“آه، رأسي.”
حين فتحت عينيها في موضعها قرب الموقد، شعرت برائحة الخمر تتصاعد من جوفها.
كان الأمر ممتعًا وضاحكًا حين شربت، لكنّ عاقبته السيئة أكّدت أنّ الخمر سائل بغيض حقًّا.
“آرتشر، آرتشر…!”
لمّا أجبرت جسدها على النهوض، لم تجد آرتشر في السرير.
‘هل شرب حتى الثمالة ولم يعرف طريق العودة؟’
شعرت بالقلق، لكن الاعتناء بجسدها المنهك كان صعبًا عليها أصلًا.
“أكاد أتقيّأ في أيّ لحظة.”
تمسّكت ببطنها المضطرب، ورتّبت الغطاء على عجل، ثمّ تفحّصت نار الموقد.
لا يزال الجمر متّقدًا؛ لعلّ أحدهم أضاف حطبًا أثناء الليل.
لكن مجرّد تحرّك بسيط جعل معدتها تلتهب، فتمنت أن تأكل حساءً ساخنًا في الحال.
“كم الساعة الآن؟”
خفضت شعرها المنكوش بعض الشيء وخرجت ، فإذا بها تطأ شيئًا ضخمًا عند المدخل، فصرخت بصوت حادّ: “آرتشر! أجننت؟”
كان آرتشر غارقًا في نوم عميق أمام الخيمة ممسكًا بزجاجة خمر، حتى أنّها داست على بطنه ولم يستفق.
بعد قليل فتح نصف عينيه وأخرج صوتًا غليظًا متثاقلًا: “فريا، صراخكِ يجعل رأسي يتأرجح.”
“ادخل ونم. اليوم لا يوجد تدريب أصلًا.”
ضربت ظهره لتجبره على النهوض وساعدته حتى تمدّد في السرير.
ما إن ألقى جسده الثقيل فوقه حتى غطّ في نوم عميق.
نظرت فريا إليه وهو ينام بسلام كطفل، وهزّت رأسها.
“من الجيد أن لسانه لم يزل يعمل.”
‘لماذا إذن توقف عند باب الخيمة ونام هناك؟’
“لكن، كيف عدتُ أنا يا ترى؟”
حاولت استرجاع ذكرى شربها بالأمس ، فغسلت وجهها ويديها عند الجدول.
ارتشفت قليلاً من الماء فشعرت بتحسّن بسيط.
“أتذكّر أنّ آرتشر كان يضحك، وهيرو كان يمازح جيميني …”
لكن أكثر من ذلك لم تستطع استرجاعه.
“المهم أنّي عدت ونمت بسلام.”
مسحت بلل يديها في كمّها وهزّت رأسها.
فإذا بغصن يُكسر خلفها، فاستدارت على عجل.
“أوه، إنّها أنت.”
“مرحبًا، يا كونت إيديليون.”
استغربت فريا وجوده هنا؛ فهذا مكان ناءٍ قلّما يزوره أحد.
‘ما الذي جاء بشخص رفيع المقام إلى موضعٍ حقير كهذا؟’
“إذن هذا حمّامك الخاص، أليس كذلك؟”
تأملها بعينين لزجتين منذ الصباح، فأحسّت بالغثيان يتضاعف.
“ليس كذلك. إنّما أستعمله غالبًا للغسيل”
تظاهرت بالتماسك ، لكن الرجل كان يحدّق مباشرة في وجهها المبتلّ.
“أما تعلمين أنّ وجهكِ لا بأس به؟”
“شكرًا على المجاملة.”
لم تكن المجاملة مرغوبة، لكنها انحنت برأسها قليلًا.
“وحين تُنقلون من هنا، هل لديكِ مكان تذهبين إليه؟”
“…….”
“لا يمكن لوليّ العهد أن يصطحب خادمةً إلى القصر. سيغدو إمبراطورًا قريبًا.”
كانت تعلم ذلك جيّدًا.
عليها البحث عن عمل جديد.
حين لزمت الصمت مطأطئة الرأس، تابع الكونت: “إن ضاقت بك الحال، فتعالي إلى مقاطعتي. سأكفل أجركِ.”
“أقدّر عرضك. لكن ليست لديّ مهارة كبيرة.”
“مثلكِ لا تحتاجين إلى فعل شيء.”
‘فريا. عيشي في كرمتي كسيّدة حقيقية. سأُهيّئ لكِ ثيابًا جميلة.’
رأت ظلّ شايلو في ذلك الرجل الغريب، فازداد نفورها.
“وليّ العهد يطلبني، أستأذن”
أدّت تحيّة سريعة وفرّت راكضة مبتعدة عن الجدول.
لم تتوقّف حتى بلغت خيمة لوكيوس، كادت معدتها تثور من أثر الخمر.
“… تأخّرتِ.”
وبّخها لوكيوس وهو يقرأ رزمًا من الوثائق.
“أعتذر.”
“فطرتِ متأخّرة، فهل سيفوتكِ الغداء أيضًا؟”
شعرت بالحرج وأخذت تمسح طرف الطاولة بكمّها.
“فريا، اعتبارًا من الآن، يُمنع عليكِ الشراب.”
“……!”
ارتبكت وتشنّجت.
‘ألهذه الدرجة تفوح رائحة الخمر منّي؟’
رغم أنّها غسلت نفسها عند الجدول، إلا أنّ الأثر لم يزل.
رفعت كمّها لتشمّه بقلق، فرفع لوكيوس رأسه عن الوثائق.
‘أول مرة أراه بالنظارات.’
كان يضع نظّارة بعدسة واحدة على عينه، فأضفت لمسة من رزانة وعمق على وسامته الطبيعية.
تأمّلته فريا بذهول، فإذا بشفتيه تتحرّكان: “ومن اليوم، ستنامين هنا.”
“… عفوًا؟”
كان معروفًا أنّ لوكيوس شديد الحساسية في نومه، فلا يسمح لأحد بالاقتراب من خيمته ليلًا.
ومع أنّ وجود آرتشر أمر طبيعي، إلا أنّ مشاركتها الخيمة مع شابّ مثله أزعجها.
“لكن، يا سموّ الأمير، هذا-“
نظر إليها مطوّلًا حتى احمرّت أذناه، ثمّ عاد إلى أوراقه.
“هذا لأسبابٍ أمنية.”
“ألا يمكن أن أكتفي بالعمل ليلًا؟”
“أم تخشين أن تقعي في هواي؟”
“ماذا …؟”
“ألن تستطيعي كبح نفسكِ، فتهاجمينني وأنا نائم؟”
“ما هذا الهراء …”
لم تعرف حتى كيف تردّ.
فارق المكانة بينهما شاسع، فكيف يخطر له ذلك؟
‘أيعقل أنّه أول لقاء بيننا صبّ الماء على رأسي وأمرني بغرابة؟’
‘الشيء الوحيد الجميل فيه هو شعره الذهبي ووجهه الوسيم!’
“إن لم يكن الأمر كذلك، فالتزمي بالأوامر. هذه متابعة للعمل.”
“لكنّنا سنرحل قريبًا، فلماذا كلّ هذا؟”
“ألم تنسي العقد الذي بيننا؟”
بذكر العقد، وجدت نفسها محاصرة.
خشيت أن يسيء فهمها أكثر، فاستسلمت قائلة: “… حسنًا.”
بدأت تبحث بنظرها عن مكان للنوم.
“ماذا تبحثين؟”
“أريد أن أرى أين سأنام.”
“لقد رتّبتُ ذلك.”
أشار إلى جهة غرفته.
تقدّمت مترددة ورفعت الستار، فإذا بسريره قد أُزِيح إلى طرف، ووضِع سرير صغير في الجهة المقابلة.
‘أهذا سريري؟’
لمعت عيناها من الدهشة، ومسحتها بكمّها غير مصدّقة.
“سموّك، ما هذا؟”
“لا أستطيع النوم إن كان أحد بالخارج.”
‘لكن ألا تستطيع النوم وحيدًا كما كنت؟’
أرادت الاعتراض، لكنها تذكّرت إصابته السابقة فابتلعت اعتراضها.
لوّح بابتسامة خفيفة وهو يتأمّل ارتباكها، وراح ينقر بأصابعه على الطاولة في بطء، وعيناه خلف العدسة الزرقاء تتبعانها.
‘فريا، ما العمل معكِ؟’
في الأمس، كان قد رفض دعوة هيرو للشرب والمرح.
‘النصر في هذه المعركة لا يعني أنّ الحرب انتهت.’
‘ما زالت معارك أصعب بانتظاري.’
لكن حين بلغه اسمها من مرسولٍ مسرع، تبدّد قراره.
‘أهكذا إذن؟ تسرّعتِ إلى هيرو حال خروجك؟’
لم يرق له ذلك.
فريا كانت خادمته، شخصًا يخصّه هو.
استاء لرؤيتها ضاحكة بين الآخرين.
‘صحيح أنّ صوتها الثمل كان لطيفًا، لكن لا أحبّ أن يراها غيري.’
تحسّس القلادة نصف القمر حول عنقه.
‘ظننتُ أنّي فقدتها…’
اهتزّ صدره من وقع الذكرى، فسكب ماءً باردًا على رأسه.
***
حين علم آرتشر بانتقالها إلى خيمة لوكيوس، لم يتفاجأ.
“شرفٌ عظيم أن تخدمي الأمير عن قرب.”
“آرتشر، ألستَ قلقًا عليّ؟”
“لو قلقت، فسيكون ذلك على الأمير، لا عليكِ.”
“ماذا تعني؟!”
حكّ مؤخرة رأسه وضحك.
“أقصد أنّ عادات نومكِ مزعجة.”
“أنا أنام بهدوء تام!”
“النوم في مكانكِ لا يعني أنّكِ هادئة.”
منذ أن عاش معها، كان يستيقظ في الليالي الماطرة.
كلّما دوّى الرعد، كانت فريا تتأوّه أو تصرخ بخفوت، وأحيانًا تهذي بكلمات غامضة.
في البداية شعر بالخوف، ثمّ صار يشفق عليها.
لمّا فرغت من توديع آرتشر، تأمّلت خيمتها التي قضت فيها أيامًا طويلة.
‘كم من الحوادث كدتُ أتورّط فيها قرب هذا المكان…’
لكن آرتشر كان دومًا السند القوي خلفها.
‘ليس لديّ ما أحزمه.’
لم يكن في الخيمة شيء يستحق الحمل.
أثناء ترتيبها قرب الموقد، ناداها آرتشر وهي تلمع سيفه.
“فريا، متى شئتِ…”
“…….”
“عودي إلى هنا.”
ارتجفت ملامحها لتلك الجملة القصيرة.
التعليقات لهذا الفصل " 34"