“صحيح. هذا يبعث على الحماسة حقًّا.”
حين بدأت هي بالطّهو، جلس لوكيوس على الطاولة المقابلة، متكئًا بيده على ذقنه.
أمّا فريا، فكانت تغلي من الغضب بسبب طلبه المفاجئ.
‘هل يُراقبني خوفًا من أن أفسد الطّعام عمدًا؟’
تجاهلت فريا نظرته بصعوبة، وسكبت الماء في القدر الموضوع فوق الموقد وتركته حتى يغلي.
قشّرت البطاطا، وألقت بها مع اللّحم داخل القدر، ثم بدأت تُحرّك المزيج وتُغليه على مهل.
وحين نضج اللّحم، فتّتت الخبز وألقته في القدر، ورشّت قليلًا من الملح.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى انتهت من الطّهو.
“جلالتك ، تفضّل.”
“…….”
ارتفع بخار دافئ من العصيدة المجهولة الموضوعة أمام لوكيوس.
“فريا، ما اسم هذا الطّعام؟”
“إنّه عصيدة ديلموند الخاصّة.”
ناولته فريا ملعقة خشبيّة خشنة دون أن تنبس بكلمة، ثم كسرت قطعة خبز وغمرتها في العصيدة وبدأت تأكل.
تأثّر لوكيوس قليلًا من تصرّفها ذاك، فقال بصوت خافت:”لن تدعيني أتناولها؟”
“ولم تقل أنتَ شكرًا لأنّي أعددتها لك.”
هزّت فريا كتفيها، واستمرّت في الأكل.
كانت على حقّ تمامًا، لذا شعر لوكيوس بالإحراج.
يبدو أنّه تحمّس كثيرًا لمجرّد أنّها قالت إنّها ستطهو له شيئًا.
أطلق سعالًا خفيفًا ليُخفي ارتباكه وقال: “سأتناولها إذًا.”
تذوّق لوكيوس العصيدة ولم ينطق لوهلة.
ذاك الطّعم المألوف أعاد إليه صورة المبنى الكئيب الذي ظنّ أنّه نسيه.
رغم أنّها كانت ألذّ وأغنى بكثير ممّا تذوّقه آنذاك.
‘كنتُ أتناول هناك ما لا يُشبه الطّعام أصلًا.’
فقد كان أكل الطّعام الفاسد أو المتعفّن أمرًا معتادًا.
في الواقع، لم يستعد كلّ ذكرياته بعد، بل تذكّر فريا فقط.
فذلك الدّواء الذي حوّله من فتى في السّادسة عشرة إلى طفل في الثّامنة، ثم أعاده إلى عمره، كان قاسيًا جدًّا.
ارتسم في ذهنه صوت هيرو يوم هرب من القصر: <جلالتك، اختبئ لبعض الوقت، وسأقنع الكونت ديبيرتو وأعود لأصحبك بنفسي>
كانت فرص النّجاح متساوية بين الفشل والنّجاة.
فنصف نبلاء إمبراطوريّة مورسياني لم يهتمّوا بصراع الورثة، أمّا النّصف الآخر فكانوا يتبعون مصالحهم، لا شرفهم.
وفي ظلّ هذا، كان أغلبهم يقف في صفّ الإمبراطورة ميلادي، ممّا جعل موقع لوكيوس كوريثٍ للعرش في غاية الخطر.
<الوضع سيّء للغاية بسبب المصائب التي حلّت بكثير من النبلاء الذين أيّدوك>
قال هيرو ذلك بوجهٍ متجهّم، ثم أضاف: <ما دمت على قيد الحياة، يمكنك أن تخطّط لأيّ شيء.>
ثمّ ناوله الدّواء، وحين استيقظ لوكيوس، وجد نفسه في ميتمٍ مجهول.
وهناك، التقى بفتاة صغيرة صدفةً في العلّية.
تبادلا بضع كلمات قصيرة، ثم تظاهر بالنّوم، وعندما غادرت الفتاة، ألقت شيئًا على كتفه.
وحين فتح عينيه، وجد قطعة قماش بالية جدًّا.
لم يرمها، بل أمسكها برفق.
‘إنّها دافئة.’
كانت قطعة القماش تلك مشبعة بعطرها المميّز، وأحسّ وكأنّ أحدًا يحتضن جراح صدره الممزّق.
ربّما منذ تلك اللّحظة تحديدًا، لفتت تلك الفتاة ذات العينين الخضراوين انتباهه أكثر من سواها.
ابتسم لوكيوس بخفّة وهو يتذكّر ذلك الماضي بينما يتذوّق العصيدة.
“ربّما لا تناسب ذوق جلالتك.”
تمتمت فريا، معتقدة أنّه يبتسم سخريةً منها.
فهي تعلم أنّ طعامًا بسيطًا كهذا لا يليق بشخصٍ نبيل مثله، بخلاف ما كان في الميتم حيث لم يكن لديهم إلا مثل هذه الأطعمة البسيطة طوال العام.
“ما باليد حيلة، هذا كلّ ما أعرف صنعه.”
“طعمه ليس سيئًا.”
“… ماذا؟”
تفاجأت فريا من إطرائه، إذ توقّعت أن يسخر من طعامها.
“له طعم غريب … يبعث على الحنين.”
زمّت شفتيها وهي تسمعه يتمتم كأنّه يحدّث نفسه.
‘وكيف لشخصٍ نبيلٍ مثله أن يعرف طعمًا كهذه العصيدة؟’
وبعدها، جلس الاثنان متقابلين يأكلان بصمت، لا يُسمع إلا صوت النار المشتعلة واحتكاك الملاعق بجوانب الأوعية.
“فريا، لقد استمتعتُ بالطّعام.”
قالها بلطفٍ غير معتاد، فاضطربت.
بالكاد استطاع في حياته أن يتذوّق طعامًا بهذه الدّفء، تمامًا كما شعر بدفء تلك القطعة القديمة من القماش.
“إنّ ه… لا شيء يُذكر.”
لم تعرف فريا إن كان كلامه صادقًا أم لا.
“وهذا … مقابلٌ بسيط.”
نهض لوكيوس ودفع نحوها صندوقًا صغيرًا ثم غادر قبل أن تسأله شيئًا.
نظرت حولها فرأت خادماتٍ يتهامسن ويلوحن بنظراتٍ مستغربة نحوها.
لم يكن من المألوف أن تعمل ابنة نبيلٍ في المطبخ.
‘حقًّا، ما هذا الوضع؟’
رغم أنّها كانت يجب أن تشعر بالمهانة، إلّا أنّها لم تستطع كبح دفءٍ خفيفٍ في قلبها.
أخفت الصندوق في كمّها الطويل وغادرت المطبخ بخطًى هادئة.
“إنّه شخصٌ غريبٌ حقًّا.”
تمتمت فريا وهي تغيّر ثوبها في غرفتها، سعيدة على الأقل بأنّ يومها انتهى بسلام.
“أنجزتُ كلّ شيء، وشبعتُ أيضًا.”
تذكّرت العصيدة، وارتسمت على وجهها ابتسامةٌ صغيرة.
“آه، تذكّرتُ هذا.”
فتحت الصندوق بسرعة، فرأت نصف ثمرة برتقالٍ موضوعةٍ بداخله.
“ما هذا؟! هل أعطاني ما تبقّى من برتقالته؟”
ضحكت باستياء.
“لكن … ما بالملعقة؟”
كانت هناك ملعقة صغيرة مربوطة بشريطٍ أصفر.
شعرت بشيءٍ غريب وهي تلتقطها، لأنّ “البرتقالة” لم تكن كما ظنّت.
كانت لامعةً ومتماسكة بطريقةٍ مختلفة.
“ليست برتقالةً حقًّا.”
أدخلت الملعقة بحذر، فشعرت بملمسٍ طريّ، وحين ذاقت منها، اتّسعت عيناها دهشة.
كانت تفوح منها رائحة البرتقال، لكنّها لم تكن فاكهة.
“بودينغ …؟”
عندها لاحظت الكلمات المنقوشة بالذهب على سطح الصندوق.
“يا له من أمر! ألم يكن يستطيع أن يقول ما هذا على الأقل؟”
تمتمت بامتعاضٍ خفيف وهي تأكل البودينغ.
“هل أتناول قليلًا بعد؟”
لم تلبث أن أفرغت القشرة كلّها بسرعة، وبقيت الملعقة فقط.
يمكنني أن آكل عشرة من هذه!
لحست شفتيها بأسفٍ صغير، ثم وضعت الملعقة الجميلة في الصندوق مجدّدًا.
سأخفيها، حتّى لا يراها أحد.
تذكّرت كيف كانت تسخر من لوتي حين تجمع الحصى في طبقٍ صغير، وضحكت على نفسها لأنّها الآن تشبهها.
“صحيح، هذا أيضًا.”
وضعت القارورة الزجاجيّة التي منحها إيّاها هيرو في الصندوق أيضًا، وشعرت فجأة وكأنّها أصبحت غنيّة.
أخفت الصندوق جيّدًا تحت السّرير، و تمددت بتعبٍ ثمّ اتّكأت على الأريكة.
“تصبحي على خير …”
همست نحو الستارة الحريريّة التي تمايلت برفقٍ مع النّسيم، ثمّ أغمضت عينيها.
***
استيقظت فريا في الصّباح، وبحلول السّاعة الرّابعة مساءً، كانت قد اغتاظت من لوكيوس بالضّبط ثلاثًا وثلاثين مرّة.
“الآنسة دوبوا، جلالة الإمبراطورة تطلب حضورك.”
“هاه؟”
لم يبدأ يومها بعد، وها هي تُستدعى لرؤية أكثر وجهٍ تكرهه في القصر.
تنهّدت، وتوجّهت إلى المكان بوجهٍ متجهّم، لتجد الإمبراطورة محاطةً بعشرات النّبيلات.
“دعوتُ الآنسة دوبوا اليوم لأنّي فضوليّة بشأن بلاد ديلموند”
كانت الكلمات لطيفة في ظاهرها، لكنّ الأسئلة التي انهالت عليها كانت فظيعة.
“هل صحيح أن أهل تلك البلاد لا يرتدون الملابس تقريبًا؟”
“وهل صحيح أنّهم ينقعون الخبز بالماء لأنّهم لا يملكون طعامًا؟”
كظمت فريا غضبها كي لا يحمرّ وجهها.
‘اجتمعنَ خصّيصًا ليسخرنَ منّي، أليس كذلك؟’
تداخلت في ذهنها وجوه النبلاء الذين زاروا الميتم يومًا.
كانوا يقولون إنّهم يشفقون على الأطفال، لكنّ أعينهم كانت مليئة بالاحتقار.
“نعم! كلّ ذلك صحيح!”
صُدمت إحدى النبيلات وهي تلوّح بمروحتها، فتابعت فريا بجرأةٍ مصطنعة: “نعم، نسير عراةً، ونأكل بأيدينا أيضًا.”
“يا للفظاعة!”
“وليس هذا فحسب، لا أطبّاء عندنا، لذا يموت المريض كما هو.”
كانت فريا تعلم أنّهم لا يعرفون شيئًا عن ديلموند، لذا سردت عليهم حكايات من الميتم عوضًا عن ذلك، طالما أنّ غايتهم كانت إذلالها فقط.
***
حين انتهى ذلك اللقاء المقيت وغادرت، كانت الغضب يتصاعد منها.
تصرّفت ببرودٍ أمامهم، لكنّها كانت تغلي في داخلها.
‘كيف يتعاملون مع الناس وكأنّهم حيواناتٍ غريبة؟’
وما زاد غيظها أنّها كانت بالأمس تبتسم بسبب البودينغ الذي قدّمه لوكيوس.
‘ألهذا الحدّ نسيتُ أين أنا؟ يا للحمق يا فريا!’
وبينما كانت تفكّر في ذلك، انهالت عليها عصا المعلمة.
“آه!”
“الآنسة دوبوا، ركّزي!”
‘دروس الآداب هذه تُصيبني بالدّوار أكثر فأكثر!’
كم عدد هذه القواعد السّخيفة؟ من اخترعها أصلًا؟ لا بدّ أنّه أراد تعذيب النّاس.
“الآنسة دوبوا، اخفضي ظهرك قليلًا.”
“حاضر …”
كانت تتدرّب على آداب الانحناء والرّقص أمام الإمبراطور أو النبلاء في الحفلات القادمة.
ألمٌ في الظهر، وتيبّسٌ في العنق.
‘سأطالب بجائزةٍ إضافيّة عندما أرى جلالته!’
قالت هذا في نفسها و هي تشدّ قبضتيها بينما تُكرّر الحركة مئات المرّات.
التعليقات لهذا الفصل " 61"