كان التدريب القاسي يبدّد الأفكار المزعجة، لكنّه جلب أثرًا جانبيًّا بسيطًا.
حين كانت يدا لوكيوس ممتلئتين بالبثور ويسيل منهما الدم وهو ممسك بسيفه، كان منظره يزرع الخوف في قلوب من يراه.
‘جلالتك، أرجوك اهدأ.’
قال هيرو بوجهٍ قَلِق وهو يحاول منعه، لكنّ لوكيوس لم يستطع التوقّف.
فقد اعتلى العرش الذي طالما تمنّاه، لكنّ إحساسًا باللاجدوى سيطر عليه.
‘بعد أن التقيتُ فريا، أدركتُ لماذا كنتُ أتصرف بجنون.’
فمن دونها، لا معنى لأيّ شيء.
تحرّر لوكيوس من أفكاره بصعوبة، وحرّك شفتيه المتجمّدتين قائلًا: “كنتُ ناقصًا كثيرًا. لكنّ مشاعري نحوكِ، فريا، كانت صادقة.”
حاول أن يبتسم، لكنّ شفتيه لم تطاوعاه.
“رأيتُ أنّكِ بخير، لذا سأرحل الآن.”
لم يكن قد نال مسامحتها بعد، واستمرار تمسّكه بها سيكون طمعًا منه.
وحين همّ بالاستدارة، صاحت فريا: “إن ذهبتَ الآن سيحدث مكروه!”
لم تُرِد فريا أن تدعه يرحل هكذا. فهي أيضًا لم تكن دائمًا تحسن التصرّف معه.
‘فأنا بدوري إنسانة مليئة بالنقائص.’
لكن يبدو أنّ لوكيوس لم يسمعها وسط صوت المطر، إذ أدبر وبدأ بالمغادرة.
مدّت يدها لتقبض على عباءته، غير أنّ المطر جعل يدها تنزلق مرارًا.
أمسكت بطرفها أخيرًا وشدّت عليها.
“قلتُ إنّني كنتُ قلقة عليكَ.”
“طبعًا، فأنا لا أفكّر إلا بكِ.”
قالها بصوتٍ خافت وهو يدير ظهره.
“ثمّ ترحل هكذا فقط؟ أتظنّ أنّني سأستطيع النوم بعد ذلك؟”
في ليلةٍ ماطرة كهذه، ركوب الخيل خطر. ربما يسقط، أو تشتدّ عليه الحمى.
كانت تعلم أنّها ستقضي الليل كلّه قلقًا بلا نوم.
نظر لوكيوس إلى يدها الممسكة بعباءته وقال بصوتٍ منخفض: “هل ستسامحينني؟”
“ما معنى الغفران أو عدمه بيننا.”
كان كلّ شيء جديدًا عليهما، فارتبكا معًا.
وحين فكّرت في الأمر، أدركت أنّ تجنّبها له طوال شهرٍ كامل لم يكن مجديًا.
“فريا، أنتِ من أمسكتِ بي هذه المرّة؟”
“ما الذي تقصده يا لوكيوس؟”
“لا أدري، ما الذي أعنيه فعلًا؟”
ولمّا حاول أن يدير ظهره من جديد، خفق قلب فريا رعبًا.
لم تُرِد أن تدعه يرحل مهما كان.
“أحبّك، يا لوكيوس.”
“… وماذا بعد؟”
بدا على لوكيوس ملامح انتظارٍ ما، لكنّها لم تفهم.
“تكلّم بوضوح كي أفهم.”
“فريا، أنا أكره كلّ شيء من دونكِ. وأنتِ؟”
تسلّل صوته الخافت غير الواثق إلى المطر، فأسقطت فريا يدها الممسكة بعباءته، ثمّ قبضت كفّها وضربت ظهره بخفّة.
“قلتُ إنّي أحبّك، ألا تفهم؟ أيّها الأحمق!”
أيّ نفعٍ في أن يكون إمبراطورًا قويًّا يسيطر على ساحات المعارك، إن كان لا يفهم قلب امرأةٍ واحدة!
ضربته عدّة مرّات وهي تبكي، فاستدار لوكيوس وأمسك معصمها بقوّة.
“هذا صحيح. قيل لي إنّي أحمق واقع في الحب.”
عانى لوكيوس من الألم وطلب من هيرو أن يعطيه دواءً يزيل هذه المشاعر.
‘جلالتك ، السحر لا يستطيع فعل ذلك. أستطيع تغيير المظهر أو الجنس، لا القلب.’
‘أتقول هذا وأنتَ كبير السحرة؟!’
‘فهل تودّ إذًا أن أبدّل جنسك لتكون رفيقة فريا؟’
كم استشاط غضبًا يومها …
لكنّ ما أغضبه أكثر أنّ اقتراح هيرو أغواه للحظة.
فلو أمكنه أن يرى فريا مجددًا، لكان مستعدًّا لفعل أيّ شيء.
“حقًّا، ما الذي سأفعل بكَ.”
قالت فريا وهي لا تزال ممسكة به ، ثمّ ارتمت في صدره.
حين لامس جبينها صدره، احتضنها بذراعيه الكبيرتين.
وهطلت الأمطار الغزيرة على رأسيهما بلا انقطاع.
***
في صباح اليوم التالي، في مائدة آل ديبيرتو.
توقّف المطر فجرًا، فصار الهواء نقيًّا.
جلس الكونت و ابنه حول الطاولة الطويلة يلتفتان يمنةً ويسرةً بقلق.
“لكن لماذا لم تخرج فريا بعد؟”
كان الكونت، الذي اعتاد النهوض متأخرًا، قد أصبح يستيقظ باكرًا كلّ صباحٍ بفضل فريا، إذ كان يتلهّف لرؤية ابنته باكرًا ولو قليلًا.
وبينما يحتسي كوبه الثاني من الشاي منتظرًا إياها، اقترب الخادم وهمس في أذنه: “سيّدي الكونت، الآنسة ليست على ما يرام اليوم، ولن تستطيع تناول الإفطار.”
“فريا مريضة؟ هل استدعيت الطبيب؟ ولماذا تخبرني الآن فقط؟”
انهالت أسئلته السريعة، فخفض الخادم رأسه مجيبًا: “نعم، الطبيب في طريقه. وهناك أمر آخر، جاءنا ضيف الليلة الماضية.”
“ضيف؟”
أخبره الخادم أنّ الإمبراطور زارهم ليلًا، وأنّ الآنسة فريا أمرت بإيوائه في غرفة الضيوف.
“ويبدو أنّ جلالته مريضٌ أيضًا.”
“ما هذا الذي تقول!”
نهض الكونت فزعًا، وتوجّه أوّلًا إلى غرفة فريا.
كانت نائمة بهدوء ولم تبدُ شديدة المرض، فتنفّس الصعداء.
ثمّ أسرع إلى غرفة الضيوف ووقف عند الباب قائلاً بنبرةٍ رسميّة: “جلالة الإمبراطور.”
لكنّ حالة لوكيوس كانت وخيمة من النظرة الأولى.
تنفّس الكونت بعمقٍ وقال بقلقٍ بالغ: “غابرييل، أرسل فورًا إلى القصر لإبلاغهم.”
فقد سقط لوكيوس وفريا مريضين بعد تلك الليلة الممطرة.
وتلبّد وجه الكونت ديبيرتو بالهمّ.
جاء هيرو، الذي زارهم لعلاج الإمبراطور، يبحث عن فريا.
“فريا، مضى وقت طويل.”
بدا مختلفًا عن المعتاد، خاليًا من طرافته.
جلس بالقرب منها متعب الملامح وقال بلطف: “سألقي عليكِ تعويذةً تمنحكِ بعض النشاط.”
“لا بأس، لقد تعافيتُ تقريبًا. لكن ماذا عن جلالته؟ لم أسمع شيئًا عنه.”
“جلالته؟”
عضّ هيرو شفته بشدّة عند سماع اسم لوكيوس.
“حالته ليست جيّدة أبدًا. يقولون إنّه ظلّ واقفًا تحت المطر خمس ساعاتٍ تلك الليلة.”
كانت أمطارًا لا يُحتمل البقاء تحتها نصف ساعة.
فهمت فريا حينها لماذا كان جسده باردًا كالثلج.
ولمّا حاولوا إقناعه بالراحة في بيت الضيافة، سقط عند عتبة الباب فاقد الوعي.
خافت فريا أن توقظ أباها الذي يعاني ضعف القلب، فتكتمت على الأمر.
“كم هو عنيد!”
“جلالته كان ينتظر ردّكِ بفارغ الصبر.”
ولم يكن ذلك فحسب، فقد حاول الفرار من القصر لرؤيتها.
نظر هيرو إليها بجدٍّ وقال: “كوني صريحة معي. ألم تتركي جلالته يموت؟ إنه الآن بين الحياة والموت.”
خفض رأسه بوجهٍ يائس، فوضعت فريا يديها على فمها متصدّمة.
“ماذا تقول؟ لا يمكن!”
فلو كان الأمر خطيرًا، لكان أبوها أو الخدم أبلغوها.
“لقد أضعفه جسده أصلًا، وزاد المطر حالته سوءًا.”
“لكنّ الطبيب عالجه، وأنت أيضًا جئت!”
كانت نبرتها ترتجف بالقلق، تحاول إقناع نفسها أنّ الأمر غير حقيقي.
فلوكيوس ليس شخصًا عاديًّا، لا بدّ أنّه تلقّى أفضل علاج.
“لقد فعلنا كلّ ما في وسعنا، ولم يبقَ إلّا انتظار معجزة من الحاكمة ديانا.”
ازدادت حيرتها بمرأى هيرو المطرق رأسه بحزن.
ماذا حدث خلال الأيام الثلاثة التي قضاها في الحمّى؟
راقبها هيرو بعينين مرهقتين، وهو يعلم أنّ لا حلّ إلّا بها.
فهي الوحيدة القادرة على إنقاذه، بقلبها لا بسحرها.
‘لو استطعتُ تطهير أخطائي السابقة بهذا فقط …’
عندها دفعت فريا الغطاء ونهضت بعزمٍ قائلة: “يجب أن أراه الآن.”
واسندتها وصيفتها وهي تسرع نحو غرفته.
خرج الطبيب والخدم فور دخولها.
“لو … لوكيوس!”
كان يلهث بصعوبة وشفاهه متشقّقة.
“لا … لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًّا.”
شابه وجهه وجوه الأطفال الذين التهمتهم الحُمّى من قبل.
ارتجف قلبها وسرعان ما جلست بجانبه تمسح وجنتيه بكلتا يديها.
“لوس، لوس، افتح عينيك.”
لماذا لا تراه إلا على شفير الموت؟
انسابت دموعها الساخنة على خديه ثمّ سقطت على الأرض.
“قلتَ إنّك ستكون معي في يوم المطر!”
تدفّقت الوعود التي قطعها على ذهنها.
“ووعدتَ أن تشتري لي الكثير من الكعك!”
ولم تتوقّف: “وقلتَ إنّك تحبّني!”
دوارٌ أصابها، فاتكأت برأسها على صدره.
“قلتَ إنّك لا تملك أحدًا غيري … فكيف تتركني وتذهب؟”
كانت قد وجدت عائلتها، لكنّ لوكيوس لم يبقَ له أحد.
“قلتُ إنّني سأكون عائلتك!”
كانت يومها تنوي أن تكون كأخته الكبرى، لكنّها في الحقيقة أرادت أن تكون أسرته.
“كنتُ مشوّشة ولم أستطع أن أُعبّر عمّا في قلبي كما ينبغي. لا تذهب قبل أن أُحبّك كما تستحقّ!”
بكت بحرقة، ودفنت وجهها في صدره بينما غمرت دموعها ثيابه.
كلّ ما مضى عاد كندمٍ لاذع.
وفجأة، أحسّت بجسده يتحرّك قليلًا، ثمّ امتدّت يده الكبيرة تمسح شعرها بلطف.
“أميرتنا فريا … صارت بكّاءةً صغيرة.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باقي 9 فصول لنهاية القصة الرئيسية ، صبرك يارب على الرخص و الدراما الي صايرة 🫠
التعليقات لهذا الفصل " 101"