“أختي. أنا لستُ ثقيلة، صحيح؟”
كانت قد طلبت أن تحملها على ظهرها، لكنها ربما شعرت بالذنب. أخذت لوتي تتململ محاولة النزول عن ظهر فريا.
عندها مدّت فريا يدها وربّتت على ظهر الطفلة.
“هيه. لا تتحركي، فأنتِ تجعلين الأمر أكثر إزعاجًا”
كانت فريا تلهث وهي تمشي حاملة لوتي على ظهرها حتى وصلت إلى مدخل الشارع حيث يبدأ الحيّ المزدحم.
مسحت ريقها عن طرف شفتيها، ثم أخرجت من صدرها وعاءً صغيرًا وضعته على الأرض. كان هذا المكان هو البقعة المثالية التي لم تأتِ إليها منذ سنتين.
“آه، إنه دافئ.”
حين تشرق الشمس، يمكن الشعور بهذه الدفء حتى الساعة الثالثة. وفوق ذلك، فالناس الذين يمرّون من هنا كثيرون، لذا لم يكن الكسب سيئًا.
عندما اقترب رجل أنيق أو امرأة مع طفلها، دفعت فريا لوتي بمرفقها.
“ابكِ بسرعة.”
“أختي، لماذا تضربينني؟ إنه يؤلمني.”
كان بطن لوتي منتفخًا قليلًا، ومع لمسة فريا المفاجئة، بدأت تبكي بحرقة.
“أرجوكم ساعدونا. أختي الصغيرة مريضة جدًا.”
رمشت فريا بعينيها الخضراوين، فتوقف بعض الناس قليلًا، لكنهم سرعان ما مضوا. توقفت لوتي عن البكاء بعد لحظة، ونهضت تحدّق في المارّين.
“لماذا لا يعطوننا المال؟ ها؟”
كانت هذه المرة الأولى التي تخرج فيها لوتي لتعمل، فكانت متحمّسة على ما يبدو.
نظرت فريا إلى لوتي التي وقفت على قدم واحدة وأخذت تدور بحركات طفولية، ثم هزّت رأسها.
على ما يبدو، لوتي لا تفهم شيئًا من أمور الدنيا.
“فريا. لماذا نحن فقط من دون معاطف؟”
لم يكن الشتاء قد انتهى بعد، والريح باردة.
تقلصت كتفا لوتي من البرد وهي تقارن ملابس المارّين الفاخرة بملابسهم البالية.
كانت خالتها صوفيا تقول: كلما بدوتَ أكثر بؤسًا، نلتَ مالًا أكثر. لكن فريا رأت أن حالتهم أبعد ما تكون عن الفقر المتصنّع.
“لأننا نحن فقراء حقًّا.”
أحيانًا، كان الشارع يبدو أدفأ من البيت نفسه.
“إذن هل باقي الأطفال يعملون مثلنا؟”
“ذلك، ذلك …”
رأت طفلة تمسك بيد أمها، ترتدي معطفًا أزرق وقبعة بيضاء وجوارب دانتيل.
تعثّر لسان فريا.
لا، لم يكن الأمر هكذا.
لقد أمضت سنوات وهي تتسوّل هنا.
رأت كثيرًا من الأطفال في مثل عمرها يمرّون ضاحكين وهم يأكلون الحلوى. لم يكن أيٌّ منهم يبدو كأنه يعمل مثلها.
وجوههم مشرقة، رؤوسهم نظيفة، بلا قمل أو براغيث.
عندها تمددت لوتي على الأرض وأخذت تشتكي.
“فريا. أنا جائعة.”
“أنتِ! لا تتحركي كثيرًا، لهذا يجوع بطنكِ بسرعة.”
مسحت لوتي بطنها وعيناها تدمعان من عتاب أختها.
تظاهرت فريا بالقسوة، لكنها لم تكن غير مبالية.
أكثر من أيّ أحد آخر، كانت تعرف جيدًا شعور لوتي الآن.
“… أرجوكم ساعدونا”
ارتفع صوت فريا تلقائيًا حين سمعت وقع خطوات.
التفت شخص نحوهما بملامح متجهمة.
“يقولون إنهم يستغلّون الأيتام للتسوّل.”
“لكن، بتلك الملامح القاسية، من يستطيع أن يشفق عليهم؟”
كانت امرأتان في منتصف العمر تتحدثان وهما تشدّان مظلتيهما وتمرّان.
حين سمعت كلمة “أيتام” و “متسوّلين”، شعرت فريا بالحرج.
‘وملامحي قاسية أيضًا؟’
هي تكره الناس الذين لا يعطون مالًا بل يكتفون بإطلاق الإهانات. قطّبت جبينها بغضب، بينما سألتها لوتي بفضول وهي ترسم فراشة على الأرض.
“أختي. ما معنى يتيم؟”
“هكذا يسمّون الأطفال الذين لا يملكون والدين، مثلنا.”
“وهل هذا شيء سيّء؟”
بان الإحباط على وجه لوتي، فأجابت فريا بغضب وهي تعضّ على شفتيها المتشققتين.
“الآن ليس هذا المهم. لو عدنا خاليتَي الوفاض، ستعاقبنا خالتي صوفيا بشدة”
سمعت لوتي كلام فريا العابس، فحكّت قروح رأسها قائلة بضعف: “لا بأس أن أُضرب، لكنني أريد أن آكل العشاء.”
‘… يا للغبية!’
لوتي كانت صغيرة، لم تختبر العقاب الشديد بعد.
تذكّرت فريا يد صوفيا القاسية، فعبست بجدية.
“إن أردتِ أن تأكلي، فابكي بصوت عالٍ، عالٍ جدًا.”
لكن لوتي أبقت فمها مطبقًا، وظلّت ترسم على الأرض.
كان حظّهما سيئًا، فلم يجمعا اليوم نصف ما اعتادتا عليه.
كان الطريق إلى البيت يبدو أطول من أيّ وقت مضى.
جلست صوفيا عند المدخل، تفتّش النقود التي يجمعها كلّ طفل. من بلغ الحد المطلوب، سُمح له بالعشاء.
“أنتِ يمكن أن تذهبي إلى قاعة الطعام”
أخيرًا جاء دور فريا ولوتي.
كان فم فريا جافًا حتى إنها لم تستطع بلع ريقها.
حاولت إمالة الوعاء لتبدو النقود أكثر، لكن عيني صوفيا الحادتين لم تنخدعا.
“لا تقولي إنكما خبّأتما بعض النقود؟”
هزّت صندوق النقود بقسوة، ورفعت صوتها.
ارتجفت فريا خوفًا، ولم يكد يخرج صوتها.
“لا. كان حظنا سيئًا اليوم”
“حظ …؟”
رمَت صوفيا الوعاء على الأرض بقوة. ارتطم بالأرض بقعقعة ، ووقعت فريا معه. أغمضت عينيها بشدة، ترتجف وهي تستحضر الجحيم القادم.
“يا صغيرة، كلمة سوء الحظ لا تُستعمل في مثل هذا”
قالت صوفيا وهي تضيق عينيها وتضغط بلسانها على أسنانها. شعرَت لوتي بالذعر و أجهشت بالبكاء.
“لا أطيق الأطفال البكّائين. خذوها بعيدًا.”
أمرت صوفيا أحد الرجال بأخذ لوتي إلى الغرفة، وبقيت مع فريا وحدها.
“ما العقاب المناسب لطفلة عديمة الفائدة مثلك؟”
لمعت شفتاها الحمراوان وهي تفكر.
“وجدتُ العقاب المناسب لكِ. الليلة ستنامين في غرفة الجليد.”
“خالتي! آسفة! لن أكررها أبدًا.”
توسّلت فريا وهي تضمّ كفيها.
غرفة الجليد كانت في أبعد مكان من الميتم، حيث يُرسل الأطفال الذين ارتكبوا خطأ جسيمًا. لكنها كانت تكره ذلك المكان بشدّة.
‘هناك بالتأكيد يخرج الأشباح.’
تعلّقت فريا بساق صوفيا متوسّلة.
“رجاءً، سامحيني هذه المرة فقط، خالتي. أرجوكِ.”
“لماذا تتمرّدين عليّ اليوم أكثر من العادة؟”
زمجرت صوفيا، لكن أحدهم جاء مسرعًا يخبرها.
“سيدتي صوفيا، السيد عاد.”
كانت هذه أول مرة تشعر فريا بفرح عودة “الأب”.
نسيت صوفيا أمر غرفة الجليد وهرعت للترحيب به.
“أرأيتِ؟ لم يكن حظكِ سيئًا إلى ذلك الحد.”
تمتمت فريا وهي تنهض عن الأرض مستندة بيديها. ساقاها ترتجفان، لكنها شعرت بالنجاة. فهناك أطفال لم يحالفهم الحظ أبدًا.
“هل كانت اسمها سيلينا؟ أم سيرينا؟”
لم تتذكّر الاسم بدقة، لكنّها تتذكّر أن المطر كان يهطل يوم دفنوها.
***
في اليوم التالي، لم تكن فريا بخير.
فقد تعبت من مواجهة الريح الباردة طوال اليوم، وفوق ذلك عانت من قسوة صوفيا. أصابها المرض، لكنها لم تجرؤ على إظهار ضعفها.
‘فالطفل المريض يُترَك ليموت.’
وما هو أسوأ، أن الأطفال الذين لم يتلقّوا طعامًا أو علاجًا كان مصيرهم دائمًا سيئًا.
‘لا أريد ذلك!’
جمعت قواها ونزلت إلى قاعة الطعام.
جلست بسرعة، وتسلّمت وعاء العصيدة.
ويا للعجب، فقد كانت هناك قطعة صغيرة من الخبز فوقها.
ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، لكن الأطفال نهضوا دفعة واحدة وقالوا بصوت واحد: “أبانا ، صباح الخير”
دخل رجل طويل القامة، منحني قليلًا، إلى القاعة.
كانت صوفيا تداعبه بخفة.
“اجلسوا وتناولوا طعامكم.”
بكلمة منه، أمسك الأطفال ملاعقهم وبدأوا بالأكل.
بدا الرجل في بذلته اللامعة وساعته الذهبية غريبًا في قاعة الطعام البائسة. لم يعجبه الطعام، فاكتفى بكأس من النبيذ.
“سيد شايلو، كيف كانت العاصمة؟”
“صوفيا. أزعجتِ رأسي منذ الصباح.”
“آسفة … آسفة”
ارتبكت صوفيا، فتظاهرت بتناول الطعام، وبعض الأطفال ضحكوا خفية.
“بالمناسبة ، البارحة … رأيتُ ليلي تدخل غرفة الأب” ، قال أحدهم بصوت منخفض ، فبدأ الباقون يهمسون بتوقعاتهم.
“هل حصلت على هدية منه؟”
“ربما ستذهب معه إلى العاصمة هذه المرة؟”
“يا للحسد”
حين يبلغ أطفال الميتم عمرًا معينًا، يغادرون. لا أحد يعرف إن كانوا يجدون والدين جددًا، لكنهم لا يُرَون أبدًا بعد ذلك.
لم تشعر فريا بالحزن على اختفائهم، لكن تفكيرها كان يثقلها.
***
لم يكن بوسعها التوقف عن العمل بسبب المرض. مشت منحنية، وكلما لامست ثيابها جروحها، تأوهت ألمًا.
“فريا، هل أنتِ بخير؟”
“إن لم تفتحي فمكِ، سأكون بخير”
أعرضت عن نظرات لوتي القلقة وردّت ببرود.
كان عليها أن تجني الكثير من المال اليوم، وإلا فإن غضب صوفيا سيكون كارثيًا.
جلست على الأرض والدموع في عينيها. من جروحها القديمة سال القيح وجفّ على ثيابها، ناشرًا رائحة كريهة.
“أرجو … المساعدة”
حين رأت لوتي حال فريا، مدّت يدها الصغيرة نحو المارّين.
لكنها لم تستطع التعبير جيدًا، فترددت.
“إن لم تستطيعي، اكتفي بالرسم. أنا سأتدبّر الأمر”
مدّت فريا يدها لتسحب لوتي إليها، لكن لوتي فتحت فمها مجددًا.
“أرجوكم ساعدونا. إن لم نأخذ المال، ستُضرب أختي مرة أخرى”
أدهش ذكاء الطفلة أحد الرجال الأنيقين، فرمى إليهما بقطعة فضية. التقطتها لوتي بعينين واسعتين.
“فريا، انظري! أنا كسبتُها!”
“أحسنتِ.”
كانت لوتي بخلاف فريا، بارعة في الكثير من الأمور.
تارةً تمثّل البكاء، وتارةً تدّعي المرض، وتسوّلت بطرق شتّى.
وبفضلها، جمعت الاثنتان مالًا أكثر من الأمس.
قرقرر-!
صدر صوت عالٍ من معدة لوتي.
تجاهلته فريا، وحاولت النهوض بحذر. لم تكن جروحها قد التأمت، فكانت تؤلمها حتى وهي ساكنة، حتى دمعت عيناها.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 2"