كان النسيم الذي يلامس وجنتيها باردًا بما يكفي ليعلن عن بداية الشتاء.
“لندخل ونمسح الإطار بسرعة.”
كانت فريا تضم كتفيها بيديها وهي تمشي، حين سمعت صوتًا غريبًا. كان بوضوح أنين شخصٍ يتألم.
“مَن هناك …؟”
اقتربت فريا، فرأت صبيًّا ساقطًا عند البوابة الخلفيّة لدار الأيتام، لم يتمكّن حتّى من تجاوزها.
بدا أنّه تعرّض لضربٍ مبرح، فثيابه تحوّلت إلى خرَقٍ بالية، والدماء تنزف منه.
على الرغم من حالته المروّعة، إلّا أنّ شعره الأشقر كان يتلألأ تحت أشعة الشمس، وكان ثمة عبيرٌ خفيف يتسلّل منه.
‘بما أنّه ما يزال يتأوّه، فلا بدّ أنّه لم يمت بعد.’
قلبت فريا جسد الصبي بصعوبة وهي تئن.
“يا إلهي …”
أقسمت فريا أنّها لم ترَ في حياتها شيئًا بهذه الجمال، كأنّ الحاكمة ديانا أرسلته.
كان وجهه الصغير، المغمض العينين، يبدو كـ …
“كالكعكة، ناصع البياض وجميل.”
تردّدت قليلًا أمام الصبي الجريح. كانت تكره أن تُكلَّف بأمور مزعجة.
‘ماذا لو عوقبت لأنّي تسببت بمتاعب بلا داعٍ؟’
مجرد التفكير في ضربات صوفيا جعل معدتها تتقلّب رعبًا.
“لكن … لا أريد أن أرى طفلًا بهذا الجمال يموت أمامي.”
في هذا الملجأ، دُفن بالفعل عدد من الأطفال الذين عاشوا معها.
بعد تردّد، ذهبت فريا إلى صوفيا وروت لها ما حدث مع الصبي الذي وجدته. كانت صوفيا متبلّدة، لكن ما إن رأت وجهه حتّى تغيّر كلامها.
“يبدو أنّ عليّ أن أعتني به. فهذا جزء من رسالتي: رعاية الأطفال المتألمين والوَحيدين”
أدهش كلامها الجادّ فريا، لكنها لم تستطع إلا أن تفكر:
‘…ترعى مَن بالضبط؟ أيّ كلام فارغ.’
فهي نفسها لم تتلقّ أيّ رعاية من صوفيا.
“سيكون بخير … أليس كذلك؟”
راقبت فريا من بعيد وهم ينقلون الصبي. فكّرت: هل اقترفت حماقة؟ لكنها سرعان ما هزّت رأسها.
“…أنا غارقة في همومي، كيف أقلق على غيري؟”
الحياة والموت كلاهما بيد الحاكمة ديانا.
عادت فريا إلى عملها، وأخذت تمسح الغبار بعنف بين الدرج والإطار بخرقتها.
***
كان الوقت أحيانًا راكدًا مثل ماءٍ آسن، وأحيانًا يجري مسرعًا كالسهم. مرّت سنة، وحدثت تغييرات كبيرة وصغيرة في دار الأيتام حيث تعيش فريا.
“لقد صدر أمر من القصر الإمبراطوري بإزالة كل ما يلوّث الشوارع”
الأمر الإمبراطوري ضرب المتسوّلين وباعة الأرصفة أولًا.
جنّ جنون صوفيا حين سمعت الخبر.
“وماذا يفترض بنا أن نفعل إذًا؟ لدينا أفواه كثيرة يجب إطعامها!”
كان الملجأ يُعرَف ظاهريًا كمؤسسة خيرية للأيتام ، لكن داخله كان يعجّ بالفساد.
لم تُستخدَم من إعانات الإمبراطورية إلّا النزر اليسير في وجبات تشبه علف الخنازير.
أما التدفئة فكانت حكرًا على غرفة صوفيا والمدير.
الباقي يذهب كلّه إلى جيب المدير.
ولم يقف الأمر عند هذا؛ بل كانت أرباح السرقات والتسوّل التي أجبروا الأطفال عليها تُنهَب بالكامل.
بسبب المرسوم، توقّف الأطفال فجأة عن الخروج للعمل، فعمّ القلق بينهم.
لوتي، التي كانت تلازم فريا دومًا، سألتها: “فريا، ألا تحسين بالغرابة لعدم خروجنا للعمل؟”
“…لا أدري.”
لكن فريا لم تستطع أن تعطي لوتي ما تريده. لم يكونا عائلة.
‘نحن مجرد علاقة قد تنقطع في أيّ لحظة.’
ومع ذلك، كان من الصعب أن تتجاهل لوتي، التي تعلّقت بها بشدّة. لذلك أسقطت بخفية قطعة من الدونات التي خبّأتها.
“أختي … هل هذه لي؟”
ابتسمت لوتي ببراءة وهي تمسك نصف الدونات، فردّت فريا بفتور: “لا أدري. ربما كانت موجودة هناك أصلًا.”
كانت في الحقيقة قد التقطتها من بقايا صوفيا، لكنّها تذكّرت شغف لوتي بالأكل فأبقتها. لم تكن تنوي أن تشرح.
بحثت فريا عن مكان هادئ لتنسج فيه ، فجالت أرجاء الملجأ حتى وصلت للأعلى. المبنى الضيّق اكتظّ بالأطفال المحبوسين بلا عمل، فلم تجد مكانًا يريحها.
“هنا، لن أجد أحدًا.”
علّية الملجأ كان يُشاع أنّ فيها أشباحًا.
انظري لهذه الأتربة – تشه.
صعدت الدرج المتهالك، فتناثرت الغبرة على يديها. كانت الأصوات المزعجة للخشب صاخبة، لكنها واصلت صعودها.
دفعت الباب الخشبي الصغير وأدخلت جسدها بصعوبة. كان الداخل أكثر عتمة ممّا توقّعت، حتى إن بصرها بدأ يعتاد الظلام.
“مظلم جدًّا … هل أستطيع الحياكة هنا أصلًا؟”
حين لم يعد بوسع صوفيا إرسال الأطفال للتسوّل، جلبت لهم أعمالًا يدوية كالخياطة والحياكة. حتى أصغر الأطفال كان عليهم حصّة مفروضة، ومن لا يُنجز يُحرَم من الطعام.
“لا أرى جيدًا.”
كانت هناك نافذة صغيرة، لكنها مغطاة بطبقة سميكة من الغبار. جلست فريا في أيّ مكان، تتحسّس الأرض بيديها.
وما إن اعتادت عيناها الظلام، حتى رأت ضوءًا خافتًا في الجهة المقابلة.
“شبح …؟”
لكنها لم تكترث. فهي تخشى الأحياء لا الأموات.
حينها سُمِع صوت خافت: “لستُ شبحًا.”
وبتركيز، رأت خصلات شَعرٍ صفراء كزهور الكاناري.
‘آه … لا بدّ أنّه الصبي الذي أنقذتُه من قبل.’
كانت قد انشغلت لدرجة أنّها نسيته تمامًا. شعرت فجأة بالحرج، فتمتمت بصوتٍ خافت: “آسفة إن أزعجتُك، سأبقى قليلًا للحياكة ثم أنزل.”
ورفعت أدواتها قليلًا لتُريه.
“لا بأس ببقائكِ هنا.”
“… “
كان صوته المكسور يغمره شعور بالوحدة.
من الواضح أنه لم يتأقلم مع حياة الملجأ بعد.
‘إن ظلّ هكذا، فلن تكون عاقبته بخير …’
صوفيا كانت تكره الأطفال الذين لا يعرفون كيف يجاملون أو يتودّدون. تخيّلت وجهه الجميل مشوّهًا بالندوب ، فانقبض قلبها.
‘لكن … ما علاقتي أنا؟’
في هذا المكان، كان الحفاظ على النفس وحده أمرًا شاقًّا.
لذلك واصلت فريا العمل بيديها في الظلام.
إن لم تُنجز نصيبها، ستُحرَم من الطعام.
الحياكة كانت عملًا شاقًّا ومملًّا. ومع ذلك، قالت صوفيا إن منتجات الملجأ رائجة جدًّا.
‘لأنها مصنوعة بأيدي أطفالٍ بائسين.’
الناس يشترونها بأثمان عالية بدافع الشفقة، فيُمدحون كأهل فضل. تخيّلت فريا أنّ القبعة الصغيرة التي تحيكها ستلقى نفس المصير، فأصابها شعور غريب.
‘… طفلة بائسة.’
الناس كانوا يقولون عنها تارة إن ملامحها شرسة، وتارة إنها مسكينة. وهذا ما كانت تكرهه.
‘مثير للغيظ فعلًا.’
لكنها فجأة أدركت أنّ الصبي المقابل يراقب حركتها بصمت.
‘ما هذا؟ كأنّه غير موجود أصلًا.’
لم يكن يعجبها إلحاح لوتي، لكنها أيضًا لم ترتح لصمته المفرط.
“وأنت، ماذا تفعل هنا؟”
لم تستطع تحمل الصمت أكثر، فنطقت أولًا. لم يكن بدافع الفضول، بل لأنها استغربت أنها لم ترَ صبيًا بملامح كهذه من قبل.
“كح … كح …”
كان ضعيفًا للغاية، يكحّ بشدة، فلم تسمع إجابته إلا بعد فترة.
“أساعد الآنسة صوفيا في عملها.”
“واو، رائع فعلًا!”
أي إنّه لا يخرج ليسرق أو يتسوّل. لكن حين تذكّرت وجه صوفيا الكالح، تساءلت إن كان هذا يستحق الإعجاب حقًّا.
“لكن … هل أنت بخير فعلًا؟”
شعرت بالحرج بعد أن سألت.
هنا لم يكن أحد يهتم بصحّة الآخرين. من يمرض ، يذبل حتى يموت. الطبيب لم يكن يُستدعى إلّا لصوفيا.
“أنا بخير الآن.”
ثم ساد الصمت من جديد.
كانت فريا ترى أنّ التسوّل أهون من الحياكة. أن تبقى حبيسة المكان تصنع قبّعات لم يكن يناسبها.
‘أشعر كأن أصابعي تجمّدت.’
وحين قاربت على إنهاء قبعة، بدأ ضوء النهار يتلاشى خلف النافذة.
“هل تأخّر الوقت هكذا؟”
عليها أن تسرع لتصل قاعة الطعام. رتّبت أدواتها على عجل.
“إن تأخّرت، قد لا أحصل حتى على حساء.”
لكنها سمعت فجأة أنفاسًا متقطّعة من الجهة الأخرى.
أضاء ضوء النافذة ملامح الصبي الملقى على الغبار.
بدا مرهقًا إلى حدٍّ كبير.
“ماذا؟ ألستَ مريضًا فعلًا؟”
رغم قوله إنه بخير، كان واضحًا أنه ليس كذلك.
يا له من صبي يثير القلق …
كما في المرة الأولى، كان من الصعب أن تدير ظهرها له.
نزعت شالها البالي وألقته فوق جسده، ثم أسرعت بالنزول.
دوّى صرير الدرج المتهالك عاليًا في المكان.
***
غيّرت سياسات الدولة الكثير في دار الأيتام.
حاولت صوفيا أن ترسل الأطفال للتسوّل سرًّا، لكن النتائج كانت سيئة.
“قلتُ إنني لا أعرف هؤلاء الأطفال!”
فمن تعترف بهم تُغرَّم غرامة مالية، لذلك أنكرتهم.
حاولت مؤقتًا بيع منتجات يدوية كالحياكة والرقع، لكنها لم تدرّ مالًا كثيرًا. وبدأت أمور الملجأ تزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
عندها، صار شايلو، المقيم في العاصمة، يزور المكان كثيرًا.
‘أوه، أرجوك يا سيد شايلو … لا تتخلَّ عني.’
كان صوته المخيف لا يفارقها، وكانت دائمًا تبكي بين يديه.
لكن مهما فعلت، لم تتحسّن أوضاع الملجأ.
وفي النهاية، استغنت صوفيا عن الخادمة التي كانت تعمل لديها، لتحلّ فريا مكانها.
‘… يا لسخافة الأمر.’
لم تكن فريا راضية بأن تؤدّي دور الخادمة بالإضافة إلى الحياكة. منذ طفولتها لم تسمع من صوفيا كلمة طيبة، بل كانت تضربها بقسوة، وتجوعها لأتفه الأسباب.
‘والآن عليّ أن أساعدها في زينتها أيضًا …؟’
كانت تطحن مسحوق الأسبستوس ، و هي تعضّ على أسنانها قهرًا.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 4"