تحت أسوارٍ شامخة تنتصب عندها برجٌ عالٍ، كان يقف رجلٌ يُخفي وجهه بغطاءٍ ثقيلٍ، يسند ظهره إلى الجدار.
لم يفعل شيئًا سوى إطلاق أنفاسٍ متكرّرةٍ متعبة.
وحين بدت من فوق البرج أصواتُ بكاءٍ خافتة، رفع رأسه ببطءٍ ونظر إلى الأعلى.
“أمي …”
تسلّل خيطٌ من شعرٍ أحمر من تحت عباءته الداكنة.
إنّه هارت، الذي كان يومًا أميرَ مورسياني، يتيه الآن بلا وجهة.
وحين سمع أنّ الحكم على أمّه قد صَدَر، جاء مسرعًا إلى هذا المكان.
‘المكان الذي سُجنت فيه أمّي.’
كان يرى أنّ ما ارتكبته أمّه من ذنوبٍ يستوجب العقاب، ولم يكن له في ذلك رأيٌ آخر.
لكنّ فكرة أنّها تتألّم خلف الجدران كانت تُوجعه بشدّة.
وفوق ذلك، لم يكن هو نفسه في موقفٍ يُشرّف؛ فقد ارتكب الخطيئة الكبرى حين تخلّى عن والدته.
“أمّي … لِمَ لم نقدر أن نحيا مثل بقية الناس؟”
في الماضي، كانا يعيشان أيّامًا بسيطة، لا ثراء فيها، لكنّها مملوءةٌ بالأغاني والمحبّة.
وإن كان قد نسي معظمها لصِغَر سنّه آنذاك.
وأثناء تجواله في البلاد، كان هناك من يبحث عنه.
أكثرهم من النبلاء الذين أرادوا استغلاله لإسقاط لوكيوس، وتحقيق مصالحهم الخاصة.
‘لا شأن لي بمكائدكم. لا تبحثوا عنّي بعد اليوم.’
وتذكّر هارت أنّ لوكيوس لم يطارده، بل تركه حيًّا.
فبعث إليه برسالةٍ تضمّ قائمةً بأسماء أولئك الذين حاولوا استمالته.
‘أعلم أنّ هذا لا يكفي كي أنال الغفران، ولكن …’
منذ ارتكبت ميلادي ما ارتكبته بحقّ لوكيوس، ظلّ هارت يشعر بأنّ دينًا ثقيلًا يقيده.
وقد قرّر أخيرًا أن يغادر مورسياني إلى الأبد.
إلى أرضٍ لا يعرفه فيها أحد، ليعيش في هدوء، ويصلّي أن تحيا أمّه بقيّة عمرها بسلام.
“أمّي … عيشي بسلام.”
استدار ببطءٍ ليمضي، فإذا بصوتٍ عذبٍ يترنّم في أذنه،
الصوتُ الذي كان يُغنّي له وهو طفلٌ صغير.
***
بعد مطاردةٍ طويلةٍ، واجه هيرو أخيرًا من كان يبحث عنه،
ذلك الذي حاول اغتيال وليّ العهد ذات يوم — الساحر مايكل.
“هاه، انظروا من هنا …”
“مايكل ، أنصحك أن تستسلم بهدوء.”
التقى الاثنان في ساحةٍ مقفرةٍ قرب الجبل، يتبادلان النظرات الحذرة.
أشعل مايكل وهجًا في كفّه الحمراء، وانقضّ على خصمه بلا إنذار.
“حِيَلٌ رخيصةٌ كهذه لا تجدي معي”
صدّ هيرو الهجوم بخفّة، ثم رفع كمّه، فكشفت ذراعه عن جرحٍ أسودٍ ينبض بالظلال.
حين رآه مايكل، بدت على وجهه علاماتُ الصدمة.
“الآن أفهم … لهذا خسرتُ أمامك.”
ثم رفع يديه إلى جانبي رأسه مستسلمًا.
كان ذلك اعترافًا بالهزيمة الكاملة.
“لم أكن لأتخيّل أنّ ساحرَ عائلةِ إلايماس النبيلة قد لوّث نفسه بالسحر المظلم.”
“إن كان ذلك لحماية جلالته، فلا شيء أمتنع عنه.”
بدت كلمات هيرو غريبةً على مسامع مايكل، الذي تمتم متعجّبًا: “أن تُضحي بحياتك من أجل الإمبراطور؟ يا للعجب…”
فردّ هيرو بثبات: “ساحرُ عائلةِ إلايماس يهب حياته لمن وُكّل بحمايتهم. هذه هي عاداتنا القديمة.”
ارتجف وجه مايكل قليلًا، وارتسمت عليه مرارةٌ عميقة.
كان نصفُ دمه من تلك العائلة، لكنه لم يُعامَل يومًا كأحدهم.
“آه، هكذا إذًا …”
ضحك بمرارةٍ لا تليق بجمال وجهه.
لقد نسي كم ضحّى ليبلغ هذا المقام، وكم من روحٍ دفعها ثمنًا لقوّته الحالية.
‘كنتُ أريد فقط أن أنتقم من العائلة التي نبذتني… وأن أُوفي الجميل لكيرا…’
كان يريد أن يهزم هيرو ويسلب منه لقب “أعظم ساحر”.
حينها فقط كان يظنّ أنّهم سيعترفون به.
لكنّ فكرة الموت لأجل أحدهم كانت بعيدةً عن فهمه.
“يبدو أنّني لم أكن يومًا واحدًا من آل إلايماس.”
جلس على الأرض مستسلمًا، ومدّ معصمه للأمام.
فإذا اعترف الساحرُ بالهزيمة، جاز للآخر أن يسلبه سحره كلّيًّا،
وهذا ما جاء هيرو من أجله.
“هاه …”
قبل أن يأتي، كان قد عقد العزم على قتله فور رؤيته.
لكنّ كلماته جعلت صدره يضطرب بعنف.
“ما ارتكبتَه كان فظيعًا، لا يُغتفر.”
“أجل، لقد لطّختُ نفسي بالكثير من الدماء.”
أطلق هيرو تنهيدةً طويلةً، ينظر إلى خصمه المرهق.
لا بدّ أنّه لم يُولد ليعيش حياةً منفى ودمٍ كهذه.
“لمَ التردّد؟ خُذ سحري، ثم اقتلني وانتهِ من الأمر.”
رفع مايكل رأسه، فالتقت عيناهما؛ نظرتان متشابهتان رغم كلّ شيء.
“سأسلب سحرك … ثمّ أنفيك.”
“لِمَ لا تقتلني؟”
لم يُجب هيرو، بل حدّق بمعصمه المشتعل بالحمرة.
لقد استنزف مايكل أكثر من نصف عمره ليبلغ تلك القوّة،
ولم يبقَ له من حياته إلا القليل.
سيخنقه ذنبه قبل أن يلفظه القدر.
“اذهب، ولا تعد.”
محا هيرو سحره تمامًا، ثم استدار دون أن يلتفت.
ظنّ أنّه سيشعر بالارتياح، لكنه شعر بفراغٍ موجع.
“أيّها الساحر الأعظم هيرو … كان شرفًا لي أن أقاتلك.”
سمع صوته يختفي خلفه، لكنه لم يتوقّف.
***
رفع لوكيوس الورقةَ المجعّدة التي سقطت أرضًا، فمدّت فريا يدها بسرعةٍ لتأخذها منه.
كانت تعلم أنّ غيرته لا تُبشّر بخير.
“لا شيء مهمّ.”
“الآن زدتِني فضولًا، ما الذي تُخفينه عنّي؟”
ما إن بسط الورقة حتى تقلّصت ملامحه.
الهواء الدافئ الذي كان يحيط بالمكان تحوّل فجأةً إلى برودةٍ قاسية.
“لماذا توجد هذه الرسوم هنا؟”
كانت صورًا لِـلويس الماركيز، ودوبون الدوق —
أشهر العُزّاب في إمبراطوريّة مورسياني.
“فريا …؟”
ابتسم لوكيوس ابتسامةً متكلّفةً جامدة، فرأت فريا أنّه كان ليَغضب خيرٌ له من هذا الهدوء.
“حقًّا، لا أدري! غابرييل هو من أراها لي.”
وهذا صحيح.
هو من أخرجها أثناء شرب الشاي.
لكن لوكيوس ابتسم ابتسامةً باردةً مليئةً بالغلّ.
‘أتودّ عائلتها أن تلعب من وراء ظهري؟’
غلت الدماء في عروقه.
“كنتُ أبحث عن فارسٍ لإرساله إلى الحدود الشمالية… أتُراه، اللورد ديبيرتو، يتحمّل بردها؟”
عرفت فريا أنّه يهدّد غابرييل ضمنًا، لكنها تمالكت صوتها وقالت: “لا تقل هذا. أخي ضعيف البنية، لن يحتمل البرد أصلًا.”
ما إن دافعت عنه، حتى تجعّد جبين لوكيوس.
“فريا، يبدو أنّك لا تعرفينني بعد.”
مزّق اللوحات إربًا وهو يتمتم بصوتٍ قاتم.
لقد فرح حين استعادت عائلتها، لكنّ فكرة أن يُشاركها اهتمامها بأحدٍ غيره كانت تخنقه.
وخاصةً تجاه أخٍ في عمره تقريبًا.
“إن واصلتِ الدفاع عنه، فلن أستطيع أن أضمن سلامته.”
“لوكيوس! إنّه أخي!”
“ولو! غيرتي تحرقني، ماذا أفعل!”
كانت غيرته الطفولية تجعلها تريد الضحك رغم كلّ شيء.
“لوكيوس، أنت لا تعرف كم تبدو ظريفًا الآن.”
“تضحكين؟ بينما أنا أحترق؟”
“وكيف لا أضحك؟ تبدو مثل كلبٍ غاضبٍ ينفش شعره!”
“كنتِ تقولين إنّي قطّ … والآن كلب؟”
أمسك بكرسيّها وأداره لتواجهه.
وضع يديه على الطاولة محاصرًا إيّاها بين ذراعيه.
فتطلّعت إليه بعينين مرتجفتين، ودفعت صدره براحتَيها.
“أتعلم أين نحن؟!”
“قلتِ إنّي ظريف. فهل يُخيفك القطّ أو الكلب الظريف؟”
خشيت أن يراهما والدها أو أخوها، فعضّت شفتها توتّرًا.
“كنتُ أنوي أن أمدحك اليوم، لكن أظنّني سأتراجع.”
كان نبرُ صوتها البارد جرسَ إنذارٍ يعرفه لوكيوس جيّدًا.
أرخى ذراعيه وجلس بتعبٍ.
“حين تصيرين هكذا، لا أستطيع قول شيء.”
“فلا تعبث إذًا.”
لم يسبق له أن غلبها في أيّ جدال.
نظر إليها بعينين حزِينَتين، فشعرت بالشفقة عليه.
“لوكيوس، أغمض عينيك.”
“هنا؟ الآن؟”
فما إن فعل، وقدّم شفتيه، حتى وضعت بينهما قطعةَ بسكويتٍ صغيرة.
“بسكويت؟”
قالها بخيبةٍ مضحكة، فضحكت هي بدورها.
“لذيذ، أليس كذلك؟”
“لا أدري …”
اقتربت منه فجأةً، وطبعت قبلةً خفيفةً على شفتيه.
“والآن؟”
بقي صامتًا لحظةً، ثم ابتسم اتّساعًا، وكان يومًا حلوًا بطعم البسكويت والشاي، يومًا من سكينةٍ وسعادة.
التعليقات لهذا الفصل " 108"