“هذا لي.”
خافت أن يأخذ منها القلادة بحجّة أنّها لا تليق بها.
“حقًّا.”
مدّت فريا يدها المرتجفة وأمسكت بمعصم لوكيوس، بينما كان صوتها يخرج مضطربًا. ومع أنّها صاحت، تجاهلها تمامًا وهمس بصوتٍ منخفض جدًّا: “ابقي ساكنة. من أين جئتِ بهذا الشيء؟”
“هذا، هذا …!”
لم تعرف فريا ما يجب أن تقول.
حلقها جفّ وصوتها لم يخرج بسلاسة.
كانت ذكريات ليلة رحيل لوس تتلاشى تدريجيًّا، لكنّها تذكّرت أنّ ملامحه بدت مشدودة بقلقٍ شديد.
‘كان لوس يبدو وكأنّ لديه همًّا كبيرًا.’
لذلك تردّدت في أن تبوح لأيّ أحدٍ بشأنه.
“أ … آسف.”
تمتم لوكيوس بالكاد يسمع نفسه، ثمّ أرخى يده. رفع يديه إلى رأسه وضغط صدغيه، قبل أن يترنّح قليلًا ويتّجه نحو الأريكة.
“… هاه.”
راقبت فريا كتفيه العريضين يبتعدان عنها، فسارعت إلى إخفاء القلادة مجدّدًا تحت قميصها.
لم تكن تعرف تمامًا قيمة هذه القلادة، لكنّها كانت الدليل الوحيد على أنّ لوس لم يكن مجرّد صديقٍ نسجته أحلامها.
‘صديقي الوحيد.’
***
حين أنهت فريا عملها وعادت، كان محيط المعسكر صاخبًا.
كان الاحتفال البسيط بانتصارهم على الأعداء في أوجِّه.
جلس الجنود جماعاتٍ حول النيران، ورفع كلٌّ منهم كأسه عاليًا.
“من أجل صاحب السموّ لوكيوس!”
“من أجل ازدهار إمبراطوريّة مورسياني العظيمة!”
“لتكن بركة ديانا معنا!”
تردّدت أصوات سكارى من كلّ صوب. كان هذا المشهد جديدًا عليها، ومع أنّها وقفت تكتفي بالمشاهدة، شعرت بشيءٍ من البهجة.
لفح أنفها بردُ الرياح الشماليّة القارس، فقرّبت كفّيها من فمها ونفخت فيهما لتدفّئهما، عندها ناداها أحدهم.
“فريا! هل أنتِ عائدة الآن؟”
“سيّد هيرو.”
كان هيرو هذا المساء يرتدي عباءةً بيضاء مُطرَّزة بخيوط ذهبيّة، ومع ضوء القمر بدا غايةً في الجمال.
“فريا. لم أستطع أن أقول لكِ شيئًا قبل قليل.”
“……؟”
“الثوب الجديد يليق بكِ كثيرًا.”
لم تكن معتادة على المديح، فتورّد وجهها بسرعة.
“إن كنتِ قد أنهيتِ عملك، فهل نذهب معًا؟ سأستدعي آرتشر أيضًا.”
“إلى أين …؟”
“ستعرفين عندما نصل.”
دفعها هيرو بخفّة، فوجدت نفسها أمام خيمة قائد الفرسان.
لم تكن على مقربةٍ من جيميني، لذا تردّدت في الدخول، لكن هيرو دفعها دفعًا إلى الداخل.
“صادفتُ فريا في الطريق، فأحضرتها معي.”
رفع جيميني رأسه قليلًا من على الطاولة، حيث كان يحتسي الخمر وحيدًا، واكتفى بإيماءة بسيطة. وضع هيرو الطعام على الطاولة وسحب كرسيًّا لتجلس.
“اذهب وأحضر آرتشر.”
أرسل هيرو صبيًّا صغيرًا في مهمّة، واجتمع الثلاثة حول الطاولة.
كان جيميني قليل الكلام يعبث بكأسه، فيما جلست فريا متصلّبة من التوتّر، إذ لم تعتد على مثل هذا الجوّ.
“فريا، هل شربتِ من قبل؟”
“بالطبع! لقد تجاوزتُ سنّ الرشد!”
لم تُرِد أن تبدو حمقاء. في الواقع، لم تتذوّق الخمر سوى مرّة واحدة مع آرتشر، ولم تشربه ثانيةً منذ ذلك الحين.
“إذن لنشرب نخب انتصار صاحب السموّ لوكيوس العظيم.”
وجدت نفسها تحمل كأسًا بين يديها، تتأمّل الشراب المتماوج داخله.
‘له رائحة حلوة.’
ارتشفت بحذر، فاكتشفت أنّ طعمه مختلف تمامًا عن المرّة السابقة.
سرعان ما شعرت بالحرارة تسري في جسدها، وارتخت كتفاها المشدودتان. فتحت فمها بعد صمتٍ طويل: “ستعودون إلى القصر قريبًا إذن.”
“نعم. ما إن نُنهي الترتيبات هنا، سنبدأ الاستعداد.”
شدّت فريا الكأس بكلتا يديها، ثمّ لمحت جيميني وهيرو بطرف عينها.
عندما غادرت الميتم وجاءت إلى هذا المكان المجهول، كان كلّ شيء يبعث على الضياع.
أمّا الآن فقد اعتادت نسبيًّا، بفضل مساعدتهما. خصوصًا مع هيرو، إذ بدأت تشعر أنّهما أصبحا قريبَين بعض الشيء.
‘لكن ما فائدة التعلّق؟’
أحسّت بقبضةٍ في قلبها، ورفعت الكأس إلى شفتيها مجدّدًا.
“فريا، الأمر أن نشرب معًا.”
طرق هيرو بكأسه كأسها برفق، فارتشفت ثانيةً، وبدأت ابتسامتها بالظهور.
“فريا هنا؟”
أطلّ آرتشر فجأةً برأسه الكبير من بين الخيام.
لمّا رأى جيميني وهيرو، همّ بالتحيّة الرسمية.
“نحن اليوم هنا كأصدقاء لفريا، فكن مرتاحًا.”
أشار هيرو إلى كرسي، فجلس آرتشر بعد أن حكّ مؤخرة رأسه، وتسلّم كأسًا.
“آرتشر، هل فوضتَ الخيمة مجددًا؟”
“ماذا تقول؟ جئتُ باكرًا اليوم، ورتّبتُ السرير من العظام وفتات الخبز!”
كان يتفاخر وهو يشرب كأسه دفعة واحدة، فضحكت فريا بلا قصد.
“أوه، فريا. هل ابتسمتِ حقًّا؟ ها؟”
تجمّدت أنظار الرجال الثلاثة عليها دفعة واحدة.
غير معتادة على هذا الاهتمام، حاولت أن تخفي وجهها بالكأس لكنها سكبت قليلًا على الطاولة.
“هل سكرتِ بالفعل؟”
“آه! فريا، هل لا تُحسنين الشرب؟”
“أظنّها تسكر من رائحة الخمر فقط.”
“مستحيل …؟”
حتّى جيميني قليل التفاعل لم يتمالك نفسه من التعليق.
“لا! آرتشر مجرّد مهرّج. أنا أشرب جيّدًا!”
هتفت متحدّية، وأخذت ترتشف باستمرار. في تلك اللحظة دخل الخدم حاملين أطباقًا، فدعاهم هيرو جميعًا لتناول الطعام.
“شرفٌ عظيم أن نأكل من هذه المائدة، يا سيّدي الساحر.”
أمسك آرتشر بفخذ دجاجة، ولم ينسَ أن يناول فريا أوّلًا.
“متى سنأكل شيئًا كهذا مجددًا؟ هيا.”
“لستُ جائعة.”
لم يكن الطعام بالنسبة لها مميّزًا.
“على الأقل تذوّقي.”
“لقد ذُقتُ سابقًا.”
“متى؟”
“حين تناول الأمير عشاؤه.”
ضاقَت عينا هيرو قليلًا.
“محظوظة جدًّا يا فريا. نحن لم نتناول العشاء مع الأمير قط.”
“لا، ليس الأمر كذلك، لقد تذوّقتُ فقط لأتأكّد أنّه خالٍ من السموم.”
تضاءل صوتها شيئًا فشيئًا، فهي لم تكتفِ بالتذوّق، بل أكلت معظم ما تبقّى له.
“لا بأس، لا بأس. ما أهمّيّة ذلك؟”
قهقه آرتشر وهو يلتهم الدجاج.
“فلنرفع نخبًا آخر.”
رفع كأسه مترشّفًا الخمر، وتبعه هيرو: “من أجل ازدهار إمبراطوريّة مورسياني الخالدة!”
تردّدت فريا قليلًا قبل أن تنهض بخجل وترفع كأسها. ابتسم هيرو لها وقال: “هيا يا فريا، قولي شيئًا.”
تردّدت، ثمّ تذكّرت ما سمعته عند النار.
“لتحفظ ديانا الأمير لوكيوس …”
كان صوتها خافتًا بالكاد يُسمع. اصطدمت الكؤوس الأربعة بقوّة، وشربوا جميعًا. مسح آرتشر رذاذ الخمر عن شفتيه، وأطلق تجشؤًا، فانفجروا ضاحكين من جديد.
“آرتشر! هل رأيتَ الخيمة تهتزّ؟”
قال هيرو مازحًا، فارتفع صوت آتشر محرجًا: “هل من أحد لا يتجشأ؟ من يأكل لا بدّ أن يخرج ذلك.”
ضحكت فريا وهي تحدّق بهما، ممسكةً الكأس بكلتا يديها.
لم تتخيّل يومًا أنّها ستشهد ليلةً كهذه. دائمًا كانت تنهكها الأعمال وتسقط نائمة، ثمّ تكرّر الروتين نفسه.
أمّا الآن، فهذا المجلس المرح كان غريبًا، لكن ليس سيّئًا.
ارتشفت قليلًا حتّى فرغ كأسها.
“أريد المزيد.”
رفعت الكأس ووجنتاها محمرّتان، فأثار ذلك جيميني الذي حرّك حاجبيه الكثيفين وقال بنبرة رسميّة باردة: “هل سيكون هذا حسنًا؟”
“ولِمَ لا يكون؟ آرتشر والساحر هنا، ومعنا أفضل فارس في مورسياني أيضًا.”
استغلّت نشوة الشراب لتقول ما لم تكن تجرؤ عليه عادةً.
احمرّت وجنتا جيميني قليلًا، ولمح هيرو ذلك بسرعة فأشار إليه ضاحكًا: “أه! هل تخجل الآن؟”
“أنا فارس! أيّ كلام هذا؟”
صرخ جيميني غاضبًا بصوت منخفض، وكأنّ الفارس لا يحقّ له أن يضحك. هزّ هيرو رأسه وقال ساخرًا: “أليس الفارس بشرًا؟”
كانت فريا التي بدأت تشعر بالدوار من جرأة هيرو، منبهرة.
إلقاء مزاح كهذا في وجه جيميني لم يكن سهلًا. لمّا التفتت قليلًا، وجدت آرتشر منغمسًا في أكل الدجاج، وشفتيه مبلّلتين بالدهن.
“في لحظة الخطر، أنا من قطع رقاب خمسة أعداء خلف ظهر الأمير!”
كان يلوّح بعظم الدجاج كما لو كان سيفًا، بينما جيميني يردّ بجديّة مقتضبة: “آرتشر، أعترف بمهارتك.”
“آه! أنال هذا الثناء من القائد! اليوم لو متّ فلن أندم!”
قالها والدموع في عينيه، فجعل فريا تتمنّى أن تختفي في جحر.
“فريا، هل تنامين جالسة؟ ها؟”
مرّ وقت، وبينما الجلسة تضجّ بالحديث، غفت فريا قليلًا.
فتحت عينيها نصف مغلقتين، وحدّقت بآرتشر وابتسمت: “… تبدو كدجاجة يا آرتشر.”
“ماذا تعنين؟”
شعرت بثقل أجفانها من كأسين من النبيذ، وأرخَت رأسها على الطاولة بضربةٍ خفيفة.
التعليقات لهذا الفصل " 33"