الآن لم يكن يسيطر على رأس فريا سوى فكرة واحدة.
‘آه، لو أستطيع أن آكل شربة، أو خبزًا، أو حتى حلوى حتى أشبع.’
منذ أن أكلت وعاءً من العصيدة صباحًا وخرجت، مرّ أكثر من نصف يوم.
أمام عينيها كان كل شيء ضبابيًا، وفي فمها طعم حلو مرّ.
عندما رأت النقود المعدنية المملوءة في الصندوق، بدأ الطمع يتسلّل إليها.
لكن ما إن تذكّرت عيني صوفيا الحادّتين، حتى سرعان ما محَت رغبتها.
“لوتي. لنعد.”
وضعت المال بعناية في صدرها، وسارت في الطريق.
وحين وصلت قرب المخبز، اجتاحت المكانَ رائحةٌ لذيذة دافئة وحلوة.
أحسّت معدتها الفارغة بالانقباض، وامتلأ فمها باللعاب.
حاولت جاهدة أن تدير وجهها وتتجاهل، لكن لوتي انطلقت كالسهم نحو المخبز.
“لوتي. لا!”
بجسدها المريض هرولت خلفها بصعوبة، لتجدها ملتصقة بزجاج واجهة المخبز.
كان أنفها جافًا متشقّقًا، وعلى وجهها تعبير أشبه بالحلم.
“فريا. ما اسم تلك المستديرة المحشوّة بالكريمة؟”
اختفى غضبها لبرهة.
فما إن وقع نظرها على الخبز اللذيذ، حتى شعرت هي الأخرى بفرح خفي.
“أظنّ أن ذاك يُسمّى كعكة.”
في أيام ميلادها، كانت صوفيا تشتري مثلها وتضع عليها الشموع، ثم تجبر الأطفال على الغناء.
لكنها لم توزّع يومًا من ذلك الخبز الثمين على أيّ طفل.
أمّا فريا، فبينما تنظّف، كانت تلعق الكريمة العالقة تحت الشموع خلسة.
‘كم كانت حلوة وناعمة، ما إن لامست فمي حتى ذابت.’
بينما استسلمت فريا للذكرى وارتسم على وجهها تعبيرٌ حالِم، دوّى صوت صراخ: “أيها المتسوّلتان ، ألن تبتعدا؟”
خرجت امرأة بدينة من المخبز تحمل مكنسة، تلوّح بها في الهواء. لكن ما إن وقعت عيناها على لوتي، حتى صكّت لسانها.
“حتى الأطفال الصغار صاروا يستغلّونهم!”
وبينما هي متأففة، دخلت لوهلة ثم عادت ومعها خبز طويل لامع السطح.
“قد يكون من البضاعة الباقية، لكنه صالح للأكل”
مدّت المرأة الخبز نحوهما، لكن فريا ولوتي بوجهيهما المتّسخين لم يجرؤا على مدّ أيديهما.
“هل يمكننا أخذه فعلًا؟ نحن لا نملك نقودًا.”
“هذا خبز لا يُباع أصلًا، فلا بأس. تعاليا أحيانًا وسأعطيكما.”
أمسكت فريا الخبز، ولم تستطع أن تنطق بكلمة شكر، فاكتفت بفتح فمها بصمت، لكن باب المخبز أُغلق أمامها.
“ما العمل بهذا؟”
تبادلت الاثنتان النظرات ثم أومآ برأسيهما.
كانا يعرفان أنه لا ينبغي، لكن الرائحة الشهية أسكرت عقليهما.
“لوتي، لنذهب من هنا أولًا.”
اختبآ مسرعين في زقاق مظلم.
وكان قلب فريا يخفق بشدّة حتى لم تعد تشعر بآلام جسدها.
“هاك، خذي.”
لهاثها المتقطّع رافقها وهي تُخرج الخبز من صدرها وتسلّمه كاملًا إلى لوتي.
احتضنت لوتي الخبز الطويل وقفزت فرحًا، ثم مسحت أنفها بيدها.
“فريا، لنأكله معًا.”
مدّت إليها الخبز مجددًا، فأخذته وقسمته نصفين وأعطتها نصيبها.
عيناها كانتا متسمّرتين على الخبز فقط.
وحين استلمت حصتها، اتّسعت عيناها وقالت بصوت خافت: “فريا ، حصّتي أكبر!”
“أنا لست جائعة كثيرًا.”
“همم.”
التهمت الاثنتان الخبز بصمت.
وكان طعمه مختلفًا تمامًا عن الخبز اليابس المليء بالعفن في الميتم.
كان طريًا، حلوًا، تفوح منه نكهة شهية، انفجرت في الفم دفعة واحدة.
امتلأت بطونهم، لكن قلوبهم كانت الأشد امتلاءً.
“…إنه لذيذ حقًا.”
تبادلا النظرات وسط الأكل، ولأول مرة اليوم، ارتسمت على وجهيهما ابتسامة عريضة.
“فريا. ربما أجعل هذا اليوم عيد ميلادي.”
تحدثت لوتي بوجه مفعم بالفرح، فأومأت فريا، التي لم تكن تعرف لها عيدًا أصلًا.
“فكرة جميلة”
أرادا أن يذكرا هذا اليوم طويلًا.
مسحا بقايا الفتات والدهون عن أفواههما، وعادا إلى الطريق.
ومن دون وعي، خرج من شفتيهما لحن غامض أشبه بأغنية.
ظنّا أن اليوم سيكون بلا مشاكل، خصوصًا بعدما كسبا نقودًا كثيرة نسبيًا.
لكن عند العودة، استقبلتهما صوفيا بوجه متجمّد.
“فريا. لوتي. قفا مستقيمتين.”
سُحب صندوق النقود منهما، وسقطت فريا أرضًا.
“ما الذي يحصل؟”
صرخت بعينين مذعورتين.
لم يسبق لها أن تحدّت صوفيا أو فكّرت في ذلك أصلًا.
‘لكن اليوم أشعر بظلم شديد!’
لقد فعلت ما بوسعها رغم مرضها، فلماذا تعاملها هكذا؟
“ناكرة للجميل. هكذا تردّين فضل من ربّاكِ؟”
“خالتي، أخطأنا.”
ركعت لوتي بيديها النحيلتين، متوسّلة.
لم تفهم السبب، لكنها كانت تعلم أن الاستجداء هو الحلّ الوحيد.
وما لبثت أن انفجرت باكية من شدّة الخوف.
“آه، الأطفال البكّاؤون هم الأسوأ!”
صرخت صوفيا بصوت عالٍ، فشحب وجه لوتي.
“هناك من شهد خيانتكما لعائلتنا.”
وفي ركنٍ كان صبي يبتسم وهو يراقب ما يحدث.
‘يا إلهي، كانوا يراقبوننا.’
“لكن … ذلك الخبز أعطتنا إياه صاحبة المخبز مجانًا! هذا صدق.”
رفعت فريا صوتها يملؤه الظلم.
“لا أذكر أني ربّيت طفلة تختلق الأعذار.”
نظرة صوفيا اخترقتها كأنياب الأفعى.
اختنق صوت فريا خوفًا ، و قبل أن تتكلّم ، انطلق صوت بارد: “أتدرين؟ أنا لم أحبّكِ منذ البداية”
غرقت عيناها بالدموع.
‘ماذا فعلتُ من خطأ، يا خالتي؟’
لكن ما خرج من فمها لم يكن سوى صوت ذليل: “خالتي، سامحيني.”
توسّل كلاهما وهما يبكيان، لكن صوفيا لم تنوِ الإصغاء.
وجه لوتي غمرته الدموع والمخاط، فما إن رأته فريا حتى فاضت دموعها أكثر.
‘ليت هذا الوقت يمرّ سريعًا.’
لم يفعلا سوى التضرّع مرة بعد مرة.
“هذه الطفلة قاسية حقًا. لا تبكي أبدًا.”
تمتمت صوفيا غاضبة.
أما فريا، فكانت ترتجف وهي تتشبّث بالجدار كي لا تسقط مغشيًا عليها.
‘قلتِ إنك تكرهين الأطفال البكّائين.’
ولذلك لم تبكِ، لكنها صارت في نظرها فتاةً قاسية.
***
عندما بلغت فريا العاشرة، قلّ كلامها بشكل ملحوظ.
تصحو صباحًا لتخرج تستجدي، وتعود لتقوم بالتنظيف.
تجنّبت الظهور أمام صوفيا قدر الإمكان، فقلّت ضرباتها بحقّها.
‘إن كان بإمكاني العيش هكذا، فلن أطلب المزيد.’
إلى أن جاء يوم، التقت صدفةً في الممرّ بشايلو ، الذي لم يكن يزور البيت سوى مرة أو مرتين في الشهر.
نظراته الكئيبة جعلت بطنها ينقبض من شدّة التوتّر.
“أذكري ، ما اسمكِ؟”
كان ثملًا تفوح منه رائحة الخمر، وتقدّمه جعلها تتراجع بخوف.
“اسمي فريا.”
“اسم جميل جدًا.”
أخذ شايلو يتأمّل عنقها وساقيها النحيلتين، ثم ركّز طويلًا على وجهها ذي العينين الخضراوين.
“ستكونين سلعةً ممتازة.”
تلألأت عيناه بريقًا غريبًا.
***
في ذلك اليوم، كانت فريا عائدة من التسوّل تحمل رضيعًا على ظهرها.
<أنتِ بالكاد تبدين في السابعة، فإذا خرجتِ تحملين طفلًا، ستنالين اهتمامًا أكبر>
لم توافقها، لكنها لم تستطع الرفض.
كان الطفل يبكي في البداية، لكنه سرعان ما أنهكه التعب فنام على ظهرها.
“وأنتِ، كيف انتهى بكِ المطاف هنا؟”
كانت صغيرةً حين تظنّ أنها تعيش في بيت مليء بالعائلة.
لكنها الآن تعرف الحقيقة.
فريا يتيمة، وكل من في هذا المكان ليسوا سوى غرباء.
<لستُ في موقع أُشفق فيه عليك>
كما كانت صوفيا تقول دائمًا قبل أن تضربها: فريا ليست مختلفة عن هذا الرضيع.
<…طفلة متروكة>
لم تعرف من هم والداها، ولا متى وُلدت.
الشيء الوحيد الذي بقي لها ورقة باسمها على صدرها عندما وُجدت في القماط.
أما ما خلّفه والداها، فهو وجهها، والندبة على ذراعها بشكل وردة.
“ما المعنى في أن يسمّوها وهم يتخلّون عنها؟”
تمتمت بمرارة وهي تهزّ علبة الصفيح.
أعادت الرضيع إلى غرفة الأطفال الرضّع، وسارعت إلى الخارج.
كان ظهرها مبتلًا من حمله طوال النهار، واضحًا أنه ملوث بالبول أو القيء.
ولأن لديها ثوبًا واحدًا فقط، وجب غسلُه وإلّا لبسته غدًا متسخًا ذا رائحة.
‘الرائحة لا بأس، لكن المرض الجلدي سيكون مشكلة.’
تذكّرت طفلة قُطع ساقها بسبب إهمال قدميها المتّسختين والرطبتين. لذا أسرعت في حركتها.
بعد أن استقت ماءً من البئر، نظرت حولها سريعًا.
خلعت ثوبها الممزّق، كاشفة جسدها الهزيل تحت القميص الداخلي.
“الجو بارد فعلًا.”
ارتجفت وهي تفرك ظهر الثوب بالفرشاة ثم صبّت الماء.
“أوه، عليّ ارتداؤه مجددًا.”
عصرته قليلًا ثم ارتدته.
التصق القماش البارد بجسدها، وأسنانها تصطك بلا توقف.
إن دخلت إلى الداخل وهو يقطر ماءً، فسيكون العقاب مؤكدًا.
“لماذا فرشت صوفيا سجادة فاخرة في ميتم متهالك؟”
وبينما كانت تقفز في مكانها بردًا، سمحت لنفسها بتخيّل مرح.
“هذه قاعة رقص.”
تخيّلت البئر أميرًا، وانحنت نحوه وهي تمسك بثوبها الخرِق.
لكنها لم تحضر حفلة راقصة قط، فلم يسعها أن تتخيّل أكثر من ذلك.
كل ما تعرفه عن الحفلات ما سمعته من صوفيا حين تسكر: نساء بفساتين وجواهر يتباهين بجمالهن.
“هذا لا يليق بي.”
انتهت لعبتها التافهة سريعًا ، وأرخَت رأسها بخيبة.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 3"