مرّ شهرٌ على خدمة فريا للأمير لوكيوس.
لم يكن لوكيوس يطيق أن يراها جالسة بلا عمل.
كان يرهقها بالمهام إلى حدّ جعلها تفكّر أنّ الجمع بين آرتشر و صوفيا معًا لم يكن ليبلغ هذا الحد من الإلحاح.
ومع ذلك، لم يكن يمدّ يده بالضرب، لذا فمقارنة الأمر بصوفيا بدت ظالمة بعض الشيء.
“آه، ما أملَّ هذا.”
كان لوكيوس قد خرج اليوم مع الجنود إلى الغابة، بينما تُركت فريا قُرب الأمتعة والخيول دون عمل. وقد أوصاها ألّا تبرح مكانها، فلم يكن بوسعها الذهاب إلى أيّ مكان آخر.
‘لقد تمرّس في تعذيب الناس. تمرّس تمامًا.’
الوقوف هنا بلا حراك كأنها شجرة كان أمرًا يثير فيها الضجر والملل.
“الجوّ رائع، لو كنتُ مع آرتشر نتشارك فخذ دجاجة لكان أفضل بكثير.”
الحديث التافه مع آرتشر أثناء تناول طعامٍ شهيّ كان دائمًا ممتعًا.
“يا إلهي، الملل يجعلني أشعر بالنعاس.”
أخذت تلوّح بغصن شجرة بيدها حين أبصرت جيميني قريبًا منها. كان شديد الصمت لدرجة أنّها طوال الشهر لم تتبادل معه سوى تحيّة عابرة.
“مرحبًا أيّها الفارس.”
“أجل.”
كانت فريا ترتدي زيًّا لائقًا بخادمة وليّ العهد: سروالًا أبيض ضيّقًا، وقميصًا أزرق يغطي الوركين، وحزامًا أبيض عند الخصر. غير أنّها كانت تكره هذه الملابس. فهي بحكم عملها كثيرًا ما تلطّخ ثيابها، فما نفع السراويل البيضاء؟
‘سموّك، هذا الزيّ غير عملي، أليس السواد أفضل؟’
‘لقد اخترتُ الأبيض، فليكن كذلك. وإن احتجتِ فسأطلب لكِ عددًا وافرًا منه.’
ابتسمت بمرارة وهي تتذكّر ذلك، ثمّ حاولت أن تفتح حديثًا مع جيميني: “لقد خرج سموّه ليتأكّد إن كان هناك عدوّ مختبئ في الغابة.”
“أعلم. أنا في حالة انتظار لطلب دعمه.”
كان واضحًا أنّه لا يرغب بالحديث.
لكن فريا لم تتراجع. إذ تذكّرت حادثة سابقة وقالت: “أيّها الفارس، ألا يجدر بك سداد دَينك لي؟”
“… ماذا؟”
انهارت ملامح جيميني الهادئة حين سمع الكلمة.
“أقصد حين أسأتَ فهمي وكدتَ تعذّبني.”
“لقد اعتذرت، ولم يصل الأمر إلى تعذيب حقيقي كما أذكر.”
“انظر بنفسك إذًا.”
رفعت كمّها لتُريه آثار الحبال على جلدها. كانت باهتة لكن ظلّ لونها يميل إلى الحمرة.
“جلدي رقيق كجلد ماعز صغير، وما زالت آثارها تؤلمني كلّما هطل المطر. هل تتصوّر؟”
الاعتذار بالكلام لا يكفي إطلاقًا.
ارتبك جيميني وعيناه السوداوان اضطربتا بشدّة: “حسنًا، ما نوع التعويض الذي تريدينه؟ قولي فقط.”
كان على استعداد ليمنحها أيّ شيء، حتى فرسًا نفيسًا.
لكنّ الخيل لا نفع لها.
‘آه، وجدتُها.’
ابتسمت بخبث، فما كان منه إلّا أن تقلّصت ملامحه.
“هل تعلّمني إستخدام السيف؟”
“……؟”
تغيّر لون وجهه إلى الرماد.
“لا أريد أن أصبح فارسة، بل فقط أقدر على حماية نفسي.”
لقد قوّت جسدها بمبارزات الصباح مع آرتشر، والآن رغبت أن تتعلّم تقنيات حقيقيّة. فربّما تستطيع يومًا أن تلقّن أمثال شايلُو درسًا.
“السيف ليس شيئًا يُتعلَّم فقط بتلويحه. المبتدئ يقضي سنوات في تقوية جسده أوّلًا. ثمّ إنّكِ… امرأة.”
‘أبدًا لا أفهم لماذا يختاركِ سمّوه.’
“يعني يجب أن أقدر على ما يفعله هؤلاء؟”
أشارت إلى رجال يتدرّبون في العراء.
“نعم.”
“إذن لو فعلتُ مثلهم، ستعلّمني؟”
“لكنّكِ …”
شدّت كمّيها إلى أعلى وأدخلت قميصها في السروال، فارتبك أين يضع بصره.
كاد يمنعها، لكنّه صمت.
لقد أخطأ بحقها من قبل، فليمنحها فرصة.
‘ليتها لا تُصاب بجراح خطيرة.’
اختار لها خصمًا أضعف قليلًا، لكنّه لم يُخفِ استياءه.
“أهذه خادمة وليّ العهد التي لا ترى أحدًا أمامها؟”
“أرجو أن تكرمني بمبارزة.”
انحنت بجدّية، واجتمع الجنود حولهما فرحين بفرجة غير مألوفة. لوّح الحكم بالراية.
“لن أرحمك لأنّكِ امرأة.”
هجم مباشرة ليمسكها، لكنّها تفادت بخفّة.
فقد تمرّست ضدّ آرتشر الأضخم.
“أتظنّين أنّ التملّص يجلب النصر؟”
اندفع كالثور وصدمها بقوّة فطرحها أرضًا. ضحك الحاضرون.
مسحت فمها وحدّقت في جيميني الواقف بلا انفعال.
‘ظننت أنّني سأفوز سريعًا … كم أنا متسرّعة.’
لكنّها نهضت، رتّبت ملابسها، واستعدّت مجددًا: “أرجو أن نكمل.”
“إذا كان كسر عظامكِ أمنيتكِ فلا بأس.”
رفع الحكم الراية مجددًا.
هجم الرجل بالأسلوب نفسه وهو يصرخ.
فخفضت فريا جسدها و عدّت: ‘واحد… اثنان… ثلاثة.’
ثمّ في اللحظة المناسبة قفزت على ركبته وأمسكت رأسه وضربت ذقنه بركبتها.
صرخ: “فكّي … فُكّ ذقني!” وسقط أرضًا.
ساد الصمت.
“أيّ وحشٍ هذا المتنكّر بزيّ امرأة؟”
“جيمي جلب العار لنفسه”
سارعت نحوه ومدّت يدها: “لقد تعلّمتُ منك.”
لكنه دفن وجهه في التراب. فاكتفت بهزّ كتفيها وعادت إلى جيميني.
“ها؟ أيمكنني أن أتعلم إذن؟”
ظلّ مذهولًا. لم يرَ في حياته امرأة بهذا الرشاقة. تمعّن فيها وقال في نفسه: ‘لو علّمتُها الخنجر، فستُجيد الكرّ الخاطف.’
فتنهّد قائلًا: “سأدرّبك أوقات فراغي.”
“حقًّا؟ لستَ تمزح؟”
“رجال آل ستيرن لا ينقضون وعدًا.”
خلع قبعته فتناثر شعره البني في الريح.
بدا وسيما على نحو لم تلحظه من قبل.
‘أكاد أغرق بالوسامة هنا.’
وفي تلك اللحظة، ظهر لوكيوس مبلّلًا بالعرق وحدّق فيهما بحدّة: “أيّ حديثٍ يجعلكما تتبادلان تلك النظرات؟”
‘ماذا؟ ما الخطأ الذي ارتكبتُه هذه المرّة!’
توسّعت عينا فريا بدهشة تحت وقع نظرته اللائمة.
التعليقات لهذا الفصل " 23"