“منذ الصباح أكلتَ الخبز جيدًا، فلماذا تتذمّر الآن؟”
حين قالت فريا ذلك بعناد، وقد احمرّت عيناها بلا سبب، تابع آرتشر كلامه وهو ينظر إلى الأرض.
“أعني، إن لم تكوني هنا، فمن سيتولى تنظيف هذا المكان؟ أليس كذلك؟”
“على أيّ حال، سنغادر هذا المكان قريبًا.”
“كنتُ أعنيها مجرّد كلام.”
حتى آرتشر بدا محرجًا، فصبّ غضبه عبثًا.
وقف الاثنان مطرقَين يفتعلان الغضب من غير ما في قلوبهما.
وحين سئمت فريا من هذا الجوّ المتوتر، بادرت بالتحرك أولًا.
“صاحب السموّ بانتظاري، سأذهب إليه.”
خرجت من الخيمة، غير أنّ أنفها وخزها وكأنّها ستبكي.
‘ما هذا؟ المسافة من هنا إلى هناك ليست بعيدة لهذا الحدّ، فلماذا كلّ هذه الضجّة؟’
حاولت أن تتمالك نفسها بقوّة، لكنّ الخيمة الصغيرة التي عاشت فيها مع آرتشر ظلّت عالقة في ناظريها.
***
انتهزت فريا الفرصة فيما ذهب لوكيوس إلى هيرو لتلقّي العلاج، فأسرعت إلى قائد الفرسان.
“سيدي القائد، ما رأيك؟ هل لديّ بعض الموهبة؟”
“أيّ موهبة تتحدّثين عنها، وأنتِ لم تتمرّني سوى قليلًا؟”
مع أنّها شعرت بأنّ مهارتها تحسّنت قليلًا، إلا أنّ القائد لم يمنحها كلمة مدح واحدة.
‘تس، رجل عتيق متعجرف …’
إن كان لوكيوس يثير غضبها أحيانًا، فإنّ جيميني بدا لها مثل جدار شاهق سميك لا يُخترق.
مع كثرة لقاءاتهما، كان يفترض أن تتوطّد العلاقة، لكنّه ظلّ كما هو منذ البداية.
“اخفضي صدرك قليلًا، ثمّ أسرعي في حركة الذراع.”
لكنّ التزامه بوعده بتعليمها المبارزة يُثبت أنّه ليس شخصًا سيّئًا. فهو يؤجل أعمال الفيلق ليُدرّبها بنفسه على استخدام الخنجر.
“هذه المرّة سنتدرّب على إصابة الهدف.”
أمسك جيميني بالخنجر وضرب به الهدف أمامها.
“عند رمي السلاح، من الفعّال أن تستهدفي المواضع الحيويّة للخصم.”
“لكن لا أظنّ أنّني سأُضطر لاستخدامه إلى هذا الحدّ.”
ارتجفت فريا من الدهشة أمام دقّة إصابته لرأس وعنق الهدف بلا خطأ.
“هه … هه …”
بعد أن غمر العرق ظهرها من شدّة التدريب، انحنت أمامه.
“أشكرك حقًّا، سيدي القائد.”
“…….”
“أشعر بالذنب لأخذ وقتك الثمين.”
“رجال عائلة ستيرن لا ينقضون وعدًا.”
ثمّ انصرف دون أن يلتفت، فظلّت تراقبه بصمت.
“ما هذا؟ بدا وسيمًا بلا داعٍ.”
وبحرجٍ مسحت أنفها.
بينما كانت تمرّ قرب الخيام، بدا لها مشهد الحركة هنا وهناك مألوفًا ومحبّبًا.
وحين عادت إلى خيمة لوكيوس، انهمكت في التنظيف.
صار الأمر مألوفًا حتى إنّ ذهنها يخلو من كلّ الأفكار حين تَنفض الغبار أو تمسح الأرض.
ولا تدري كم بقيت راكعة.
“… يا فريا!”
وقف لوكيوس عند مدخل الخيمة متكئًا بصمت.
فزعت فريا حين لمحته، فزمّ هو حاجبيه قليلًا.
“تعالي معي.”
“لكن ما زال لديّ بعض العمل.”
“أسرعي.”
مسحت يديها على عجل، ثمّ تبعته.
وحين اتجه نحو الإسطبل، بدا القلق في عينيها.
ولمّا أمر بإخراج فرسين، قالت متردّدة: “سموّك، أنا لا أجيد ركوب الخيل.”
كانت قد أخبرته بذلك في الصيد من قبل، لكنّها لم تتوقّع أن يتذكّر.
ومع ذلك، لم يُعر كلامها بالًا، واكتفى بهزّ كتفيه وهو يربّت عنق الفرس.
‘لا أدري بماذا يفكّر أبدًا.’
قفز بخفّة على ظهر الجواد وحرّكه ببطء.
“عُد سالمًا.”
ظنّت أنّه ذاهب بمفرده، فودّعته وهمّت بالابتعاد، لكنّ يده خطفتها فجأة.
“آآه!”
صرخت، وحين أفاقت وجدت نفسها فوق ظهر الجواد.
“إن صرختِ هكذا، ستفزعين الحصان.”
“سموّك ، أنا من ارتعبت أكثر.”
ما إن استقامت جالسة، حتّى انكشف أمامها اتّساع السهل الأخضر بلا نهاية.
كان يختلف عن النظر إليه وقوفًا، إذ أشعرها أنّ الأفق لا ينتهي.
“واو، إنّه شاسع حقًّا.”
وحين فغرت فمها دهشة، حرّكت شفتا لوكيوس القابض على خصرها بخفوت.
“لكن الأمر غير مريح قليلًا.”
“أتعنين أنّ قبضتي تزعجكِ؟”
“على الأرجح …”
بعد أن فرغت دهشتها، صارت تشعر بحرج شديد من وضعيّتها.
ظهرها ملتصق بصدره العريض، ويده الكبيرة تحيط بخصرها.
“حسنًا. سأدعكِ وشأنك.”
وبنبرة هادئة، رفع يده حقًّا، ففقدت توازنها فجأة على ظهر الجواد وكادت تسقط، فما كان منها إلا أن تشبّثت بفخذه.
‘يا له من أحمق! كاد يوقعني حقًّا!’
وبعد أن تماسكت بصعوبة، تردّدت قليلًا ثمّ قالت: “سموّك، هل يمكن أن أطلب منك أن تمسكني مجدّدًا؟”
لم يكن من الممكن أن تظلّ متشبّثة بفخذه هكذا.
ابتسم لوكيوس ابتسامة خفيفة عند سماعها.
“إن كنتِ تصرّين، فلا بأس.”
عاد وأمسك خصرها بإحكام، فعاد الحصان يجري بثبات.
“إلى أين نذهب؟”
“نقوم بدوريّة.”
وحين علمت أنّه يتفقّد السهول على الحدود، راحت تتلفّت حولها.
وفجأة، هبط طائر أسود ضخم نحوهم، فأغمضت عينيها رعبًا.
سمعت أنّ مثل هذه الطيور يمكن أن تخطف جديًا صغيرًا.
“يبدو طائرًا مفترسًا.”
“إنّه نسر.”
وحين حطّ على شجرة قريبة، أبطأ لوكيوس سرعته.
“آه! إنّه لوس.”
عرفته من ملامحه فورًا.
قفز لوكيوس عن ظهر الفرس ومدّ لها يده مبتسمًا قليلًا.
‘حقًّا لا أفهم قصده.’
كانت هذه أوّل مرّة يأخذها في جولة تفقديّة معه.
تردّدت، ثمّ وضعت يدها في يده ونزلت.
ركضت مسرعة نحو الشجرة حيث جلس الطائر.
“تبدو وكأنّك تعيش في العراء دومًا.”
“أجل، وهذا يمنحني حرّيّة تامّة.”
قالها وهو ينظر إلى الطائر، وقد بدا وجهه شاحبًا حزينًا.
تبادلا النظر طويلًا، لكنّ فريا هي من أشاحت أولًا.
‘اليوم يبدو غريبًا جدًّا.’
لم يكن ينظر إليها بنظراته الباردة المعتادة، بل بعاطفة عميقة. بدأت تتراجع مرتبكة، فاقترب منها فجأة.
‘لا تقترب …’
لم ترغب بالكلام معه الآن.
وجودهما معًا فقط جعل قلبها يخفق بقوّة.
لكن لا مهرب في هذا السهل الفسيح.
“انتظري قليلًا، قفي مكانك.”
كلماته الهادئة شدّت قدميها إلى الأرض.
وهي تحدّق في عينَيه الزرقاوين، رفع يده فجأة وأزاح شعرها عن جبينها.
صرخت محاوِلة ردعه: “ما الذي تفعله!”
فتراجع خطوة فورًا.
‘أيّ جنون هذا؟ يعبث بشعري فجأة!’
لم تكن تخجل من ندبتها، لكنّها لم ترغب بإظهارها أيضًا.
أسرعت بترتيب شعرها، بينما صمت هو طويلًا.
‘إذن … كانت هي حقًّا.’
كلّ اللحظات الغامضة في أحلامه كانت مع فريا.
تذكّر يوم أصيبت بجبهتها، حين رمت بنفسها لتحميه بجسدها النحيل.
كم كره حينها عجزه وهو يراها تسقط.
‘لم يكن حلمًا.’
كانت الندبة تؤلمه، لكنّ قلبه يخفق معها كأنّها عهد بينهما.
ليلة شرب آرتشر وهيرو وجيميني الخمر، هو من حملها وأعادها إلى خيمتها.
‘لا … لم أعد أحتمل.’
لا بدّ أن أُبقيكِ قريبة، في مكان لا يراكِ فيه أحد، ولا يمسك بكِ أحد.
حسم أمره و قال: “أتذكرين عقدنا؟”
“… ماذا؟”
أيّ عقد فجأة؟
تذكّرت أنّه اليوم الذي عيّنها فيه خادمة له.
ناولها ورقة مليئة بخطوط سوداء ملتوية، وألزمها بالتوقيع.
كانت بالكاد تفكّ الحروف، فسألته عن معانٍ لم تفهمها، ثمّ وقّعت.
“ولِمَ تسأل الآن؟”
“كم كانت مدّة العقد؟”
“سنة.”
“إذن، كم تبقّى منها؟”
قطّبت جبينها لانزعاجها من سؤاله المتعالي.
‘لستُ غبيّة، لوس علّمني الحساب.’
فردّت أصابعها وعدّت، ثمّ ثنت ثلاثة، فبقي سبعة.
لكن هل السنة عشرة أشهر؟
تقدّم لوكيوس وأمسك بيدها، وأطبق إصبعين إضافيّين.
“والآن أعيدي العدّ.”
ثنت إصبعهما معًا وأتبعتها بواحد من أصابعها.
“آه، إذن بقي تسعة أشهر.”
فرحت بالوصول إلى الجواب، وابتسمت، لكنها لمحت وجهها يلامس جبينه.
تراجعت بسرعة خجلى.
“تذكّري ما قلته جيّدًا. طوال هذه المدّة، أنتِ تابعة لي.”
“… نعم.”
لكنها لم تفهم كلمة “تابعة”، وظنّت أنّه يتعمّد إغاظتها مجدّدًا.
التعليقات