في الحقيقة، كان فستانها أكثر احتشامًا من أيّ فستانٍ آخر في الحفل.
فالموضة الرائجة آنذاك كانت تُبرزُ جمال قوام المرأة، حتى صار من المعتاد أن يُكشف نصف صدرها. رمقت فريا فساتين النسوة اللواتي يرقصن من حولها وهمّت شفتيها في امتعاض.
“وما الخطأ في هذا؟”
“أتسألين لأنّكِ حقًا لا تعلمين؟”
“هذا الفستان اختاره لي والدي وأخي بأيديهم.”
“ومن قال إنّ الفستان ليس جميلًا؟”
لم تفهم فريا سبب انزعاجه.
“قلتُ إنني لا أفهم، فلماذا تغضب؟”
“أريد أن أرى هذا الجمال وحدي، يا فريا.”
تجمّدت شفتا فريا دهشةً.
كيف يقول مثل هذا الكلام المُحرج بهذه السهولة؟ وحين ثبّت عيناه المتقدتان على عنقها الرقيق، تلعثمت وهي تقول: “لمَ … لمَ تنظر إليّ هكذا؟”
وحين حاولت أن تغطي عنقها بيدها، انزلقت عيناه نحو كتفيها.
“أتظنين أن تغطية عنقك تكفي؟”
كانت نظرته تمسّ جسدها كلّه حتى شعرت بقشعريرة تسري فيها.
“فريا الصغيرة ستصاب بالزكام.”
ثمّ، وعلى وجهه تعبير امتعاضٍ واضح، خلع سترته وألقاها على كتفيها.
“يُمنع ارتداء مثل هذه الفساتين في الخارج.”
“ماذا؟! لماذا عندك كل هذه الممنوعات!”
كان من العذاب أن ترقص وهي ترتدي سترة فوق فستانها الأنيق.
‘ليت الموسيقى تنتهي بسرعة.’
أرادت أن تهرب من تلك النظرة التي تخنقها. شعرت بالأرض تتماوج تحت قدميها وبالعرق البارد يبلّل ظهرها.
وحين أوشكت المقطوعة على الانتهاء، شدّت قبضتها على يده وقالت: “من الأفضل أن نغادر هذا المكان الآن.”
“أتخجلين مني يا فريا؟”
“ما هذا الكلام؟”
“أعرف أنني لستُ كفئًا لكِ.”
أحيانًا كان لوكيوس يقول أشياء يستحيل فهمها. وبينما كانت تحدّق فيه محاولةً إدراك مقصده، رفع يده ببطء نحو القناع الذي على وجهه.
“لكنني، أينما كنت، أريد أن أكون معك.”
“لا، لا تخلعه!”
كان ضغط الحفل عليها كافيًا، ولم تكن مستعدة للعاصفة التي سيثيرها ظهوره بهذه الطريقة. لكنه لم يُعر كلامها اهتمامًا، ورفع ذقنه بعناد، ثم أمسك القناع بإحكام.
سقط قناع لوكيوس على الأرض في اللحظة نفسها التي انتهت فيها المقطوعة الموسيقيّة.
“آه …”
وضعت فريا يديها على وجهها، وشعرت بالسكون المشحون يلفّ قاعة الحفل. كان الهواء يلسع بشرتها من شدة التوتّر.
“نُحيّي جلالتك الإمبراطور!”
صرخ أحدهم، فانحنى الجميع في لحظة واحدة. أمّا لوكيوس، فلم يبدُ عليه أيّ اضطراب، وردّ التحية بخفةٍ واتّزان، ممسكًا بيد فريا بينما يشقّ طريقه بثباتٍ وسط القاعة.
***
حين عادت فريا إلى القصر، كانت ملامحها تشعّ حماسًا لرؤية المشهد المألوف. لم تكن تتوقّع أنّها ستعود إلى هنا مجددًا …
‘لا، بل كنتُ أظن أنّي لن أعود أبدًا.’
ما زالت تشعر بالحرج والارتباك حين تتذكّر ما حدث في تلك الليلة. أمّا الرجل الذي وُجد في غرفة نوم لوكيوس فكان مايكل.
‘إنه رجل خطرٌ للغاية. نبحث عنه في كل مكان وسنقبض عليه قريبًا.’
قالها هيرو بجدٍّ بالغ. لم يخطر ببال فريا أنّ مايكل الذي عاشت معه بعض الوقت كان يُخفي مثل ذلك الظلام في داخله.
“حسنًا، كفى تفكيرًا سخيفًا.”
أخذت تتفقد المكان بفضول، وتوجّهت أولًا إلى ساحة التدريب.
“قال إن لديه وقتًا بعد الظهر.”
قررت أن تستغل الفرصة للقاء آرتشر. فمنذ رحيلها المفاجئ، لم تره إلا عبر الرسائل.
“أين يمكن أن يكون آرتشر الآن؟”
وقفت تراقب الفرسان وهم يتبارزون، مرتديةً فستانًا من الموسلين الأزرق مزدانًا بالدانتيل الأبيض عند الياقة والأكمام.
كانت صرخات التدريب ورذاذ العرق المتطاير يملأ المكان، فينعش صدرها. وبينما يشتبك فارس ضخم مع آخر نحيف، عادت بها الذاكرة إلى أيامٍ بعيدة.
لماذا لا أراه في أي مكان؟
كان ذا جسدٍ ضخم يصعب أن يختبئ، ومع ذلك لم تلحظه.
كانت تفكّر به كثيرًا خلال غيابها؛ فلولاه لما كانت نجت. كانت مرهقة وجائعة، لا تقوى على اتخاذ القرار الصائب.
“إنه رجل غريب الأطوار حقًا …”
رسمت على وجهها ابتسامة صغيرة وهي تمشي بخطى بطيئة حتى وصلت قرب مجموعة تلعب كرة القدم.
يلعبون الكرة هنا أيضًا!
تذكّرت حين لعبت مع آرتشر ورجاله عند الحدود.
كانت تجربةً ممتعة، رغم أنّها كثيرًا ما كانت تُطرَح أرضًا بسبب قوة الرجال. وفجأةً رأت على البعد رجلاً أشقرَ مألوفًا يركض خلف الكرة.
آه! إنه آرتشر!
كان غائبًا عن الأنظار لأنه كان منشغلًا باللعب. ولمّا رآها، ابتسم ورمى الكرة نحوها عمدًا.
تدحرجت الكرة إلى قدميها، فترددت لحظة. كانت تعلم أنّ السيدة فرانشيسكا ستوبّخها بشدّة لو ركلت الكرة وهي بفستانها.
لكنني أريد أن أركلها، اشتقت لذلك.
رفعت الفستان قليلًا وركلت الكرة برفق، فاستقبلها آرتشر وسدّدها نحو المرمى لتسكن الشباك. دوّى هتاف الرجال، ثم اقترب آرتشر منها.
“تجيدين اللعب يا آنسة، من علّمكِ؟”
“ما هذا، نحن وحدنا هنا، لمَ تقول آنسة؟”
كان آرتشر على طبيعته تمامًا رغم طول الغياب.
“قد يُسبب لنا هذا الموقف مشكلة، فلنؤجل التحية إلى بعد قليل.”
“حسنًا.”
ابتسمت فريا بخفة وسارت بجانبه في هدوء.
من بعيد، كانا يبدوان كسيّدةٍ نبيلةٍ ترافق فارسها.
وحين دخلا بيت آرتشر، رفعها فجأة في الهواء ودار به دورة كاملة.
“يا لهذه الجاحدة! أترَين كم كان صعبًا أن أراكِ؟!”
“آرتشر! أنزلني فورًا، سأتقيّأ!”
“حـ، حسنًا!”
تركها بسرعة وقد تملكته الحماسة. وقف يتأمل وجهها مليًا.
“تبدين بخير، وجهكِ مشرقٌ فعلًا.”
لم يعد منظر فريا في فستانٍ أنيق يبدو غريبًا عليه، كأنها وُلدت سيّدةً من النبلاء.
“جيد … هذا جيد حقًا.”
كانت ترسل له الرسائل والهدايا أحيانًا، لكن اللقاء المباشر بدا أجمل بما لا يُقاس.
“الكونت ديبيرتو يعاملكِ جيدًا، أليس كذلك؟”
شعر آرتشر بالحرج وهو يتأملها، مزينةً بالجواهر والثياب الفاخرة.
“آه، سؤالٌ سخيف … لا يمكنني مقارنته بنفسي.”
تذكر أنه لم يُقدّم لها شيئًا تقريبًا، بل جعلها تنام على أرض الخيمة وتعمل طوال اليوم. لم يطعمها طعامًا مغذيًا ولا فكّر بشراء فستانٍ كهذا. تدلّت كتفاه بحزن، فلكزته فريا بقبضتها على كتفه.
“آرتشر! ما بك؟ هذا لا يشبهك أبدًا. لقد مدحتك كثيرًا أمام الكونت.”
“ماذا؟ مدحتِني؟ بماذا تحديدًا؟”
رفع رأسه بخجل وهو يلوّيه في ارتباك، والعضلات في ذراعيه تتشنّج. ابتسمت فريا ابتسامة عريضة.
“من غيرك علّمني القتال بالأيدي؟ ومن علّمني ركل الكرة؟”
كانت التقنيات التي تعلّمتها منه نافعة للغاية؛ فقد استخدمتها أكثر من مرة لتتخلّص من رجالٍ حاولوا مضايقتها.
“هاه؟! هذا شيء تافه!”
“بالعكس! بفضل تدريباتك الصباحية، طرحتُ الكثير من الرجال أرضًا!”
رفعت ذقنها بفخر، فضحك آرتشر ضحكةً عالية.
“أجل! أجل! ومن غيري علّمك؟ أولئك الضعفاء لا يصمدون أمامكِ لحظة!”
ثم قادها إلى الطاولة خارج البيت.
“ولِمَ كل تلك الهدايا التي أرسلتِها؟”
لم يستطع إخفاء سعادته وهو يتذكر اللحم المدخّن والنبيذ الفاخر الذي وصل إليه منها.
“تدّعي التذمّر وأنتَ سعيد، أليس كذلك؟ أخبرني، أما زلت نادمًا؟”
كانت تتذكر تذمّره حين قال إن تربيته لها كانت كالعناية بطفلٍ لم يُرزق به قط.
“ندم؟ أبدًا! لقد التقطتُ جوهرة في الطريق، لا يمكن أن أندم.”
نظرا إلى بعضهما بعيونٍ رطبةٍ وقلوبٍ دافئة؛ هو الذي عاش حياةً قاسيةً في الحروب، وهي التي كانت على شفا الموت حين التقاها.
التعليقات لهذا الفصل " 104"