خشيت فريا أن تبدو كمن تزور بيت نبلاءٍ للمرّة الأولى، فتعمّدت أن تتجمّد ملامح وجهها وتبدو متحفظة.
“هل تودّين تناول الشّاي أوّلًا؟ أم أأخذكِ في جولةٍ في أرجاء المنزل؟”
“هل يمكن أن أبدأ بالجولة أوّلًا؟”
كانت تشعر ببعض الانزعاج في معدتها من طول الجلوس في العربة.
“هل لي أن أتولّى ذلك؟”
تقدّم غابرييل عوضًا عن والده الكونت الذي كانت ركبته تؤلمه.
“إذًا، سأنتظركما في غرفة الاستقبال.”
بدأت فريا تتجوّل ببطءٍ في المنزل برفقة البارون غابرييل.
“هذا المكان يحمل في طيّاته تاريخًا يمتدّ لعدّة قرون، لذا ستجدين أنّه قديمٌ بعض الشيء.”
رغم أعمال التّرميم المتواصلة، لم يكن بالإمكان إخفاء قِدم البناء. لكن في عيني فريا، كان لذلك الطّابع العتيق سحرٌ خاصّ لا يمكن أن يمنحه أيّ بناءٍ جديد.
“لكن هذا الطابع القديم لا يُشترى بالمال، أليس كذلك؟”
“أشكركِ على قولكِ ذلك.”
وأثناء سيرهما في الممرّ الطّويل، كانت لوحات أسلاف عائلة ديبيرتو تملأ الجدران على الجانبين.
“هذا هو الكونت ديبيرتو الأوّل.”
“واو! هذا مدهش.”
رغم أنّ ملامحه تختلف قليلًا عن ملامح الكونت الحالي، إلّا أنّ الشّبه العام كان واضحًا.
توقّفا أمام لوحةٍ تُصوّر عائلةً سعيدة: سيّدةٌ جالسة تحمل طفلًا حديث الولادة في حضنها، وعلى جانبي الكرسيّ يقف طفلٌ في نحو الخامسة من عمره ورجلٌ يرتدي بزّةً رسميّة بلونٍ كحليّ، يبدوان معًا قويّين ومهيبين.
كان المشهد مفعمًا بالدفء لدرجةٍ جعلت فريا تشعر ببعض الغيرة.
‘هل هذا ما يعنيه أن يكون للمرء أمٌّ وأب؟’
كان النّظر الحنون في عيني الأم وهي تحدّق بطفلها مؤثّرًا إلى درجةٍ جعلتها تتخيّل ذلك الإحساس في نفسها.
“الآنسة دوبوا …”
كان غابرييل يهمّ بقول شيءٍ ما إلى فريا التي كانت غارقة في تأمّل اللوحة، حين مرّت عجوزٌ في نهاية الممرّ وأسقطت كومة الصّوف التي كانت تحملها.
انحنى الكونت بانحناءةٍ رسميّة جعلت فريا في غاية الارتباك، فسارعت هي أيضًا إلى الانحناء.
“سنقضي وقتنا كلّه في الاعتذار على هذا النحو فيما يبدو.”
ضحك غابرييل مازحًا، فابتسمت فريا والكونت بخجلٍ متبادل. جلست فريا وأخذت رشفةً من الشّاي الذي لم يسبق أن تذوّقته من قبل.
“إنّه شاي مصنوع من أزهارٍ لا تنبت إلّا في أراضينا.”
هزّت رأسها موافقةً بينما شعرت بحرارةٍ خفيفة في لسانها، ثمّ بدأت تفقد الإحساس في شفتيها ولسانها.
لاحظ الكونت تغيّر ملامح وجهها فارتعب.
“يبدو أنّ هذا الشّاي لا يناسبكِ يا آنسة دوبوا. غابرييل، أسرع واستدعِ الطّبيب بنفسك!”
“نعم، حالًا!”
“لا تقلقوا، سيزول هذا بعد قليل.”
“لا يجوز أن نتهاون في أمرٍ كهذا مع ضيفةٍ من هذا القدر. فأنتِ خطيبةُ سموّ وليّ العهد، ومنقذتي كذلك.”
وبينما كان يتحدّث، اغرورقت عينا الكونت بالدّموع وسالت دمعةٌ على خده.
“لماذا …؟ ما الأمر؟”
لم تعرف فريا كيف تتصرّف أمام ردّ فعله المفاجئ.
“أرجوكَ، أنا بخير. مجرّد وخزٍ بسيط، لا ألم فيه.”
حين بدأ بالبكاء، نسيت فريا تمامًا كلّ قواعد الإتيكيت التي كانت فرانشيسكا تكرّرها على مسامعها.
‘ما العمل الآن؟’
وقفت فجأة واقتربت منه وأمسكت بيده.
“أرجوكَ، توقّف عن البكاء.”
خرجت كلماتها خرقاءَ نوعًا ما، لكنها صادقة. لم تكن تعرف كيف تواسي النّاس برقّة، لكنّها حاولت بطريقتها.
تعافت بسرعةٍ بفضل دواءٍ أحضره الطّبيب، وبقي مجرّد خَدَرٍ خفيفٍ في شفتيها ولسانها.
في طريق العودة بالعربة، ظلّت تتحسّس شفتيها وهي غارقةٌ في التّفكير. فكرةٌ طرأت على ذهنها ولم تفارقها.
‘سيضحك الجميع لو علموا بما أفكّر فيه الآن.’
حين كانت طفلة، وتحت قسوة ضرب صوفيا، تخيّلت مرارًا أنّها ليست يتيمة، بل ابنةُ نبلاءٍ جِيء بها إلى الميتم لسببٍ غامض.
‘أنا ابنةُ أحد النبلاء، لا بدّ أنّ والدي سيأتيان يومًا ليأخذاني.’
تعلّقت بتلك الأوهام لأنّها كانت الوسيلة الوحيدة لتحمّل قسوة تلك الأيام.
‘لكن هذه المرّة … الأمر مختلف.’
لم يكن وهمًا، بل إحساسًا غامضًا يصعب تفسيره. كان في داخلها صوتٌ يهمس بذلك.
كانت حياة فريا مليئةً بالاضطراب، ولم تثق يومًا إلّا بنفسها، وهي الثقة ذاتها التي أبقتها حيّة رغم كلّ ما مرّت به.
‘أتُراه بخير الآن؟’
شعرت بالذنب على زيارتها التي سبّبت للكونت انفعالًا شديدًا. تذكّرت كيف كان قد بكى بحرقةٍ أكبر حين أمسكت يده لتواسيه، وكيف ربّت على ظهر يدها برفق.
‘أعتذر … في الحقيقة …’
قال لها الكونت إنّه لم يستطع نسيان وجهها منذ أن أنقذته.
‘لقد فقدت ابنتي منذ أكثر من عشر سنوات، لكن حين رأيتكِ، خطر لي أنّها لو كانت حية لكانت مثلكِ تمامًا. أعلم أنّ هذا تفكيرٌ سخيف، لكن حتى ميلدريد لم تخطئ عندما ظنّتكِ سيّدتها.’
ثمّ أخرج من جيبه قلادةً صغيرة وفتحها.
‘هذه زوجتي وابنتي.’
في داخلها خصلةُ شعرٍ بنّيٍّ قصير وصورةٌ باهتة، والمرأة في الصورة كانت تشبه فريا إلى حدٍّ كبير.
‘أعتذر لأنّي تجرّأت على الحديث في هذا الأمر دون إذنٍ منكِ.’
“لا بأس، أنا بخير.”
أومأ الكونت ثمّ أضاف بصوتٍ متكسّر: ‘لقد اختفت ابنتي ذات ليلةٍ، لم تكن قد تجاوزت عامها الأوّل بعد، ولم نجد سوى شعرها في المهد … كانت غلطةً لا تُغتفر منّي.’
ومنذ تلك الليلة، لم تذق الكونتيسة طعامًا، وذبُلت حتى ماتت حزنًا.
‘أعيش اليوم فقط لأجل العثور عليها. أريد أن تعرف أنّ أباها لم ينسها لحظةً واحدة.’
اغرورقت عينا فريا بالدّموع.
‘كم ستكون سعادتها لو سمعت هذا … يا لها من ابنةٍ محظوظة، أن يكون لها أبٌ طيّبٌ مثله.’
تمنت فريا أن يجتمع الكونت حقًّا بابنته المفقودة.
“أعتذر عن ضعفي هذا … إنه غريب، لم أقل مثل هذا الكلام لأحدٍ سوى ابني.”
ثمّ بدأ جسده يرتجف وتصبّب جبينه عرقًا قبل أن يضغط على صدره متألّمًا.
“سيدي الكونت! الكونت!”
كان المشهد مطابقًا تمامًا لما رأته سابقًا.
‘يجب أن أجد الدواء!’
أسرعت فريا إلى العصا القريبة، فتحتها وأخرجت منها الدواء ووضعته تحت لسانه.
“بيل ، ميريام! تعالا وساعداني!”
ساعد الثلاثة الكونت على الاستلقاء وسقوه الماء حتى ابتلع الحبة، وما إن تأكّدت فريا من أنّه بخير حتى وصل الطّبيب.
“الآنسة دوبوا، هل أنتِ بخير؟”
“تفقدوا الكونت أوّلًا، لقد أصيب بنوبةٍ في قلبه!”
“أبي! أبي!”
“لحسن الحظ، لقد تجاوز الخطر.”
تحقّق الطّبيب من حاله بينما كان غابرييل يمسك بيد أبيه.
“لقد أنقذتِ حياة والدي مرّتين … لا أعلم كيف أشكركِ.”
“حقًّا، لا داعي لذلك. الأهمّ أنّه بخير.”
لكنّ غابرييل جثا على ركبةٍ واحدة أمامها وقال بجدّية: “أنا، غابرييل ديبيرتو، أُقسم أن أكون فارسًا لكِ.”
اتّسعت عينا فريا دهشةً، شفاهها المتورّمة تؤلمها، وعقلها مشغولٌ بما حدث للكونت، فإذا بها تواجه أمرًا جديدًا تمامًا.
‘فارسٌ لي؟’
كانت قد سمعت أنّ بعض النبلاء لديهم فرسانٌ يُقسمون على الولاء لهم — مثل لوكيوس الذي لديه جيميني، وهارت كذلك — لكن …
‘أنا لستُ نبيلةً أصلًا.’
لا يمكنها قبول قسمٍ كهذا من شخصٍ مثل غابرييل. حاولت رفضه مرارًا، لكنّه لم يتراجع.
التعليقات لهذا الفصل " 71"