بينما كانت تواصل لومَ سموّه، بدأت تشعر بأنّ ذلك ليس عدلاً تمامًا.
‘أنا المذنبة الأولى لأنّي قبلتُ مثل هذا العرض بدافع الطمع بالذهب. فمَن ألوم إذن؟’
وفي تلك اللحظة، كأنّ فرانشيسكا قرأت أفكارها، إذ دوّى صوتها الحادّ في أذنها.
“أين سرحتِ بعقلكِ مجدّدًا؟!”
وانطلقت عصاها الحادّة نحو ظهر فريا المنحني بشكلٍ غير متّزن، دون أن يظهر في حركتها أدنى تردّد.
“آه…”
“أتمنّى ألّا تنسي أنّني أبذل أقصى جهدي لتعليم الآنسة دوبوا، التي تفتقر إلى آداب النبلاء.”
وبينما كانت فريا تفرك ظهرها المتألّم، ارتسمت على وجه فرانشيسكا ابتسامةٌ ساخرة.
‘هي أسوأ من صوفيا إن لم تكن مثلها.’
فبعد أن تضربها، تتباهى بأنّها تُقدّم لها معروفًا!
لم تعد فريا تعرف كيف عليها أن تنظر إلى هذه المرأة، أو إلى عالم النبلاء كلّه.
وأخيرًا، توصّلت إلى إجابة جديدة عندما لا تعرف ماذا تقول.
“أنا ممتنّة لكِ.”
“كما تعلمين، في هذا الحفل الراقص سيُقام أيضًا للإعلان عن خطوبة سموّ الأمير هارت والآنسة إيديليون.”
ارتسمت على وجه فريا ملامح الانزعاج وهي تستقيم في جلستها. مجرّد ذكر سيلينا كان يكفي لإثارة قشعريرتها.
“حين تقفين بجانب الآنسة إيديليون التي وُلدت بالفخامة، فسيكون من الطبيعيّ أن يُقارنوكِ بها، لذا عليكِ أن تركّزي أكثر في الدروس.”
لكن كلمات فرانشيسكا لم تُحفّزها، بل أحبطتها تمامًا.
فكيف لها أن تتفوّق على من وُلدت نبيلة؟
‘هل سينتهي الأمر بسموّه لوكيوس إلى أن يُهان بسببي؟’
كانت تبذل جهدها في الدروس، لكنّ ما فعلته لم يكن سوى حلٍّ مؤقّت هشّ.
‘لو أمعن أحدهم النظر فيّ، لعرف فورًا أنّي لستُ من النبلاء بل من طبقةٍ متدنّية.’
لكن لا يمكنها أن تُظهر مثل هذا الضعف.
فأجابت بصوتٍ خافت: “نعم …”
“هذا يكفي لليوم.”
ارتاحت قليلًا لسماع أنّ الدرس انتهى.
“لكن انسخي هذه الفقرة مئة مرّة.”
“ماذا؟!”
اتّسعت عينا فريا في ذهول، غير مصدّقة لما سمعت.
“لأنّ خطّ الآنسة دوبوا بشع للغاية.”
لم يكن في كلامها كذب، لذا لم تجد فريا ما تردّ به، واكتفت بإيماءةٍ غاضبة.
‘أنا أكره القراءة، لكنّ الكتابة أسوأ منها.’
كانت تخطّط لأن تهرع إلى الحديقة حالما ينتهي الدرس، لتتسلّق شجرة وتستريح بعيدًا عن الأنظار.
“اللعنة! حتى لو قضيتُ الليل بأكمله، لن أستطيع نسخها مئة مرة!”
ارتبكت حين أدركت أنّها صاحت بصوتٍ عالٍ، فأسرعت تتلفّت حولها.
لحسن الحظّ، كانت الخادمة منشغلة بتنظيف النوافذ وجمع الأواني.
التقطت فريا قلمها ودفترها وكتبها ونهضت.
الجوّ جميلٌ جدًّا لأبقى حبيسة الغرفة.
وبينما كانت تتصبّب عرقًا، وصلت إلى هدفها: قوسٌ من الزهور البنفسجيّة في ركن الحديقة.
نشرت ما أحضرته وجلسَت على مقعدٍ مغطّى بأغصان اللبلاب.
“كم هذا رائع.”
كلّ شيء بدا جميلًا بعدما تخلّصت من ذلك الدرس المملّ.
لكن لم يكن الوقت مناسبًا للاسترخاء.
“لنرَ الآن.”
كانت الفقرة المطلوبة نحو عشر صفحات، أي مئة مرّة يعني ألف صفحة تقريبًا.
“هل جنّت؟!”
كان ذلك أقرب إلى التعذيب منه إلى الواجب.
تبًّا! لا أستطيع رفضه أيضًا لأنّها تتذرّع بمكانة سموّه.
لم يكن أمامها سوى العمل رغم التذمّر.
بدأت تكتب وهي تنفخ غضبًا.
ومع مرور الوقت، بدأ معصمها يصدر صوتًا غريبًا.
والأسوأ أنّها أنهت مرّةً واحدة فقط!
يا له من عذاب.
وضعت رأسها على الطاولة بيأس، وإذا بظلٍّ طويلٍ يمتدّ أمامها.
“فريا، هل أخذتِ قيلولة في وضح النهار؟”
“آه! مايكل!”
رفعت رأسها بسرعة فرأت مايكل يحمل سلّةً ويبتسم بهدوء.
“تبدين مشغولة، لكن ألا تملكين وقتًا لتناولي بعض الطعام؟”
في تلك اللحظة بدا لها كأنّه ملاك بلا جناحين.
“مرحبًا بك!”
نهضت على عجل ومدّت يدها لتدعوه للجلوس، فوضع السلّة على الطاولة.
في داخلها خبزٌ طازج ومربّى ولحمٌ وخضارٌ مطهوّة.
تذكّرت فريا أنّها لم تتناول شيئًا منذ الصباح بسبب الدرس المزعج.
“يا إلهي، وصلتَ في الوقت المناسب.”
“سررتُ بسماع ذلك.”
“إذن، لن أتردّد!”
وضعت قطعة اللحم على الخبز وقضمت قضمةً كبيرة، وكان الطعم يشبه إلى حدٍّ كبير ذلك الخبز المحشوّ الذي أكلته في الشارع من قبل.
ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ سعيدة، بينما راح مايكل يتأمّلها بصمت.
“أتعلمين كيف تأكلين بهذه الطريقة؟”
فالنبلاء عادةً يقطّعون اللحم والخبز إلى قطعٍ صغيرة ويأكلونها بأدبٍ مصطنع.
أما هي فكانت تفتح فمها واسعًا وتضع اللحم فوق الخبز بلا تكلّف.
ضحكت بتوتّر وهي تمسح الفتات عن فمها.
“لقد جرّبتُ ذلك مرّة حين خرجتُ خارج القصر.”
و مايكل، الذي وُلد من أمٍّ نبيلة وأبٍ من العامة، كان يعرف جيّدًا طعام الطبقات الدنيا، فقد نشأ في كنف إحدى الغجريات.
“أنا أيضًا أتناوله كثيرًا.”
ابتسم، ثم قلّدها فوضع اللحم على الخبز وقضمه، لكنّه ما لبث أن اختنق قليلاً.
فقد تذكّر فجأة أوامر الإمبراطورة.
‘مايكل، أغرِ تلك الفتاة. اجعلها تقع في حبّك، لتخون لوكيوس.’
لم يكن راغبًا في ذلك، لكنه لم يره أمرًا صعبًا.
‘قريبًا ستقع في شَبَكِي.’
فقد صارا مقرّبين في مدّةٍ وجيزة.
ومن خلال مراقبته الطويلة، علم أنّ الأمير لوكيوس لا يرى في فريا سوى وسيلةٍ للوصول إلى العرش. لم يكن يكنّ لها حبًّا ولا اهتمامًا حقيقيًّا.
‘في مكانٍ غريب، يمكن للطفٍ صغير أن يبدو كالسحر.’
تأمّل ابتسامتها وهي تأكل بشهيّة، وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ غامضة.
‘سواء كانت نبيلة أم عاميّة، النساء كلّهنّ متشابهات.’
لم يؤمن يومًا بالحب، وقد سئم من النساء مثل ميلادي اللواتي لم يردن سوى وهمٍ جميل.
كم من امرأة تركت زوجها وولدها لأجل نظرةٍ من عينيه الحمراوين.
‘وعندما ينهار الوهم، لن أكون أنا من يبكي.’
أفاق من أفكاره حين سمع صوتها.
“انتهيتُ من الأكل، عليّ أن أعود إلى الكتابة.”
أمسكت القلم من جديد، لكن سرعان ما استسلمت للكسل وبدأت تتململ، لتتلطّخ يداها وثوبها بالحبر.
“فريا، أتعلمين شيئًا؟”
“ما هو؟”
رفعت رأسها، وانعكست خُضرةُ الحديقة في عينيها الخضراوين.
كانت هناك نقطة حبر صغيرة على خدّها المزيّن بنمشٍ لطيف.
“آه، ذاك …”
اقترب منها مايكل قليلًا، وتجمّد للحظة وقد نسي ما كان يريد قوله.
كانت مختلفة عن كلّ النساء اللواتي عرفهنّ من قبل.
‘لا أرى في عينيها أيّ رغبة نحوي.’
“ما الأمر يا مايكل؟”
“فريا، أنتِ جميلةٌ جدًّا.”
“….”
اتّسعت عيناها بدهشة من جديّته.
“ما هذا يا مايكل؟ تمزح معي؟”
تفاجأ هو أيضًا بما قاله.
‘بل هي لم تُعرني انتباهًا أصلًا.’
فالنساء عادةً يحمرّ وجههنّ عندما يمتدحهنّ هكذا، لكنها لم تفعل. هزّ رأسه ضاحكًا بخفّة.
“هل انكشف أمري؟ لكن في كلامي بعض الصدق على الأقل.”
“شكرًا على كلّ حال.”
ثمّ عادت لتكتب بتركيزٍ مجدّدًا، فيما كان هو يراقبها بعينٍ متأمّلة، يمرّر يده على خدّه الساخن.
‘ستأتي فرصةٌ أخرى أنسب.’
***
حين مالت الشمس إلى الغروب، عادت فريا إلى غرفتها وهي تئنّ من ألم ظهرها وكتفيها بعد جلسة الكتابة الطويلة.
لم أنهِ حتى نصفه، لكن يجب أن أستريح قليلًا.
ندمت لأنّها رفضت عرض مايكل بمساعدتها بسحره في نسخ الفقرات.
لكنّي أردتُ أن أنجزه بجهدي أنا!
من دون مساعدة أحد.
وهي على وشك النوم، وضعت أدواتها على الطاولة وتوجّهت إلى الشرفة.
وما إن فتحت الباب حتى شهقت بصوتٍ عالٍ.
“جلالتك! هذا خطر!”
كان لوكيوس واقفًا على حافّة الشرفة مرتديًا عباءةً سوداء، والريح تعبث بشعره وهو مغمض العينين كأنّه سيسقط في أيّ لحظة.
نادته، لكنه لم يتحرّك.
“سموّك لوكيوس!”
صرخت بصوتٍ أعلى، فاهتزّت أطراف عباءته المذهّبة، وكاد يختلّ توازنه.
“يا إلهي!”
كان الموقف مرعبًا، فغطّت عينيها بيديها وهي تشعر بارتجاجٍ خفيفٍ تحت قدميها.
وحين فتحت عينيها، كان لوكيوس قد قفز إلى داخل الشرفة.
رتّب شعره المبعثر وابتسم لها بخفّة.
“فريا، هل كنتِ قلقة عليّ؟”
“مَن يقلق؟! لا تقل شيئًا سخيفًا كهذا!”
صرخت وهي محمرّة الوجه، فأخذ يحدّق فيها مبتسمًا.
“إذن يجب أن أضع نفسي في مواقفٍ خطرةٍ أكثر.”
“هاه؟”
لم تفهم قصده، وبينما كان القمرُ المستدير يُضيء خلفهما، بدا المشهد غارقًا في وهجٍ فضّيّ ساحر.
التعليقات لهذا الفصل " 62"