العيش طويلًا في الشوارع جعل فريا قادرة على تمييز رائحة المطر بسهولة.
فأخذت تتجهم وهي تنهض من مكانها.
“يجب أن أبحث عن سموّه الآن.”
فهي في نهاية المطاف خادمة الأمير لوكيوس، وعليها أن تظل قريبة منه لتتأكد أن لا شيء يزعجه.
بدأت تجرّ حقيبتها الثقيلة وتتحرك داخل الغابة، وإذا بقطرات المطر تبدأ بالتساقط على رأسها.
“المطر لم يكن يومًا مبشّرًا بخير.”
كان عليها عبور ضفة نهر واسعة بعض الشيء لتدخل الغابة، فخطت فوق جسر قديم وهي تجرّ الحقيبة خلفها، فصدر عن الخشب أصوات غريبة.
نجحت في العبور من دون حوادث، لكنها لم تطمئن لحال الجسر.
“سيتهدّم قريبًا بلا شك …”
وفجأة، دوّى خلفها صوت صاخب آمر.
ارتعبت فريا واختبأت خلف جذع شجرة خشية أن تُكشف متلبّسة وهي تضيّع الوقت.
أخرجت رأسها قليلًا لترى مشهدًا مريبًا.
“ما هذا…؟ ليسوا من جنودنا.”
جنود بزيّ غريب وأعلام مختلفة انطلقوا مسرعين نحو الغابة.
ابتلعت فريا ريقها بصعوبة، واجتاحها ذلك الشعور البغيض ذاته الذي غمرها قبل أن تضربها صوفيا بلا رحمة.
“شيء سيّء على وشك أن يحدث.”
حينها خطرت ببالها كلمات آرتشر التي كان يردّدها دائمًا: الأمير لوكيوس لا يحمي الحدود فحسب، بل يحمي إمبراطورية مورسياني كلها.
إذا غاب سموّه فالجميع سيكون في خطر.
امتلأ رأسها بصورة شعره الأشقر، فلم تعد تقوى على التفكير في أي شيء آخر.
مضايقته لي لا تعني شيئًا الآن.
أسرعت تركض، وفي الطريق لمحت حصانًا يغادر الغابة، وكانت على سرجه تنورة مزركشة بالدانتيل.
لم يكن هناك شك أنّها الآنسة سيلينا.
“يا إلهي، ما الذي يحدث؟”
توغلت أكثر، فإذا بجثث الجنود مبعثرة عشوائيًا على الأرض.
كادت معدتها تنقلب، لكنها تماسكت ولم تتوقف عن المسير.
ابتلّ شعرها تمامًا بمطر ينساب من بين الأوراق، ولم يكن لديها حتى متسع لمسحه.
“حسنًا، ما دام السيد جيميني بجانبه فسيكون بخير … أليس كذلك؟”
لكنها ما لبثت أن رأت جيميني مغمًى عليه.
“يا للمصيبة! إذًا من يحميه الآن؟”
تذكرت أن معظم القوة المرافقة خرجت صباحًا، فربما قُضي على أغلبهم.
وضعت إصبعها عند أنفه، فشعرت بأنفاس ضعيفة جدًا، فسارعت تسحبه إلى أسفل شجرة لتحميه.
“أه …”
فجأة قبض جيميني على معصمها بقوة جعلت قلبها يسقط في مكانه.
“أُطلقوا سهامًا مسمومة … خِسَة …”
كان صوته المتهدّج مختلفًا عن المعتاد.
“أين سموّه؟!”
“أرجوكِ … احميه …”
ثم فقد وعيه تمامًا، فازداد قلق فريا.
لم يمضِ وقت طويل حتى فاحت رائحة خانقة ممزوجة بالدم والمطر، وإذا بمياه حمراء تسيل تحت قدميها.
“سموّه …”
كان هناك، ساقطًا أمام كومة من الجثث، ذلك الشاب الأشقر.
شقّت طريقها بين الأشلاء واقتربت منه، فوجدته بالكاد يستند على سيفه، وعيناه شبه زائغتين.
“سموّك ، سموّك! أفِق!”
“فريا …”
أرخى قبضته عن السيف حين سمع صوتها.
“انهض بسرعة!”
‘طالما سمعتُ أنّ حياتَه مهددة دائمًا، لكن المشاهدة المباشرة شيء آخر تمامًا.’
ارتعشت يداها، وغصّ حلقها بمرارة الغثيان.
‘إن بقي هنا فسيهلك حقًا.’
رفعت بصرها القلق تبحث عن مخرج.
لم يكن بمقدورها سحبه وسط المطر إلى السهل المكشوف، فكل لحظة قد ينبثق خطر جديد.
‘لا بد أن يظنّوا أنّه لم ينجُ.’
فضربت مؤخرة حصانه ليهرب بعيدًا لعلّهم يظنون أنّ الأمير لم يكن هنا.
‘أتمنى أن ينجح هذا.’
لكن صرخة ألم خرجت من فم لوكيوس، فأحرقت قلبها.
‘ماذا أفعل الآن؟’
شعرت أنّها تغرق وحدها في هاوية بلا قرار.
مسحت المطر المنساب على وجهها، واتخذت قرارها: ‘يجب أن أخرجه من هنا ويختبئ في مكان آمن.’
انحنت نحوه.
“سموّك ، هل تستطيعون الاتكاء عليّ؟”
أمسك يدها المرتجفة، ونهض متمايلًا.
وبذلت قصارى جهدها لتسنده وهي تجرّ الحقيبة في يدها الأخرى.
إلى أن لمحا فجوة صغيرة خلف الشجيرات، هي أقرب إلى جحر ضيق لا يتعمق كثيرًا، لكنه كافٍ ليحميهما من المطر.
“أسرع، سموّك، بسرعة!”
أدخلته و أجلسته داخلًا، ثم خرجت تسدّ الفتحة بالأعشاب والأوراق.
وقفت بعد ذلك تنظر إلى يديها المرتعشتين الملطختين بالدم ، ولم تصدّق كيف وصلت به إلى هنا حيّة.
كنت أظنّ أنّ قرب ساحة الحرب أمر بعيد عني …
لكن قطرات حمراء سالت من كفها فأعادتها إلى الواقع.
لا وقت للتفكير.
عادت مسرعة إلى جانبه.
“سموّك ، أين تؤلمك الإصابة؟”
“ماء …”
كان وجهه مغطّى بالطين، شعره وثيابه ملطخة بالدماء.
سارعت تخرج تجمع المطر بكفيها وتقرّبه من شفتيه.
“اشرب رجاءً”
لم يستطع ابتلاع شيء، فتسرب الماء من بين شفتيه الزرقاوين.
“الماء مهم لطرد السم …”
تذكرت أحاديث هيرو عن محاولات الاغتيال المتكررة باستخدام السم.
“اصبر قليلًا …”
أمالته وقطّرت الماء شيئًا فشيئًا حتى هدأ تنفسه قليلًا.
يجب أن أبدّل ملابسه المبللة.
خشيت أن يمرض فوق السم.
أخرجت من حقيبتها ثيابًا جافة احتفظت بها، و فرحت أنّها لم تتبلل.
بعد عناء شديد نجحت في تبديله، والعرق يتصبب من جبينها.
لو كنت أعرف إشعال النار …
لكنها لم تتعلم من آرتشر حين عرض عليها.
فاكتفت بمسح وجهه وعنقه ويديه بقطعة قماش مبلولة.
مع حلول الليل، جلست عند مدخل الجحر المظلم، تترقب.
فإذا بأصوات خيل ومشاعل تقترب.
تسللت لترى من خلال ثغرة صغيرة، فوقع بصرها على رجال غرباء بملامح شرسة.
‘ليسوا من جانبنا.’
ارتجفت وعادت مسرعة، لكن لوكيوس أطلق أنينًا مؤلمًا.
ارتجفت أكثر، خائفة أن يكتشفوا مكانهما.
‘سوف يسمعونه!’
بوحي غريزي وضعت يدها على فمه، لكن صوته ازداد.
‘لا، هكذا سينكشف الأمر!’
فانحنت فجأة وألصقت شفتيها بشفتيه لتكتم الصوت.
شعرت بارتعاشة عنيفة، فشفتاه اليابستان التهبتا بجنون تبحثان عنها كما لو أراد التهامها.
‘توقف … توقف!’
ارتبكت، وازداد رأسها دورانًا مع كل احتكاك.
وأطبق بأصابعه على عليها بقوة.
“آه …”
أفلتت تنهيدة منها، لكنها حين رفعت رأسها تنفّس هو بارتياح. أما هي، فقد احمرّ وجهها بشدة.
“ما هذا …”
‘ليست قبلة، مجرد تلامس لا أكثر!’
هزت رأسها محاولة إقناع نفسها، لكن يده جذبت عنقها ثانية والتصقت شفتاه بها.
“سموّك …”
“اشتقتُ إليكِ…”
كان صوته الدافئ بعد القبلة أطاح بلون وجهها، وشلّها الصدمة.
‘هل يظنّ أنّني شخص آخر؟’
دفعت جبينه بجبهتها برفق لتبعده، فسقط متعبًا أرضًا.
وسارعت لتضع حقيبتها وسادة تحت رأسه.
لكن قلبها ما زال يخفق بعنف.
يا إلهي … ماذا كان ذلك؟
وضعت يديها على وجهها الساخن، ثم همست لنفسها بحزم:
“إنه مريض مسموم … عليّ أن أتماسك.”
تجاهلت ما حصل، وجلست تمسح عرقه البارد المتصبب من جبينه.
“لو توقّف المطر لربما عثر علينا المنقذون …”
كان هدير المطر يصمّ الآذان، تخلله وميض برق وصوت رعد يهزّ الغابة، والجو مشبع برائحة الدم والاحتراق.
التعليقات