أقام الكونت ديبيرتو مأدبة عشاء متواضعة، دعا إليها المقرّبين من فريا قبل زواجها القريب. كانت قائمة المدعوّين تضمّ آرتشر، هيرو، جيميني، ولوتي.
“أشكركم جميعًا بصدق على حضوركم اليوم.”
قال الكونت ديبيرتو وهو ينحني بأدب نحو ضيوفه الجالسين حول الطاولة المستديرة.
“لولاكم، لما كنتُ قد التقيتُ بابنتي في هذا اليوم.”
لقد تذكّر الكونت جميع ما حكتْه له فريا: أيامها في الميتم، وكيف عاشت في ضيافة آرتشر على أطراف البلاد، وكيف كان هيرو مؤنسًا لها، وكيف علّمها جيميني فنّ استخدام الخنجر. كلّ ذلك كان مدعاة امتنان عميق.
“الطعام بسيط، لكن أرجو أن تتناولوه برضا.”
ما إن أنهى الكونت كلمته، حتى برقت عينا آتشر وهو يحدّق في اللحم فوق المائدة.
“اللورد فالتر.”
“… أنا؟”
حكّ آتشر رأسه بخجل حين نادته فريا باسمه. فقد مُنح لقب النبالة ومقاطعة صغيرة مكافأةً على بطولاته، وكان قد صفّف شعره بإتقان وارتدى بزّة الفرسان الرسمية بأناقة.
“طبعًا قصدتُك أنت، آرتشر. مَن غيرك؟”
“لا يليق بكِ أن تمازحي الكبار.”
“لكنّك بلا لحية، تبدو أصغر سنًّا الآن.”
“أحقًّا؟ أيتها المشاغبة!”
ورغم أنّ فريا ارتدت ثوبًا فخمًا، إلا أنّ آرتشر ظلّ يتذكّر صورتها الأولى حين رآها منهكة وعيناها غائرتان كأنّها تحتضر. والآن هي مقبلة على الزواج، فأحسّ بفيضٍ من العاطفة يغمره.
“فريا، إن أزعجكِ جلالته يومًا، فأخبريني فقط. سأترك كلّ شيء وآتي لأشارككِ ساق دجاجة كما في السابق.”
وبينما كانا يتبادلان الحديث بودّ، التفت الكونت ديبيرتو نحو غابرييل الجالس بجواره وهمس: “إذن، لم تعثر بعد على صوفيا؟”
“اختفاؤها غريب يا سيدي. لا أظنّها ماتت.”
“تلك المرأة الماكرة لن تموت بهذه السهولة.”
ارتشف الكونت رشفة نبيذ أحمر، بينما شعرت فريا على الطرف المقابل بارتباكٍ مفاجئ. فلم تخبر أحدًا بأنّها هي من تخلّصت من صوفيا، ولن تخبر أحدًا أبدًا.
وبينما كان الجميع منشغلين بالأحاديث والطعام، ظهر ضيفٌ غير متوقّع.
“آرتشر، هل تتكرّم بإفساح المجال لي؟”
كان ذلك لوكيوس الذي أمسك بمعصم فريا في اللحظة التي همّت فيها برفع كأسها لتشرب.
“قلتُ لكِ ألا تشربي في غيابي، أليس كذلك؟”
“آه …”
غطّى هيرو وجهه بكلتا يديه من شدّة الإحراج وهو يرى الإمبراطور لا يتردّد في إظهار محبّته أمام الجميع. وفريا بدورها لم تعرف كيف تتصرّف، فاكتفت بابتسامةٍ مرتبكة.
“سمعتُ أنك كنتَ مشغولًا اليوم يا جلالتك.”
“كيف أعمل بهدوء وأنا أعلم أنهم مجتمعون هنا؟”
“هممم.”
سعل الكونت ديبيرتو خجلًا. فهو يعرف مقدار حبّ الإمبراطور لابنته، لكن المشهد كان يفوق تحمّله.
“أعذروني على قدومي المفاجئ.”
قال لوكيوس دون أن يترك معصم فريا من يده.
“نُرحّب بجلالتك.”
قالت لوتي من طرف المائدة وقد احمرّت وجنتاها خجلًا. فابتسم لها لوكيوس برقة.
“تحبّ فريا إلى هذا الحدّ؟”
سألته لوتي، فأخذ الإمبراطور يشرب الماء جرعةً بعد جرعة قبل أن يجيب بصوتٍ عالٍ: “بالطبع! أحبّها مئة ضعف أكثر ممّا تحبّني هي!”
كان صوته عاليًا حتى تردّد صداه في قاعة طعام آل ديبيرتو، حتى أنّ فريا تمنّت لو تنشقّ الأرض وتبتلعها من شدّة الحرج.
وحتى جيميني، المعروف بقلّة كلامه، لم يتمالك نفسه وأطلق تنهيدةً قصيرة.
‘كيف يمكن لرجلٍ بهذا البرود عادةً أن يتغيّر إلى هذا الحدّ؟’
لم يختبر الحبّ من قبل، لكنه أيقن أنّه داءٌ أشدّ فتكًا من ضربة شمس.
‘هذا هو نفس الرجل الذي طارد شايلو وسحق ساقيه بدمٍ بارد؟’
تذكّر جيميني تلك الليلة حين طارد مع الإمبراطور شايلو سرًّا، وكيف تركوه للجنود الإمبراطوريين بعد أن شلّوا حركته ليقبضوا عليه.
‘من كان ليتخيّل هذا الوجه الآن وهو ذاك الحاكم القاسي نفسه؟’
رفع جيميني كأسه وشرب جرعة، بينما كان هيرو يهمهم غير مصدّق لما يراه من حركات الإمبراطور المليئة بالعشق والدفء.
بعد انصراف الضيوف، خيّم الهدوء على قصر آل ديبيرتو.
سار الكونت برفقة فريا في الممرّ المضاء بالشّموع، وتوقّفا أمام لوحةٍ زيتية كبيرة.
“فريا، أتمنّى أن نرى بعضنا كثيرًا حتى بعد زواجكِ.”
“بالطبع يا أبي، سأفعل.”
كان الحنين بينهما عظيمًا بعد طول الفراق. ربّت الكونت على يدها بلطف وابتسم بخفوت.
كان يودّ أن تبقى ابنته معه إلى الأبد، لكن وجه زوجته في اللوحة بدا وكأنّه يهمس له بألا يطغى عليه الحنين.
“ما زال في قلبي الكثير ممّا أريد أن أقدّمه لكِ.”
“أما أنا، فما أريده فقط أن تبقى بخير يا أبي.”
كانت تظنّ في الماضي أنّ السعادة تكمن في الفساتين الفاخرة والمجوهرات والعربات، لكنّها أدركت لاحقًا أنّ تلك كانت مجرّد أوهام. فقد رأت بعينيها قبح النفوس المختبئ وراء عطور النبلاء الزكيّة.
‘النبالة ليست ما يحدّد الإنسان.’
تذكّرت شايلو، الذي اشترى لقبه بالمال، لكنه كان يفيض نتانةً وخبثًا.
“بالمناسبة، أبي، لا داعي للقلق بشأن صوفيا بعد الآن.”
تردّدت قليلًا قبل أن تقولها، لكنها آثرت راحة بال والدها.
“ماذا؟! وكيف عرفتِ؟”
“أنا ابنتك يا أبي.”
كانت ابنته التي عادت إليه قد تجاوزت كلّ ما تخيّله عنها.
صارت قويّة وصلبة، لا تهزمها قسوة العالم، تتقن القتال بخفّة لا تقلّ عن الرجال.
‘أتذكّر وجه غابرييل حين رآها تمسك بالخنجر لأوّل مرة!’
رفع الكونت نظره نحو اللوحة من جديد، وتذكّر كلمات زوجته الراحلة يوم نظرت إلى طفلتها في المهد: ‘انظر، قبضتها الصغيرة قويّة جدًّا. ربما ستغدو فارسة يومًا ما.’
ضحك حينها، لكنه الآن أدرك أنّها ربما كانت ترى المستقبل بعين الأمّ. تراقص لهب الشمعة في يد فريا على ملامح ابتسامةٍ دافئة رسمها على وجهه.
***
وفي يوم زفاف لوكيوس وفريا، ضجّت إمبراطورية مورسياني بأسرها بالفرح. لم يشهد الناس احتفالًا إمبراطوريًّا كهذا منذ عقود، وغمرت الزينة والشوارع أجواء العيد.
جلست فريا إلى جوار لوكيوس في العربة الملكية المزدانة بالزهور، بينما أمطرهم الناس بوابلٍ من بتلات الورود.
“لوكيوس، أنا متوتّرة قليلًا.”
“وأنا كذلك، فريا.”
حتى هو، الذي اعتاد ساحات القتال، جفّ حلقه من التوتّر. لم يغمض له جفن طوال الليل، فكانت الدنيا تدور أمام عينيه.
نزل الاثنان من العربة، فإذا بطريقٍ من الحرير الأبيض مفروشٍ على العشب يقودهما إلى حيث ينتظرهما الجمع.
أمسكت فريا بيد لوكيوس ومشت بخفّة، تتأمّل وجوه الحاضرين إلى أن وصلت إلى نهاية الممرّ حيث كان الكونت ديبيرتو وغابرييل في انتظارها.
“يا إلهي! ما أجملكِ يا ابنتي!”
قال الكونت وقد تأمّلها بإعجابٍ وفخر.
كانت ترتدي فستان الدانتيل الأبيض ذاته الذي ارتدته والدتها يوم زفافها، وقد عُدل ليناسب قوام فريا الآن.
“أمّكِ تراها الآن من السماء، بلا شكّ.”
اغرورقت عينا الكونت بالدموع وهو يتذكّر زوجته الغائبة.
مسحت فريا دموعه برفق وقالت بصوتٍ مرتجف: “شكرًا لك، يا أبي … وشكرًا لك، يا أخي.”
وبعد تبادل التحايا، بدأت مراسم الزفاف. ومع كلّ خطوةٍ وسط أنغام الموسيقى الناعمة، كان لوكيوس يتنهّد من الألم الخفيّ في بطنه.
“لوكيوس، ما بك؟”
“لا شيء … بخير.”
حاول التماسك، لكن وجعه اشتدّ. أكمل المراسم إلى أن نطق الكاهن بإعلان الزواج، وتبادلا قبلةً خفيفة على الخدّ.
“أُعلن اتحاد لوكيوس مورسياني وفريا ديبيرتو بالزواج.”
أُطلقت أسراب الحمام الأبيض في السماء وسط تصفيقٍ وهتافاتٍ عارمة، وتناثرت الزهور فوق العروسين. لكن ما إن استدارا، حتى هوى لوكيوس أرضًا مغشيًّا عليه، فعمّت الفوضى.
هرع هيرو، وتعالت صيحات البحث عن الطبيب في أرجاء القصر.
وفي تلك الليلة، أفاق لوكيوس بصعوبة، فرأى السقف يتراقص أمام عينيه.
“لوس، هل أفقْت؟”
“فريا … ماذا عن زفافنا؟!”
تذكّر فجأة يومه المنتظر، فجلس مذعورًا، لكن جسده لم يطاوعه. مسحت فريا عرقه وهي تكتم ضحكةً بين الدموع.
‘لقد أغمي عليه من فرط التوتّر لا غير.’
قال الطبيب إنّها حالة إغماء عصبيّ، تصيب عادةً الفتيات قبل حفلات ظهورهنّ في المجتمع. أن يُصاب بها هذا الإمبراطور الضخم كان أمرًا مضحكًا حقًّا.
“لم تنم جيّدًا قبل الزفاف، أليس كذلك؟”
“أجل …”
همس بصوتٍ مبحوح، فقد كان القلق يحرمه النوم أيّامًا.
كلّما تخيّل الزفاف، اشتعل قلبه خفقانًا.
“لا تقلق. الزفاف تمّ بنجاح.”
ما إن سمع كلماتها، حتى هدأ جسده وأرخى أنفاسه.
“إذن، الآن يمكننا أن …”
“أن ماذا، يا جلالة الإمبراطور؟”
رمقته فريا بابتسامةٍ ماكرة، فابتسم هو بخبث وقال: “كلّ المتزوّجين الجدد يعرفون ما أعنيه بليلة الزفاف.”
“وأنت لا تقوى حتى على الجلوس.”
تنهدت فريا مازحة: “لم أتوقّع أن أبدأ ليلة العمر كممرّضة.”
لكنّ ذراعه القويّة جذبتها فجأة إلى الفراش، ودفء جسده أحاط بها.
التعليقات لهذا الفصل " 109"