شدّت فريا عضلات بطنها ورفعت ذقنها بتعجرف.
“هل نعرف بعضنا من قبل؟”
“آه، يبدو أنّي أخطأت في رؤيتكِ.”
وقف الاثنان في منتصف الممر يتبادلان حديثًا متوتّرًا، و فجأة ظهرت وجهٌ مألوف من الجهة المقابلة.
“آنسة دوبوا، ما الذي تفعلينه هنا؟ هل انتهت الحفلة؟”
“الكونت ديبيرتو.”
ما إن نطقت فريا باسم الرجل، حتى شحب وجه صوفيا.
انتزعت المعطف من يد الخادمة لتغطي وجهها، ثم غادرت المكان دون حتى أن تودّعهم.
“آه…”
كانت فريا منهكة أصلًا من التحضيرات الطويلة للحفلة، و لقاءها بأشباح الماضي جعلها أكثر تعبًا.
تمايل جسدها قليلًا، فسارع الكونت إلى الإمساك بها.
“يبدو وجهكِ وكأنّه سيُغمى عليكِ في أيّ لحظة، فلنأخذ استراحة قصيرة.”
قادها الكونت إلى غرفة استقبال قريبة، وأمر الخادمة أن تحضر الماء.
“هل تشعرين بتحسّن؟”
كان الكونت بجانبها بوجهٍ قَلِق وهي تجلس على المقعد المائل قليلًا.
“أرهقتكَ.”
“ما هذا الكلام؟”
انفتح باب غرفة الاستقبال، ودخل شابٌّ انحنى نحوها باحترام.
“أستأذن بالدخول.”
رفعت فريا رأسها قليلًا، لتجد أمامها شابًّا يشبه الكونت تمامًا.
“اسمي غابرييل ديبيرتو. تلقّيت أمرًا من والدي بالحضور، فاعذريني على الإزعاج.”
تسلّل إلى قلب فريا شعور غريب.
‘كأنّني أعرفهما من قبل …’
لكنها لم تفهم سبب هذه الألفة تجاه أشخاص تراهم لأول مرّة.
“سمعتُ أنّكِ أنقذتِ والدي سابقًا، فأودّ أن أشكركِ بهذه المناسبة.”
“لا بأس، أيّ أحدٍ غيري كان سيفعل الشيء ذاته.”
“تفضّلي بالماء أولًا.”
ناولها الكونت الكأس بيده، فتناولته فريا وشربت.
شعرت بأنفاسها تهدأ أخيرًا، واستطاعت رؤية عينيهما الخضراوين بوضوح.
‘صحيح أنّ العيون الخضراء نادرة، لكن …’
ما زال بإمكانها اعتبار الأمر مجرّد صدفة.
“أعلم أنّكِ متعبة، لكنّي أودّ دعوتكِ إلى قصر عائلة ديبيرتو في وقتٍ لاحق.”
“حسنًا.”
لم تستطع رفض طلب الكونت المتكرّر بدعوتها، رغم أنّها في الحقيقة ليست نبيلة حقيقية.
وبعد أن استعادت قوتها، ودّعت الأب والابن، لكنّ أفكارها بقيت عالقة بهما طويلًا.
خلعت فريا الفستان الباهظ الثمن الذي بدا وكأنّه سيكلّف ثروة، وارتدت ملابس بسيطة.
“لمَ عدتِ بهذه السرعة؟ هل حدث شيء؟”
“لا، الأمير انشغل بأمرٍ طارئ، وأنا شعرت بالتعب قليلًا.”
كانت ملامح الإرهاق واضحة على فريا، فاقتربت ميريام وسألتها بلطف: “هل أُحضّر لكِ وجبة خفيفة؟”
“هل يمكنكِ تجهيز شيءٍ للأكل، من فضلكِ؟”
شعرت فريا بالاختناق، فخطر في بالها شخصٌ تودّ رؤيته.
“إذًا ارتاحي قليلًا بينما أُحضّر الطعام، آنستي.”
“شكرًا لكِ.”
بقيت فريا وحدها، فألقت نظرة جانبية على السرير.
‘ربّما أجرب الجلوس عليه مرةً واحدة.’
ظلت تتجوّل حوله لبضع لحظات قبل أن تجلس بخفة.
غاص جسدها في الوسادة الطريّة وشعرت بالدهشة.
“إنّه مختلف تمامًا عن سرير آرتشر.”
كان من المضحك مقارنة هذا السرير المريح بأسِرّة المعسكر المؤقتة في ساحة المعركة.
“لا بقايا عظام دجاج هنا، ولا فواكه يابسة.”
حرّكت جسدها قليلًا فاهتزّ السرير معها، وراحت تتأمل الفستان المعلّق على الجدار الذي رتّبته بيل بعناية.
“أشعر وكأنّ السحر انحلّ فجأة.”
بدأت تشكّ إن كانت رقصة الحفلة تلك قد حدثت فعلًا.
لكنّ النشوة التي شعرت بها سرعان ما غمرها القلق.
شايلو، وصوفيا …
لم يكن لقاؤهما في القصر أمرًا غريبًا، فقد كانت الشائعات عن شرائهما للألقاب النبيلة قد انتشرت بالفعل.
اليوم مرّ بسلام، لكن من يدري ما قد يحدث في المرة القادمة.
بدأت تعضّ أظافرها وكتفاها يهتزان.
“ماذا لو انكشف أمري؟”
لو اكتشف أحدٌ أنها ليست الآنسة دوبوا القادمة من ديلموند، بل فريا اليتيمة من الميتم …
سأُسبب المتاعب لسموّه لوكيوس.
وذلك سيكون أسوأ من خرق العقد نفسه.
أمسكت رأسها بكلتا يديها وصرخت: “كيف لم أفكّر في هذا من قبل؟ يا لي من حمقاء!”
كان جسدها مرهقًا، لكنّ رأسها يعجّ بالأفكار فلم تستطع النوم.
“آنستي فريا، الطعام الذي طلبتِه جاهز.”
جاء صوت ميريام وهي تدخل ومعها سلّة طعام.
ارتدت فريا عباءتها بسرعة، وأخذت ميريام معها بهدوء إلى خارج القصر.
كان مقصدها مسكن آرتشر، الذي كان في الحديقة الصغيرة يقطع الحطب.
“آرتشر!”
ما إن نادت بصوتٍ عالٍ حتى توقّف عمّا يفعل، والتفت نحوها بابتسامة مشرقة.
“لابد أنّكِ كنتِ رائعة الليلة يا فريا. كنت أتمنى الحضور، لكن المعذرة.”
“لا بأس.”
لم تكن حفلة حقيقية بالنسبة لها على أيّ حال.
ومع ذلك، وجدت نفسها ترفع كتفيها بفخرٍ خفيف.
“ميريام، ضعي السلّة هنا، إنها ثقيلة.”
“ما كلّ هذا الطعام؟”
مسح آرتشر العرق من جبينه وجلس وهو يمدّ أنفه نحو السلّة يشمّ رائحتها.
“ما هذا يا آرتشر؟”
حتى بعد أن أصبح فارسًا، ظلّ آرتشر كما هو دائمًا.
“كنت جائعًا تمامًا، كيف عرفتِ؟ أحسنتِ يا من ربّيتها على يدي.”
فتح السلّة فورًا ووضع في فمه قطعة خبزٍ مدهونة بمربّى الفراولة.
ومع رؤيتها لمربّى الفراولة يسيل على شفتيه، شعرت فريا بأنّ همومها بدأت تتبدّد قليلًا.
“ميريام، سأبقى هنا لبعض الوقت، عودي بعد قليل.”
“حسنًا، آنستي.”
ما إن خرجت ميريام، حتى أخرج آرتشر زجاجة خمرٍ خبأها تحت الطاولة.
“لا يليق أن نأكل هذا الطعام الشهي دون شرابٍ يرافقه.”
امتلأت السلّة باللحم والخبز والفواكه التي أعدّتها بيل وميريام بعناية.
وأخذت فريا تأكل بصمت طويل.
“ما زلتِ لم تتخلّي عن تلك العادة، أليس كذلك؟”
كانت عادة التهام الطعام بسرعة قديمة فيها؛ فمن لم يأكل بسرعة في الميتم، لم يكن يجد ما يأكله أبدًا.
“هناك أمر أودّ قوله.”
“ما هو؟”
كانت تشعر بأن الحديث الجادّ صعب دون بعض الشجاعة السائلة، فبلّلت شفتيها قليلًا بالخمر ثم تمتمت.
عندما واجهت ما لا تستطيع تحمّله وحدها، لم يخطر في بالها سوى وجه آرتشر.
“هناك أمران تقريبًا …”
لكنها ظلت تتردّد وتتلكأ بالكلام، فزمجر آرتشر.
“إمّا أن تتكلمي أو تشربي!”
“إنه … لديّ صديقة بحاجة للمساعدة.”
كانت في البداية تنوي جمع الكثير من الذهب لتذهب وتجلب لوتي، لكنّها خافت أن يصيبها مكروه.
“كسب الأصدقاء أمرٌ سهل، أليس كذلك؟ وماذا بعد؟”
قالها وهو يلتهم ساق دجاجة.
“اليوم قابلتُ في القصر مديرة الميتم التي كنت أعيش فيه.”
تجمّد آرتشر، ووضع الطعام من يده وحدّق في عينيها.
“هذا… مشكلة فعلًا.”
كي تدعم الأمير، كان عليها أن تتقن دور الآنسة دوبوا من ديلموند دون أيّ خطأ.
و آرتشر، الذي يعرف ماضيها أكثر من أيّ أحد، أدرك خطورة الموقف.
“هل هناك من آخرين يعرفونكِ؟”
“ليس بعد.”
تقلّص وجه فريا وكأنّ الطعام عالق في حلقها.
كانت تظن أنّ الحياة لا يمكن أن تكون أسوأ من أيام الشوارع، لكنها اكتشفت أنّ ارتداء الفستان لا يجعلها أسعد.
“لا يليق بكِ أن تكوني منهزمة هكذا.”
رماها آرتشر بحبّة جوز صغيرة على جبينها و رمش بعينه.
كانت تعاني صداعًا، لكن تصرّفه جعلها تضحك رغمًا عنها.
“ما الذي تفعله بالمريضة الآن؟”
“نحن من الناس الذين لا يمرضون، حتى لو اغتسلوا بماءٍ باردٍ وأكلوا لحمًا فاسدًا!”
“استبعدني من تلك الفئة، رجاءً.”
“مستحيل، نحن أقارب، لا يمكنني ذلك.”
رؤية آرتشر الهادئ الواثق وسط كلّ هذه الفوضى جعلها تهدأ بدورها.
“سأجد أفضل حلّ، فلا تقلقي. فلنؤجل همّ الغد إلى الغد، والليلة فلنأكل ونشرب.”
تذكّرت تحذير لوكيوس لها من شرب الخمر، لكنّها لم تستطع مقاومة الرغبة هذه المرة.
“أجل، لن أجد حلًّا بالتفكير فقط.”
“أرأيتِ؟ التفكير الزائد لا يجلب إلا الصداع.”
كانت قد اندمجت أكثر من اللازم في دور النبيلة، كما يبدو.
لكن كما قال آرتشر، ما حدث قد حدث، ولن يبقى سوى التعامل معه.
“صحيح، لقد أصبحتُ قوية جدًّا! ولن أخاف من أحد!”
“وأنا خلفكِ دومًا، فما الذي يُخيفك؟”
“صحيح، فآرتشر قويٌّ جدًّا!”
“بالطبع! لا شيء في هذا الجسد سوى العضلات!”
تبادلا كؤوس الخشب وضحكا طويلًا، واستعادت فريا شعور المخيّم القديم.
في خيمة آرتشر، كانت أوّل مرة ترفع صوتها بثقة.
‘إنّه حقًّا شخص ثمين.’
“فريا، هل سكبتِ الخمر على وجهك؟”
“لا يا آرتشر، هذه دموع.”
“تبكين الآن؟ بعد الأكل والضحك؟”
ارتبك آرتشر وهو يرى دموعها تنساب على خديها.
“فقط … لأنني ممتنّة لكلّ شيء.”
“يقولون إنّ من يفعل أشياءً غريبة فجأة، يموت بسرعة.”
حكّ آرتشر مؤخرة رأسه بخجل، ثم شرب ما تبقّى من زجاجته.
نعم، لا شيء يليق به أكثر من الدجاج والخمر.
“حين أنجح في النهاية، سأشتري لك عربة مليئة بسيقان الدجاج!”
“آه …”
تمتمت بكلماتٍ غير واضحة، ثم أسندت رأسها على الطاولة.
بفضل الخمر، لم تشعر بألمٍ يُذكر.
“آرتشر … سأنام قليلًا فقط.”
قبل أن تغمض عينيها، خُيّل إليها أنّها رأت قطةً ذهبية تمرّ بجانبها، لكنها لم تكن متأكدة.
التعليقات لهذا الفصل " 67"