طرقت بيل ، التي نزلت من المقعد المجاور للسائق، نافذة العربة.
استفاقت فريا على صوتها، وأنزلت الغطاء على وجهها بالكامل.
لم ترغب أن يراها أحد بوجهها المحمّر بعد الحلم الذي رأته أثناء غفوتها القصيرة.
“لا، أريد أن أتجوّل قليلًا هنا.”
لم تكن قد تعرفت إلى هذا المكان جيدًا قبل مغادرتها، لذا لم تعرف كيف هو المكان الذي توجد فيه لوتي.
الزقاق الذي أخذتها إليه صوفيا كان كئيبًا، لكنّ هذا المكان الذي توقفت فيه العربة بدا عاديًّا.
وفيما كانت تمشي، توقفت فجأة.
طفلان صغيران جدًا كانا يمدّان وعاءً صغيرًا يستجدِيان به.
“آنساب، تفضّلي بالصدقة، أرجوكِ.”
كان صوتهما لا يشبه صوت الأطفال، وملابسهما الممزقة جعلت فريا تشعر بالأسى.
لكنها لم تعرف إن كانا بالفعل محتاجَين، أم أن حالهما يشبه حالها سابقًا.
‘لو كان هناك من يراقبني، فربما يتأذيان لو أظهرتُ شفقةً متسرّعة.’
أسرعت بالدخول إلى المخبز المقابل و سلّمت على صاحبه.
“أريد شراء بعض الخبز والبسكويت، من فضلك.”
“ما الذي تودّين أن أقدّمه لكِ؟”
بدت على صاحب المخبز البهجة لرؤية فتاةٍ نبيلة المظهر تشتري كميّة كبيرة.
“بالمناسبة، هل تعرف قصة الطفلين اللذين في الخارج؟”
سألت فريا كأنها تقول شيئًا عابرًا.
“آه، إن لهما قصةً مؤلمة.”
قال صاحب المخبز إن أمهما ماتت أثناء ولادة الصغير، وإن والدهما بالكاد يعود إلى البيت لأنه يعمل بعيدًا.
“أظنّ أن الأكبر لا يتجاوز العاشرة من عمره.”
“بيل، كم من المال معنا؟”
كانت فريا قد ادّخرت ما تتقاضاه كل شهر، لتشتري بيتًا صغيرًا وبستانًا لتعيش مع لوتي.
لكنّها لم تستطع تجاهل الأطفال بعد أن رأتهما.
“أيها السيد، هل يمكنك أن تعطي الطفلين بعض الخبز من حينٍ لآخر؟ سأتكفّل بالأجر مسبقًا.”
لم تكن حالها ميسورة، لكنّ هذا أقصى ما يمكنها فعله.
وافق صاحب المخبز بسرور، فقد كان يمنحهما بعض ما تبقّى من الخبز أحيانًا.
دفعت له قطعة ذهبية، ثم خرجت تحمل الخبز وتوجّهت نحو الطفلين.
“لا تكتفيا بالنظر، ساعدانا رجاءً، في البيت طفل رضيع ينتظر.”
نظر إليها الطفل الأكبر بعينين واسعتين، فمدّت له فريا الخبز بتردّد.
كانت تعرف جيدًا كم هو شعور البؤس مؤلم، فلم تردّ أن تكون شفقةً فارغة.
“خذوه وتقاسموه، وخذوا هذا أيضًا.”
نزعت المعطف الذي كانت ترتديه وقدّمته لهما.
كان هديةً من الأمير لوكيوس، لكنها أرادت أن تمنحهما شيئًا أكثر دفئًا.
شعرت بغصّةٍ تخنقها دون أن تدري السبب.
“لقد أوصيتُ المخبز بأن يعطيكما طعامًا أحيانًا، وسأعود أنا أو أرسل أحدًا. لذا …”
اختنق صوتها وهي تحاول قول ما تريد.
كانت ترغب في أن تقول شيئًا يشبه ما قاله لها آرتشر عندما كانت هي التي تحتاج إلى دفء الكلمة.
لكن لم تقدر.
وفيما تردّدت، أخذ الصغير يتحسّس الخبز وقال بصوتٍ خافت: “هل أنتِ الحاكمة ديانا؟”
“……”
هزّت فريا رأسها بقوة.
لا، بالطبع لا.
هي، التي لا تعرف حتى وجه والديها، والتي لا تملك شيئًا من هذه الدنيا …
ربما كانت أشدّ بؤسًا من هؤلاء الأطفال أنفسهم.
لكنّهم على الأقل يملكون بعضهم، ولديهم أب.
“سآتي كثيرًا لزيارتكما.”
أرادت أن تمنحهما أملًا، أن يجدا في الأيام القادمة سببًا للتمسّك بها.
كان هذا أول مرةٍ في حياتها تشعر فيها برغبةٍ صادقة في مساعدة الآخرين لا نفسها.
قبّل الطفلان ظهر يدها الصغيرة قائلَين: “لتكن بركة ديانا عليكِ…”
“اذهبا الآن بسرعة.”
لفّا الخبز في المعطف بحذر وركضا نحو المنزل حيث ينتظر أخوهما الصغير.
وقفت فريا تتابعهما بنظراتٍ طويلة حتى غابا عن بصرها، ثم استدارت فوجدت بيل تبكي.
“آنسة … سامحيني لأني كنتُ خائبة الظن حين أصبحتُ خادمتكِ في البداية.”
كانت متأثرةً بصدق فريا ودفئ قلبها.
فلوّحت لها الأخيرة بيديها محرجة.
“لا تبكي، أردتُ فقط أن أفعل شيئًا طيبًا لمرةٍ واحدة.”
مسحت عينيها الحمراوين وهي تبتسم، وغادرت المكان بخفّة قلب.
وحين عادت، كان آرتشر و هيرو قد وصلا، فركبت العربة وغادرت بصحبتهم تاركةً الغبار يتطاير خلفهم.
“ما الذي يجري هنا؟”
قال رجلٌ كان يراقب من بعيد بنبرةٍ باردة.
كان يرتدي عباءةً بنية داكنة تخفي شعره الفضي الطويل.
“قالوا إنها تزور أقاربها، أليس كذلك؟”
تمتم الرجل وحده.
إنه مايكل ، الساحر الذي أرسلته الإمبراطورة ليراقب فريا ويعرف ما تفعله ومع من تلتقي.
“تتصدّق على أطفال الشوارع وتخلع عن نفسها المعطف؟”
لم يرَ في حياته سيدةً من النبلاء تفعل ذلك.
بل شاهد على وجهها ملامح لم يرَها في القصر من قبل — ملامح طبيعية وصادقة.
“ما هذا الشعور الغريب …”
هبت نسمة باردة فحرّكت عباءته، كاشفةً وجهًا ذا ملامح رقيقة مضيئة بضوء خافت.
***
“الآنسة دوبوا، عليكِ بالتركيز! لقد أفسدتِ هذا الجزء تمامًا.”
“آه، نعم…”
كانت بارعة في الحياكة منذ طفولتها، فقد كانت تصلح ملابسها وجواربها بنفسها، و كان بإمكانها أن تحيك في الظلام دون أن تخطئ.
‘لكنّ التطريز شيء مختلف تمامًا.’
كان عليها أن تنقش زهورًا وفراشات دقيقة على قماشٍ صغير بحجم كفّها.
أصاب أصابعها الشدّ والتشنّج من الإرهاق، وفكّرت أن تعيد تعلم فنّ التحية أو تنسيق الزهور بدل هذا العذاب.
وما إن أطلقت تنهيدةً ضجرة حتى رشقها حزامٌ جلديّ على يدها.
“لا يُصدرنّ النساء المحترمات مثل هذه الأصوات.”
أنزلت فريا الإطار المطرّز ونظرت نحو السيدة فرانشيسكا التي جلست قبالتها تحتسي الشاي برشاقة.
كانت كلّ حركةٍ منها مثالية: جلستها، نظراتها، الطريقة التي ترفع بها الفنجان.
‘كأنها خرجت للتو من كتابٍ لتعليم الإتيكيت.’
بل كان مظهرها باردًا لدرجة تجعل القلب يتجمّد.
‘لو خُيّرت بين أن أكون مثالية مثلها أو أن أظلّ ناقصةً كما أنا، لاخترت الثانية بلا تردّد.’
راحت تتذمّر في سرّها وهي تخيط، فصار الوقت المملّ يمرّ أسهل قليلًا.
‘لوتي …’
بحسب ما أخبرها هيرو، فقد رأى فتاةً تشبهها تنظّف الدرج والأرضية، وكانت شاحبة الوجه.
‘ربما عاقبوها بسبب اختفائي.’
بل حتى من دون ذلك، فالمكان الذي تعيش فيه يجعل الناس يمرضون جسدًا وروحًا.
‘لم أدرك ذلك إلا بعد أن خرجتُ منه.’
ذلك المكان الذي عاشت فيه مع لوتي كان أسوأ من المجاري.
حتى الجرذان هناك تملك حريةً أكثر مما كانتا تملكانه.
لم يكن يُعطى لهما سوى حساءٍ مائيّ وثيابٍ ممزقة، وعليهما أن تعملا طوال الوقت.
ثم أصبحتا وسيلةً لزيادة ثروة شايلو.
‘لماذا لم أفكر في إخراجها من هناك قبل هذا؟’
ندمت متأخرة، لكنها سرعان ما بدّدت تلك الأفكار.
الندم لن يُنقذ لوتي، التفكير في خطة هو ما يجب أن تفعله.
“السيدة فرانشيسكا، لقد انتهيت.”
رغم بساطة عملها، إلا أنه اجتاز نظرة فرانشيسكا المتطلبة.
عادت فريا إلى غرفتها، وعدّلت الخيوط العالقة في فستانها، ثم وقفت أمام المرآة متوترةً تتفقد مظهرها أكثر من مرة.
“هل ستلتقين بصاحب السمو اليوم؟”
“لا، لقد دعاني الكونت ديبيرتو اليوم.”
“الكونت؟ يا إلهي …”
احمرّ وجه ميريام وهي تسرّح شعر فريا نصفه مرفوع ونصفه منسدل.
قالت إن الكونت ديبيرتو رجل وسيم راقٍ يحظى بشعبية كبيرة بين السيدات، بل إنه يعامل حتى الخدم بلطفٍ واحترام.
‘ربما لهذا شعرتُ نحوه بشيءٍ من الارتياح من أول لقاء.’
كانت لياقته الطبيعية هي ما جعلها تميل إليه.
“بدلًا من هذا، ألا يجدر بكِ أنتِ أن تسرّحي شعركِ قليلًا يا ميريام؟”
أجلستها فريا على الكرسي وضحكت.
“بيل، تعالي وساعدي.”
“كيف أجلس على مقعد آنستي لأصلّح شعري؟ هذا لا يليق أبدًا!”
لكن فريا وضعت يدها على كتفها برفق.
“لا بأس، الأمر بسيط، ولسنا إلا نحن هنا.”
تبادل الثلاثة النظرات ثم انفجرن بالضحك.
وبعد أن أنهين التجهيز بسعادة، نزلت فريا لتجد عربة الكونت قد وصلت.
“بيل، ميريام، راقبا إن كنتُ سأرتكب خطأ.”
“بالطبع، آنسة.”
كانت الخادمتان تعلمان أن خطيبة وليّ العهد، الآنسة دوبوا، تختلف عن غيرها كثيرًا، فقد تسببت ببعض القلق بسبب جهلها ببعض آداب القصر.
‘لكن … هذه أول مرةٍ أزور فيها بيت نبيل آخر.’
أما النبلاء الآخرون، فقد نشأوا على تبادل الزيارات منذ طفولتهم، وشاركوا في الولائم وبنوا صداقاتٍ بينهم منذ زمن.
‘أما أنا، فكل هذا غريبٌ عليّ.’
تساءلت إن كان قبول الدعوة قرارًا صائبًا، وبينما كانت تفكّر، توقفت العربة أمام قصر آل ديبيرتو.
“أهلًا بقدومكِ.”
نزلت ورفعت رأسها، فرأت مبنى ضخمًا ذا طابعٍ قديمٍ أنيق.
تسلّقت الجدران نبتات اللبلاب، وازدهرت أزهار التوليب في جانب الحديقة.
“هل كانت الرحلة متعبة، آنسة دوبوا؟”
“بفضل العربة التي أرسلها الكونت، كانت مريحة جدًا، سيدي الكونت.”
لم تجد الكونت وحده، بل كان معه أيضًا البارون غابرييل ، و كلاهما استقبلاها بابتسامةٍ مشرقة جعلت قلبها يخفق وهي تسير نحوهما.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 70"