كانت فريا تحدّق في الأرض وهي تضغط على أسنانها.
لم يكن يهمّها إن كان لوكيوس يُقدِم على أمرٍ خطيرٍ أم لا، فذلك لا علاقة له بها.
وفوق ذلك، كانت تشعر بغيظٍ شديد من وليّ العهد الذي لا يكفّ عن مضايقتها.
‘كفى. لا تفكّري في هذا أكثر. عندي واجبات متراكمة أهمّ.’
كانت على وشك العودة إلى غرفتها مباشرة، لكنها تردّدت بسبب فكرة راودتها منذ الظهر.
“بما أننا التقينا هكذا، فهناك أمر أودّ قوله.”
“ما هو؟”
“مهما فكّرتُ، هذا الاتفاق يبدو مجحفًا جدًّا في حقي.”
“ولِمَ تقولين ذلك؟”
“في البداية، قلتَ إنني سأعمل خادمةً في معسكرٍ حدودي، ولم أقل إنني سألعب دور النبيلة، أليس كذلك؟”
أشارت فريا إلى فستانها الأخضر الضيّق وهي تصرّ بأسنانها.
لم يكن هناك شيءٌ مريحٌ فيها، لا الوجه، ولا الشعر، ولا الحذاء.
“حقًّا، الأمر متعب للغاية.”
كانت منزعجة من تعرّضها للضرب على يد فرانشيسكا، كما أرادت أن ترمي واجباتها إلى الجحيم.
“لذا أودّ أن تُلبّي لي طلبًا واحدًا.”
“… همم.”
نظر إليها وهو يحدّق في عينيها الخضراوين المرفوعتين قليلًا، لكنه لم يجد ما يقول.
كان من المؤلم له أن يسمع شكواها، لأن كلّ ذلك كان بسبب طمعه.
‘كنتُ فقط أريد أن أردّ لها دفءَها الذي منحتني إياه.’
لكن حتى هذا التبرير بدا بائسًا وجبانًا.
لم يعرف ما يقول، وبدأ العرق البارد يسيل على ظهره.
بعد لحظةٍ من التحديق في عينيها الكبيرتين، فتح فمه أخيرًا.
“آسف لأنني جعلتكِ تتعبين دون قصد.”
“… ماذا؟”
تفاجأت فريا باعتذاره.
كانت متأكدة من أنه سيغضب أو ينفجر صراخًا.
“فريا، أنا جادّ.”
اليوم تحديدًا، كان شعره الذهبي يلمع بطريقةٍ غامضةٍ أكثر من المعتاد.
“… ما هذا الآن؟”
اقتربت أصابعه الطويلة فجأةً منها، فارتجفت بدهشة.
“اثبتي قليلًا.”
مدّ لوكيوس يده ليزيل خصلة شعرٍ التصقت بخدّها.
“وأيًّا يكن طلبكِ، فلا بأس به.”
عند همسه هذا، شهقت فريا بهدوء.
كان عليها أن تُبعد يده، لكنّ جسدها تجمّد ولم تستطع الحركة.
أعجبها أن ترى انعكاس صورتها في عينيه الزرقاوين.
ولم تلبث أن شعرت بأصابعه تلامس بقعة حبرٍ صغيرة على خدّها.
“يا لكِ من طفلة. ما هذا يا فريا.”
وحين مرّت أنامله على خدّها، تراجعت فجأة إلى الخلف حتى اصطدم ظهرها بدرابزين الشرفة.
ارتبكت من برودة المعدن وتمايلت، فامسكها لوكيوس بذراعه.
“احترسي.”
لكنها لم تشعر بالامتنان بقدر ما شعرت بالغضب.
‘لو لم تتصرّف هكذا، لما حصل كل هذا أصلاً.’
كانت تشعر بيده على كتفها فعضّت شفتها بقوة.
“لماذا أنتَ هكذا دائمًا …!”
توقّفت قبل أن تقول ما في نفسها — “لماذا تجعلني مشوَّشة هكذا.”
أمال لوكيوس رأسه باستغراب.
“وماذا بعد؟”
“لا شيء.”
حاولت التملّص من قبضته، لكنه لم يتركها.
‘غريب، صاحب السمو كأن له وجهين.’
كان يبدو شخصًا مختلفًا عندما يكونان وحدهما مقارنةً بما يكون عليه أمام الآخرين.
‘وهذا ما يجعلني مضطربة جدًّا.’
شعرت فريا بأن الهواء المحيط بهما صار ثقيلاً يخنق صدرها.
“أرجوك، اتركني.”
“فريا، انظري إليّ.”
“…….”
ارتجف صوته قليلًا.
رفعت رأسها ببطء، فرأت انعكاس وجهها في عينيه الزرقاوين، وبدأ قلبها يخفق ببطء.
احمرّت وجنتاها.
كان رجلاً سيّء السمعة، متقلّب المزاج، لا يُرى فيه شيءٌ يُعجب.
‘لكنه وسيمٌ بلا داعٍ حقًّا …’
ابتسم لوكيوس وهو ينظر إلى وجهها، ثم قال: “فريا ، هل تتدرّبين جيّدًا على الرقص؟”
“… الرقص؟”
بمجرّد أن سمعت الكلمة، دار رأسها.
فهي ترى كوابيس يوميّةً تسقط فيها وسط قاعة الحفل أمام الجميع.
“الحفل بعد ثلاثة أيام فقط.”
“لم أتدرّب كثيرًا هذه الأيّام.”
استعادت غضبها وهي تتذكّر ما حدث.
ساقها التي أصيبت شُفيت بفضل هيرو، لكن المعلّم المتحمّس بيير لم تعد تراه بعد.
“لنبدأ التدريب على الرقص الآن.”
“هنا؟”
كانت الشرفة واسعة نسبيًّا، لكنها ليست مكانًا مناسبًا للرقص.
قفز لوكيوس فوق الدرابزين ومدّ يده نحوها.
“خذي يدي، فريا.”
تلألأت عيناه الزرقاوان بوميضٍ غريب، فهزّت رأسها نافية.
شعرت بأن شيئًا سيئًا سيحدث.
“سأنزل من الدرج.”
“ستُلفتين الأنظار، وليس لدينا وقت.”
‘القفز سيُلفت الأنظار أكثر من النزول يا صاحب السمو.’
تمتمت في داخلها وزفرت.
كم هو صعب أن ترفض أوامره.
اضطرّت في النهاية إلى أن تمسك يده بهدوء.
وعندما وقفت إلى جانبه فوق الدرابزين، شعرت بدوارٍ في معدتها.
“فريا، لا تنظري إلى الأسفل، انظري إليّ فقط.”
‘حتى نظراتك مخيفة يا صاحب السمو.’
ارتجفت وهي تحدّق في عينيه الزرقاوين القاتمتين.
وفي تلك اللحظة، أحاط بذراعها فجأة ورفعها عن الأرض.
“آه!”
قفز بها من فوق الدرابزين في لحظة، فصرخت من الذعر.
فتحت عينيها بصعوبة فرأت لوكيوس يبتسم بخفة.
“آه! لماذا دائمًا تقفز هكذا؟!”
“لا تقلقي، لن تُصابي بأذى.”
اتكأت على صدره ثم حرّكت ساقيها بحذر.
كان محقًّا، لم تُصب بأذى، لكنّها لم تكن مرتاحة إطلاقًا.
فوليّ العهد قد يملك قوّة وحش، أمّا هي فمجرد إنسانةٍ عاديّة.
ابتعدت عنه بسرعة وهي تشدّ ثوبها المتجعّد، لكن يديها كانتا ترتجفان.
“لدينا درج، فلماذا هذا كلّه.”
تمتمت بغضب، فمدّ لوكيوس يده نحوها من جديد.
“لا أحبّ أن يرانا أحد. تعالي.”
“صاحب السمو، أشعر بدوارٍ شديد.”
كانت تشعر كما لو أنها في أول يومٍ تركب فيه عربة.
لكن لوكيوس أمسك يدها وبدأ يركض دون أن يمنحها فرصة لالتقاط أنفاسها.
“هـ… هـ … صاحب السمو، لا أستطيع أكثر.”
رغم شكواها المتكرّرة، جرّها بعنادٍ حتى توقّف أخيرًا.
وضعت يديها على صدرها تهدّئ أنفاسها اللاهثة، ثم مسحت عرق جبينها.
“آه! هذا المكان … إنه نفس المكان السابق!”
“لا أحد يأتي إلى هنا.”
كان القمر ينعكس على سطح البحيرة، فيمنح المكان سحرًا مختلفًا عن النهار.
انبهرت فريا بجمال المنظر الغامض، وشعرت بأنها ترى العالم بعينٍ جديدة،
فلم تعد منشغلة فقط بإشباع جوعها كما كانت في الماضي.
خشخشة—!
التفتت عند سماع صوت خطوات، فرأت لوكيوس يمدّ يده نحوها وينحني قليلًا بتحيّةٍ أنيقة.
كانت الريح تعبث بقميصه الأسود، كاشفةً عن كتفيه العريضين، بينما تلمع خصلات شعره الذهبي تحت ضوء القمر كأنها خيوط ضياء.
“لتباركِكِ الحاكمة ديانا.”
قبّل ظهر كفّها بلطفٍ وهمس.
ردّت عليه فريا دون وعيٍ بكلماتٍ تعلّمتها من فرانسيسكا.
“ولتكن بركة الحاكمة ديانا معك أيضًا، يا صاحب السمو.”
بدأ الاثنان يرقصان ببطءٍ على العشب الرطب الناعم، لا موسيقى سوى همس الرياح وأصوات الحشرات وغناء البحيرة.
‘يا إلهي … قلبي ينبض بقوّة.’
كانت المشاعر مختلفة تمامًا عن تلك التي شعرت بها حين رقصت مع المعلّم بيير أو مايكل.
كانت يد لوكيوس الكبيرة التي تمسك بيدها تُشعل وعيها،
وجبهتها التي تلامس صدره تحترق خجلًا.
وفوق ذلك، كان راقصًا بارعًا يقودها برشاقة تامة.
‘نظراته تجعل جسدي يشتعل.’
“فريا، هل أنا وسيم إلى هذا الحدّ؟”
كدت تتعثّر من سؤاله المفاجئ.
تظاهرت باللامبالاة وأدارت بجسدها دورانًا دون أن تجيب.
“لمَ لا تجيبين؟ أما زلتِ تفكرين في حبّكِ الأول؟”
سألها وهو يديرها بخفّة، يده ما تزال تحيط بخصرها.
“قولي لي، هل في إمبراطورية مورسياني رجلٌ أجمل منّي؟”
“وكيف لي أن أعرف كل رجال الإمبراطورية.”
لم ترغب أن تعطيه الجواب الذي يريده، فردّت ببرود.
فعتم وجهه فجأة.
“هل تودّين لقاء رجلٍ آخر؟”
هزّت رأسها بسرعة، متذكّرةً تحذيره السابق ألّا ترى أحدًا غيره.
“مستحيل، لا اهتمّ بمثل هذه الأمور.”
“أبدًا …؟”
كان من الصعب عليها التركيز في الرقص، فهو عادةً صامت، لكن حين يتحدث يكون فضوله لا نهاية له.
“أنا بالكاد أستطيع العيش، فكيف لي أن أفكر في لقاء أحد؟”
“لكن لو التقيتِ رجلاً وسيمًا وغنيًّا مثلي، ألا يتغيّر رأيكِ؟”
“سأفكّر في ذلك حين يحين الوقت.”
بمجرد أن قالتها، توقّف عن الرقص فجأة.
كانت ما تزال تمسك يده، وتنظر إليه بحذر.
‘يبدو أنه انزعج مجددًا.’
اعتادت على تقلب مزاجه، لكنها لم تكن تعرف السبب أبدًا.
“فريا، أظن أننا يجب أن نُقصّر فترة الخطوبة.”
“…هاه؟”
رمشت بدهشة، غير مدركةٍ لما يقصده.
“أعني الزواج.”
“الزواج…؟”
“لقد تغيّرت الخطط قليلًا.”
الزواج؟ وهي بالكاد استوعبت فكرة الخطوبة؟
“فريا، الخطوبة والزواج شيءٌ واحد.”
“…مستحيل.”
كان يتحدث وكأنّ الفارق بينهما هو بين كعكةٍ وبسكويت،
لكن بالنسبة لها، الفارق شاسع تمامًا.
‘الزواج من وليّ العهد؟ هذا جنون.’
فهم لوكيوس ارتباكها، فأضاف بسرعة: “على أيّ حال، كنا سنتزوّج بعد فترةٍ قصيرة من الخطوبة.”
“لم أفكر في الأمر أصلًا.”
ظنّت أن دورها سيتوقّف عند كونها خطيبةً مزيّفة فقط.
“سأدفع لكِ مكافأةً إضافية، ما رأيكِ؟”
“هذا ليس أمرًا يُحلّ بالمال!”
رمقته بنظرةٍ حادّة — نظرةٍ إلى وليّ عهدٍ يظنّ أن كل شيء في الدنيا يُشترى بالذهب.
التعليقات لهذا الفصل " 63"