توجّه لوكيوس مباشرة من قاعة الحفل إلى مكتبه، ولم يتمكّن من الخروج إلّا بعد أن انتصف الليل.
كان قلبه يشتعل قلقًا كلّما فكّر بفريا التي تنتظره، لكنّه لم يستطع أن يترك عمله دون إنجاز.
“لأتناول العشاء مع الآنسة دوبوا.”
كان أمرًا يمكن لأيّ خطيب أن يفعله حتى من دون مشاعر خاصّة، لذلك حاول أن يبرّر لنفسه بهذا الشكل.
لكن حين بلغه أنّ فريا ليست في جناح وليّ العهد، ارتبك تمامًا.
“إذًا أين هي؟”
“قالت إنّها ستتناول الطعام مع قريبها السيد آرتشر فالتر.”
أن تكون مع آرتشر جعل قلبه يهدأ قليلًا، لكنّه لم يكن مرتاحًا لذلك.
كان يعلم تمام العلم أنّ قصّة القرابة تلك كذبة، ولم يكن يروق له أنّها أمضت وقتًا في خيمته من قبل أو أنّها تقترب منه كثيرًا.
‘يا لي من رجلٍ بائس، أغار بهذا الشكل …’
شعر بالخجل حين أدرك أنّه ليس بالرجل المتسامح كما ظنّ.
‘هل هذه مشاعر امتنان فعلًا؟’
وحين انغمس في التساؤل، اتّضحت مشاعره أكثر من أيّ وقت مضى.
‘امتنان؟ هراء!’
كان لوكيوس يحبّها.
ذلك الحبّ الطفولي الذي بدأ في دار الأيتام، أخذ الآن ينضج ببطء.
‘المشكلة الوحيدة أنّها مشاعر من طرفٍ واحد.’
وحين وصل أخيرًا بعد أن هدأ، فوجئ بفريا تسقط على الطاولة أمامه.
“فريا!”
نادى اسمها في الوقت ذاته هو و آرتشر بدهشة.
وحين اقترب، وجدها تبتسم نصف ابتسامة وعيناها نصف مغلقتين.
“قِطّة … إنها قِطّة.”
تمتمت بكلمات غريبة موجّهة إليه ثمّ غفت.
“صـ … صاحب السمو! أنا … حاولتُ منعها، أقسم … هي، أعني الآنسة دوبوا، شربت من تلقاء نفسها، هيهك!”
كان آرتشر مخمورًا تمامًا، وعظام دجاج عالقة خلف أذنه، وهو يحاول تبرير الموقف.
رمق لوكيوس زجاجات الخمر المبعثرة بنظرة باردة وقال بصرامة: “آرتشر، أمنعك من الشراب لمدّة نصف عام.”
“صاحب السمو! أَمرك مطاع!”
حاول آرتشر أن يقف لتحيّيه فسقط أرضًا فورًا.
تجاهله لوكيوس وتقدّم ليحمل فريا بين ذراعيه برفق.
“جيميني، تَصرّف مع هذا الرجل كما ترى مناسبًا.”
ظهر من الظلال رجل يرتدي ملابس سوداء وسحب آرتشر من ساقه خارجًا.
“فريا، هل خطيبتي مدمنة خمرٍ يا تُرى؟”
كان جسدها يفوح منه رائحة الخمر القويّة، وكانت تُحرّك ذراعيها في الهواء وهي نائمة كأنّها تحلم.
“لو … س. لا تذهب.”
كانت الكلمات بالكاد مسموعة، لكنّ لوكيوس توقّف في مكانه.
كان ينوي أخذها إلى غرفتها في جناح وليّ العهد، لكنه عدل عن ذلك.
فريا … متى سأستطيع البوح بكلّ شيء؟
لم يستطع أن يخبرها عن السرّ الذي يخفيه، ولا عن هذه المشاعر العنيفة التي تحكمه.
أدخلها إلى غرفة صغيرة تابعة لمخبئه السري، لكنّها فجأة بدأت تتقيّأ.
“يا إلهي …”
لم يكن أمامه سوى أن يُبدّل ثيابها لأنّها أتلفت ما كانت ترتديه.
لا يوجد من أثق به هنا، لذا لا يمكنني استدعاء خادمة.
جلب ماءً ونظّف وجهها وشفتيها وثوبها قدر الإمكان، ثمّ نزَع عنها الفستان وألبسها قميص نومٍ من ملابسه.
كان نظيفًا، لكنّ القميص كان واسعًا جدًا عليها.
“هل هو كبير جدًا … أم أنّكِ صغيرة جدًا؟”
كان صدر القميص مفتوحًا حتى كاد يظهر ما تحته، فالتفت سريعًا.
لم يكن ينوي شيئًا سيئًا، كلّ ما أراده ألاّ يراها أحد بهذه الحالة.
هاه … أهي الحاكمة ديانا تمتحنني؟
مرّر يده على وجهه بارتباك، ثمّ أطفأ جميع الأضواء.
تسلّل ضوء القمر من نافذة صغيرة، وملأ الغرفة أنفاس فريا النائمة ونظرات لوكيوس المتّقدة.
***
لم يتغيّر الكثير في حياة فريا اليوميّة ، كانت تواصل حضور دروس الآداب والبروتوكول، وتشرب الشاي أحيانًا مع الإمبراطورة، أو تشارك في اجتماعاتٍ مملّة.
الفتيات النبيلات أبدين اهتمامًا خاصًا بها.
‘لكن، بطريقةٍ ما … تغيّر كلّ شيء.’
لم تعد قادرة على النظر إلى وجه لوكيوس مباشرة.
لم ترد أن تُصدّق أن ما حدث في ليلة الخطوبة لم يكن حلمًا.
‘وحتى لو حاولت، لا أستطيع نسيانه أبدًا.’
رائحة تلك الليلة، حرارتها، ارتجاف بشرتها حين لامسها نظره …
كلّها ما زالت حاضرة بوضوحٍ مؤلم.
لذلك، كلّما التقت به، كانت تشعر بارتباكٍ أشدّ.
“فريا، عن الزواج … أردت أن أتحدّث.”
“ماذا؟!”
كادت قطعة التارت التي كانت تأكلها تخنقها.
“لا أرى سببًا لتأجيل الزواج بعد الخطوبة.”
“صـ … صاحب السمو …”
نظرت حولها إلى بيل و ميريام اللتين كانتا تقدّمان الشاي، ثمّ همست بخفوت: “مدة العقد بيننا أوشكت على الانتهاء.”
تلك السنة الطويلة التي ظنّتها لن تنتهي، بقي منها ثلاثة أشهر فقط.
‘لسنا مخطوبَين حقًا، فكيف نتزوّج؟’
لكنّ جدّية لوكيوس وهو يتكلّم جعلت قلبها يهبط كالحجر.
“فريا، لا يصحّ أن ترفضي قبل أن تسمعي كامل الحديث. لم ننتهِ من كلامنا تلك المرة”
حينها تذكّرت عرضه السابق — أن يمنحها عشرة أضعاف الذهب إن وافقت.
بدت الفكرة غير واقعية تمامًا، لذا تجاهلتها.
والآن، بدا عليه الإرهاق وكأنّه لم ينَم جيّدًا، وذلك جعلها تشفق عليه رغم نفسها.
‘إن بقيت معه أكثر، سأرتكب خطأً آخر.’
“صاحب السمو، لديّ موعد مهم اليوم … أستأذن.”
“موعد؟ ولماذا لا أعلم عنه شيئًا؟”
“سأشرح كلّ شيء لاحقًا.”
قفزت من مكانها قبل أن يتمكّن من إيقافها.
ارتدت المعطف الذي أعدّته ميريام وانطلقت راكضة في الممرّ.
لم تكترث بنظرات الاستغراب من حولها.
“آرتشر!”
“تمهّلي، ستسقطين إن ركضتِ هكذا.”
“آرتشر، هل تدري؟ أنت غريب جدًا هذه الأيام!”
“غريب؟ بأيّ معنى؟”
لم يكن يبدو كعادته أبدًا — بشعرٍ مرتب وثيابٍ أنيقة من سروالٍ كحليّ وقميصٍ أبيض وسترة سوداء.
بدَا كنبيلٍ حقيقيّ.
“حقًّا تبدو كأحد النبلاء.”
“تكرّرين ذلك دائمًا، أنا نَبيل فعلًا.”
حكّ رأسه بخجل، ثمّ سار نحو العربة حيث كان كلّ شيء جاهزًا.
هناك ظهر هيرو فجأة.
“هيرو أيضًا سيأتي؟”
“نعم، أحتاج إلى شراء بعض الأعشاب.”
“جيّد، هذا مناسب تمامًا.”
كانت فريا تنوي الذهاب إلى حيث توجد لوتي، لتطمئنّ عليها وتخطّط لطريقةٍ لإنقاذها.
لكنّ مراقبة الإمبراطورة الدائمة جعلت التحرّك صعبًا، و لهذا تظاهرت بأنّها ذاهبة لزيارة أقاربها مع آرتشر.
“فريا، أيمكنني أن أسألكِ عن تلك الصديقة؟”
لم تتحدّث من قبل لأحدٍ عن حياتها في دار الأيتام.
لم تكن تخجل منها، لكنها لم تكن قصّة سارة، وفوق ذلك، كان تشايلو لا يزال يلاحقها، لذا أرادت أن تكون حذرة.
‘لكن … يمكنني الوثوق بآرتشر وهيرو.’
رفعت رأسها في العربة المهتزّة، ونظرت إليهما بثبات قبل أن تقول: “لوتي فتاة عرفتها في دار الأيتام.”
وروت لهما بإيجاز قصّتها — كيف أنقذتها لوتي يومًا من مأزقٍ خطير.
“وعدتُها أنّني سأكسب المال وأعود لأصطحبها.”
لكن بعد أن التقت تشايلو في حفلة الخطوبة، دبّ الرعب في قلبها.
حتى لو جمعت المال، فماذا لو لم تعد لوتي بخير؟
“فريا، أريد أن أسألكِ شيئًا.”
قال هيرو بهدوءٍ وهو يصغي باهتمام.
“هل رأيتِ في دار الأيتام فتاةً ذات جمالٍ لافت وشَعرٍ أشقر؟”
اتّسعت عينا فريا بدهشة.
“هل يمكن للساحر أن يعرف مثل هذه الأشياء؟ نعم، هناك فتاة واحدة أتذكّرها جيدًا.”
“آه … فهمت.”
غطّى هيرو رأسه بردائه مجددًا وأصغى لبقيّة القصة بصمت،
بينما لم يتوقّف آرتشر عن طرح الأسئلة.
“إذًا اليوم ستتأكّدين فقط من أنّها بخير، صحيح؟”
“نعم، إن اندفعنا دون خطة فقد نفسد كلّ شيء.”
لكنّ المشكلة الكبرى بقيت — لربّما لوتي لم تعد هناك،
أو أنّ دخول ذلك المكان مستحيل.
“في تلك الحالة، اتركي الأمر لي.”
قال هيرو مبتسمًا وهو يرفع حاجبه بثقة.
“على الأقل وجهي أجمل من وجهكَ.”
تدخّل آتشر مدّعيًا الدعابة، فحاول الابتسام بطريقةٍ رقيقة لكنّ النتيجة كانت مضحكة.
“آرتشر، أنت فارس الإمبراطورية الأعظم، لذا عليك حمايته.”
“همم، هذا صحيح، الأعظم في الإمبراطورية!”
توقّفت العربة عند طريقٍ واسع قريب من الوجهة، ونزل هيرو و آرتشر لتنفيذ مهمّتهما.
ساد الصمت بعدها داخل العربة.
أسندت فريا رأسها للخلف وأغمضت عينيها قليلًا.
لم يكن من السهل أن تخصّص وقتًا كهذا، وكان عليها أن تستغلّه للراحة.
لكن قبل أن تغفو تمامًا، سمعت همسًا قرب أذنها: ‘فريا… فريا…’
كانت رائحة الحطب المحترق تملأ الغرفة في ذاكرتها، و ذراعا لوكيوس القويتان تُحيطان بها بينما يتساقط المطر على شفتيها.
ذكريات تلك الليلة دارت في رأسها كعجلات العربة، لا تتوقّف.
التعليقات لهذا الفصل " 69"