كانت فريا المطروحة أرضًا قد رأت الإطار في يد صوفيا، فاستجمعت ما تبقّى من قوتها لترفع جسدها.
‘هل تنوي أن ترميه؟’
في هذه اللحظة العصيبة، لم يشغل بالها سوى حماية لوس.
“أنقذتُ جرذًا حقيرًا على شفا الموت، وهذا جزاؤنا؟ هكذا تردّين الجميل؟”
“خالتي، أرجوكِ … لا تفعلي.”
اعترضت فريا لوس بجسدها الجريح وهي تتوسّل.
انحدرت دموعها على وجنتيها لتبلّل السجادة بكثافة.
استندت بيدها إلى الحائط وجذبت ذراع لوس.
“لوس، أسرع واعتذر لها … بسرعة.”
كانت ترجوه بلهفة خوفًا من أن ينتهي الأمر بكارثة. لكن، رغم توسلاتها، ظلّ لوس ثابتًا لا يتحرّك.
‘ما بال لوس اليوم؟ لماذا يتصرّف هكذا؟’
خفق قلب فريا بعنف.
أخذت صور أصدقائها الذين أزهقت صوفيا أرواحهم تتقاطر في ذهنها واحدًا تلو الآخر. ولما رأت صوفيا عناد لوس، استشاطت جنونًا.
“سأؤدّبكما الليلة معًا، وأصحّح كلّ أخطائكما.”
بعينين محمرّتين كالدم، بدت صوفيا وكأنّها فقدت صوابها تمامًا. من شدّة الغضب، ألقت الإطار بقوة نحو الحائط.
“لاااا!”
صرخت فريا، واقفة أمام لوس. دموعها أعمت بصرها فلم ترَ شيئًا، لكنها سمعت فقط دويّ تحطّم الإطار حين ارتطم بالجدار.
“… آه!”
تناثر الإطار إلى شظايا، واندفع منها شُرَف خشبية صغيرة في الهواء.
“لستُ أدري كيف قفزت تلك الشظايا إلى هناك.”
تحدثت صوفيا مرتبكة، ثم هرعت مسرعة إلى خارج الغرفة.
“فريا ، لماذا تفعلين كلّ هذا من أجلي…؟”
جلس لوس أرضًا وعانق جسدها المرتجف بعناية وهو يبكي.
لم تهدأ فريا إلا بعدما تأكدت أن وجهه لم يُصَب بخدش واحد. عندها افتعلت نبرة مبهجة.
“لا تبكِ ، لوس. أنا بخير.”
‘حتى لو أضيفت ندبة أخرى، فلن يغيّر ذلك من أمري شيئًا.’
حبست هذه الكلمات في صدرها، بينما لوس يتمتم بلغة غريبة لم تفهمها. أغمضت عينيها متألمة، وأصغت لصوته العذب كأنه صلاة.
في تلك الليلة التي جُرحت فيها فريا بشدة، جاء لوس إلى قاعة النوم الكبيرة الخالية، ليعتني بها بنفسه.
الغرفة التي كانت تضم عشرات الأطفال صارت فارغة إلا من الجدران الباردة.
أحضر قماشًا وماءً وشمعة، وهمس: “فريا ، يجب أن تري طبيبًا جراحًا.”
“أنا بخير يا لوس. الطعنة انحرفت قليلًا، ولن تترك سوى ندبة صغيرة.”
“فريا ، أرجوكِ لا تفعلي هذا ثانية. عاهديني.”
‘لكن، يا لوس، سأفعل الشيء نفسه لو تكرّر الأمر.’
ابتلعت ما أرادت قوله، وتمتمت بصوت خافت: “سأشفى بعد النوم.”
لكن الألم في جرح جبينها وخزها حتى قطّبت حاجبيها.
‘إن قلتُ إنني أتألم، فربما يبكي لوس.’
فحاولت جاهدًة أن تبتسم. لم ترد أن ترى تلك العينين الجميلتين يكسوهما الحزن.
فريا أرادت أن تصون الشخص الأول الذي فتحت له قلبها.
تمنّت أن يظلّ لوس بعيدًا عن ظلال هذا العالم وظلامه.
ومع مرور الأيام، التأم جرحها على عجل، تاركًا ندبة غليظة لأنها لم تتلقَ علاجًا صحيحًا. لكنها لم تبالِ، فالمهم أنها لم تعد تتألم.
غير أن قلقًا جديدًا بدأ يراودها: ‘يبدو أن لوس تغيّر مؤخرًا.’
وبينما كانت تنظف المرآة بقطعة قماش جافة، نادته مرارًا لكنه لم يرد.
“لوس، هل هناك طائر غريب بالخارج؟”
“كنتِ تنادينني؟”
أجاب أخيرًا بابتسامة باهتة.
ورغم أنه أصغر منها سنًّا، إلا أن هالته باتت ناضجة على نحو جعل قلبها يثقل. صحيح أنه كان دائم النظر إلى الطيور في الخارج، لكن مؤخرًا صار يطيل ذلك بلا توقف.
‘لوس، أترغب أنت أيضًا أن تطير بعيدًا مثلها؟’
ملامحه الخالية من التعابير وهو يحدّق في الطيور، بثّت الخوف في قلبها. خشيت أن يختفي يومًا كما اختفى ذلك الطائر عن النافذة.
وفي إحدى الليالي، غلبها النوم على الأرض وهي متكوّرة، فهزّها أحدهم برفق حتى استيقظت.
“فريا … فريا.”
فتحت عينيها نصف مفتوحة، لتجد لوس واقفًا فوقها.
“ما الأمر في هذا الوقت المتأخر؟”
“طرأ أمر عاجل، عليّ أن أغادر قليلًا.”
للحظة، خُيّل إليها أنها تحلم.
“أين؟ أيّ مكان ستذهب إليه؟”
مدّ لوس يده ليمسح ندبتها برفق.
“أصغي إليّ جيدًا. سأعود لآخذكِ قريبًا”
نزع قلادة تتدلى منها زخرفة على شكل قمر، وعلّقها في عنقها.
بدا أطول قامة وأعمق نظرة من المعتاد. لكنها، وقد غلبها النعاس، لم تستوعب الموقف.
“لوس، العالم بالخارج خطير”
“صحيح. لذا عليكِ أن تصمدي هنا حتى أعود”
كان ذلك آخر ما تتذكّره من تلك الليلة.
ومنذ اختفاء لوس، انقطعت أخباره تمامًا.
صوفيا ثارت غضبًا، وأرسلت رجالها للبحث عنه.
‘أين تبخّر؟ هل صعد إلى السماء أم ابتلعته الأرض؟!’
لعنته بأبشع الأوصاف، واتهمته بالجحود.
أما فريا، فلم تُبدِ شيئًا لكنها ظلّت تنتظره.
ما إن يهتزّ الشباك بالريح، تهرع لتفتحه.
حتى رؤية حمامة على النافذة كانت تكفي لتدمع عيناها.
‘لوس، وعدتني أن تبقى بجانبي.’
في الليالي الماطرة، كانت ترتجف رعبًا وحيدة. لم يبقَ في المبنى الضخم سوى القليل من الأطفال، فصار موحشًا أكثر.
ومع ذلك، ظلت تتحمّل نزوات صوفيا وغضبها، فيما جسدها يزداد هزالًا.
وأخيرًا، بعد أن فشلت صوفيا في تجارتها كلها، تخلّت عن إدارة الميتم.
حتى تشايلو لم يعد يظهر. لم تعد فريا تفهم ما الذي يجري.
‘ماذا لو عاد لوس إلى هنا؟’
رغم أنها لم تصدّق أحدًا يومًا، فإنها لم تنسَ وعده.
‘قال لي أن أنتظره.’
لكن ربما كان من الأفضل ألا يعود. لعلّه بخير في مكانٍ ما، بعيدًا عن هذا الجحيم.
‘هذه الحياة لم تكن تناسب لوس الضعيف الصغير.’
آن الأوان لأن تحفظ ذكرياتهما معًا تحت اسم “الحنين”.
رفرفت الطيور خارج النافذة، فأدارت ظهرها لها. تحت عينيها، ترسّخت ظلال الكآبة.
***
• صباح مغادرتها الميتم.
وقفت فريا على الأرض المبتلة بمطر الليل، ترفع رأسها نحو المبنى الذي لم تفارقه قط.
مبنى ضخم بارد، يغشاه جوّ كئيب.
لم يحمل لها سوى ذكريات الجوع والبرد، ومع ذلك شعرت بالوحشة وهي تودّعه.
‘أختي … أختي …’
تردّد في أذنها صوت لوتي الذي كان يلاحقها دومًا. ثم طيف لوس بملامحه الملائكية، ولو لوقت قصير، عاد ليطلّ.
“… وداعًا.”
همست بكلمة قصيرة، وصعدت إلى العربة بوجه مرتعب.
تغيّر المنظر خلف النافذة كل لحظة، وكان بديعًا ومهيبًا إلى حدّ أخافها.
“ما هذا الوجه البليد؟ تبدين كفلاحة غبية.”
زمجرت صوفيا التي كانت تعاني من دوار السفر ، متذمّرة من شرود فريا.
“أعتذر.”
لم تعتَد فريا إلا على المباني الصغيرة بطابق واحد، لذلك حين دخلت العاصمة ورأت أبنية بثلاثة طوابق كأمر مألوف، انبهرت.
‘لو أطلت النظر لأعلى، سينكسر عنقي.’
تساءلت من شاد تلك الأبراج وكيف.
وزاد انبهارها الحشود الكثيرة التي ملأت الطرقات، فاهتز قلبها من رهبة البداية الجديدة في هذا المكان الصاخب.
‘ماذا سيحدث لي هنا؟’
لم تتوقف العربة إلا بعدما تجاوزت الأحياء المضيئة المزدهرة، لتدخل إلى حيٍّ معتم.
عند مبنى تزيّنه مصابيح حمراء توقّفت. ارتجفت فريا من رهبة الأجواء الكئيبة، ورأت الجرذان تجري عند قدميها.
“ما الذي تنتظرينه؟ أسرعي واحملي الحقائب.”
سحبت حقيبة أكبر من جسدها، تلهث تحت ثقلها، حتى دخلت المبنى. فاجأها عبق العطور الكثيف يملأ المكان.
ثم ما لبثت أن اختلطت به روائح الدخان والعرق.
‘أيّ مكان هذا؟’
لكنها لم تشعر بغربة كاملة، إذ رأت بعض الوجوه المألوفة من الميتم.
نساء ينظفن الأرض أو يتزيّنّ بمكياج ثقيل في الغرف الصغيرة.
كنّ أيضًا من أولئك اللواتي قيل إنهن رحلن إلى العاصمة.
لم يكن بينهن ودّ كافٍ للترحيب، فصرفت بصرها عنهن.
“فريا …”
ناداها صوت خافت. هناك، وقفت لوتي تحمل ممسحة، تحدّق فيها بدهشة. عندها فقط، شعرت فريا ببعض الاطمئنان.
لكنها لم تكد تفتح فمها حتى دوّى صراخ صوفيا: “ما بالُك تتلكّئين؟!”
لم تستطع حتى إلقاء التحية، واضطرت لمتابعة الطريق.
وحين دخلت غرفة صغيرة وهي تحمل حقيبتها، سألت: “خالتي، هل أرتّب الأمتعة؟”
“لا، دعيها. لن أمكث طويلًا هنا.”
رمقت صوفيا الغرفة باحتقار، ترتجف من الجدران والسرير، وكأن شيئًا لم يرقها.
أما فريا، فقارنتها بالميتم، فرأتها فاخرة، فلم تفهم نفورها.
“أنا لست شخصًا يقبل أن يُلقى به هنا. مستحيل” ، قالت ذلك بحزمٍ غامض، ثم شرعت في الاستعداد للخروج.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 7"