع ومضة البرق التالية، رفعت فريا رأسها لترى لون عيني لوكيوس وقد تغيّر. امتزج الأزرق بالذهبي فصار أخضر كاليشب.
“سموكَ … عيناك …”
“هل تغيّرتُ كثيرًا يا فريا؟”
“ماذا تعني؟”
نظر إليها لوكيوس بنظرةٍ غريبة، وكأنه يصارع في داخله شيئًا ما.
‘لم أرد أن أكشف الأمر بهذه الطريقة.’
لكن لم يعد يستطيع الاختباء وراء عقدٍ أو مبرراتٍ باردة.
لم يعد قادرًا على التظاهر بعدم الاكتراث وهي أمامه.
‘لا أريد أن يراكِ رجلٌ آخر يا فريا.’
تنفّس بعمق وهو ينظر إلى عينيها المملوءتين بالارتباك، ثمّ مرّر يده على خدّها برفق.
“آسف، لأني أدركت ذلك متأخرًا.”
“كفّ عن قول هذه الكلمات الغريبة. لابدّ أن دواء هيرو اليوم كان غريبًا فعلًا.”
كانت خائفة من كلماته المليئة بالأسرار، لكنها لم تستطع الابتعاد عنه وسط صوت المطر، فتمتمت بصوتٍ واهن.
لم تفهم كيف يمكن لوليّ العهد أن يكرّر كلمات لوس التي لا يعرفها سواه.
‘لم أنكر أنه يشبهه …’
لكن لوث كان طفلًا قابلته في الميتم، أصغر منها سنًّا، وحتى لو أنها لم تكبر كثيرًا منذ ذلك الوقت، إلا أنّ هذا الأمر لا يعقل.
“اسمعيني جيدًا.”
مرّر لوكيوس يده على ظهرها برفق وتابع بصوتٍ خافت.
“لقد واجهتُ الموت مرارًا في حياتي.”
أومأت فريا برأسها بتفهّم. فقد رأته غارقًا في دمه أكثر من مرة.
“لكنّ أبشع ما حدث هو حين أشعل أحدهم النار في غرفتي وأنا نائم، ثمّ أغلق الباب عليّ.”
“آه …”
كان ذلك إعلانًا واضحًا لرغبتهم في قتله. حتى فريا التي ظنّت أنها تعرف مدى شرّ الناس، ارتجفت من هول ما سمعت.
“نجوتُ بأعجوبة بمساعدة هيرو و جيميني.”
ارتعش جسده وهو يستعيد ذكريات تلك الليلة المروّعة.
المكان الذي لجأ إليه للاختباء كان الميتم، حيث كانت فريا.
“لم يكن ذلك هدفي الأصلي، لكنّكِ كنتِ من أنقذني من الموت في ذلك اليوم.”
عانى من آلام رهيبة بسبب آثار الدواء حتى كاد يفارق الحياة.
“لكن لو … لوس هو …”
“تغيير لون العينين لم يكن صعبًا على هيرو.”
لم يكن بوسعه مواجهة الإمبراطورة بعينين تشبهان عيني الإمبراطور.
“أما تعديل العمر، فكان أمرًا جديدًا حتى على هيرو نفسه.”
“… هذا غير ممكن.”
لو كان لوكيوس هو لوس حقًا، فكيف يفسّر لقاؤهما الأول؟
“كانت نظراتكَ غريبة عليّ تمامًا في البداية.”
“صحيح، لأنني حين عدتُ إلى هيئتي الأصلية، سبّب لي ذلك آثارًا جانبية. بفعل السحر المفرط أصبتُ بالأرق وفقدتُ جزءًا من ذاكرتي. حاول هيرو مساعدتي لكنني لم أتذكّر ما حدث هناك مطلقًا.”
ظهور فريا أثار اضطرابه، وازداد فضوله نحوها شيئًا فشيئًا.
ومع مرور الوقت بقربها، أصبحت مشاعره أكثر فوضى.
“ظننت أنني فقدت الذاكرة، لكن يبدو أنني لم أنسَكِ يومًا.”
ولهذا السبب أصرّ على إبقائها بجانبه بكل وسيلة ممكنة.
“لِمَ … لمَ لم تأتِ لأخذي إذًا …”
توقّفت قبل أن تكمل الجملة، فقد قال إنه فقد ذاكرته.
‘ربما من الأفضل لو أن لوس لم يعد أبدًا.’
لكنها في أعماقها كانت تنتظره طوال الوقت. كانت تتظاهر بالتناسي خوفًا من أن تزداد بؤسًا.
“فريا، يمكنكِ أن تلوميني إن شئتِ.”
“أتقول إنك … لوس؟ حقًا؟”
مدّ يده ومسح شعرها الأمامي بلطف.
“فريا، لا تفعلي مثل هذا مجددًا. عديني.”
لم يعد بإمكانها الشكّ بعد الآن. تغيّر لون عينيه وكبر جسده، لكنه كان لوس بلا ريب.
“يا إلهي …”
اندفعت كل المشاعر التي أخفتها طويلاً تجاه الأمير، ذلك الرجل الغامض الذي لم تفهمه يومًا.
لم تستطع أن تبعد نظرها عنه. رغم أنه كان خطرًا عليها، إلا أن نصف السبب في بقائها إلى جانبه كان هو نفسه.
‘فما الذي سيحدث لنا الآن؟’
“حين كنت معكِ، بدأت أستعيد ذاكرتي تدريجيًا.”
“كان عليك أن تخبرني منذ البداية!”
ارتفع صوت فريا دون أن تدرك أنها تتحدث بغير تكليفٍ رسمي.
كانت محقّة، فهناك الكثير مما جهلته. لم تعرف من هو لوس حقًا، ولا أنّ لوكيوس هو نفسه.
‘كنتُ أجهل كل شيء، ومع ذلك أحببتُ لوس بصدق.’
وكان لوكيوس كذلك.
مشاعره تجاهها اختلفت، لكنها كانت حقيقية أيضًا.
“فريا، لن يتغيّر شيء بيننا.”
يا لسخافة هذا القول.
لم يتغيّر شيء؟ بل إنّ عالمها بأسره انقلب رأسًا على عقب.
التعليقات لهذا الفصل " 72"