هل يُعقَل أنّ السببَ هو أنّها شجرةٌ تسكنها روحُ جنّيّ؟
فقد كانت سرعتُها في النّموّ مذهلةً فعلًا.
لقد بدأت البراعمُ بالتشكُّل قبل أربعةِ أيّامٍ فقط، وها هي الأغصانُ الّتي كانت خاليةً تمامًا من الأوراقِ تَخضرُّ خلال أيّامٍ قليلةٍ.
“آنستي، كما وعدتُكِ، لقد أحضرتُ اليومَ السّمادَ!”
صاحت الفيكونتيسةُ فينيان بصوتٍ مبتهجٍ وهي تقفُ أمامَ عربةِ الإمداداتِ الضّخمةِ الّتي تراكم فوقها السّمادُ كجبلٍ.
“هل أمزجُ كلَّ هذا معًا؟”
“لحظةً فقط. سأُجري بعضَ الفحصِ أوّلًا.”
بعد أن طلبتُ من الخدمِ إنزالَ أكياسِ السّمادِ من العربة، نظرتُ إلى روحِ شجرةِ المشمشِ الّتي هرعت نحوي بعينينِ لامعتين.
‘لنرَ، هل هناك نوعٌ من السّمادِ لا يمكن إعطاؤه؟’
ولا كيسٍ واحدٍ.
رغم أنّ الأوراقَ قد نبتت بكثافةٍ، فإنّ روحَ شجرةِ المشمشِ كانت لا تزالُ تُطالبُ بكمياتٍ هائلةٍ من السّماد.
“يبدو أنّه يمكنكِ مزجُها كلَّها.”
“هاهاها! هل سمعتُم؟ امزجوها فورًا!”
أمرت الفيكونتيسةُ فينيان الخدمَ بينما كانت تمسكُ بنفسها مِجرفةً كبيرةً، وبدأت تخلطُ السّمادَ بكلّ قوّتها.
رغم أنّ بعضَ الأنواعِ كانت تنبعثُ منها رائحةٌ كريهةٌ جدًّا، لم يتغيّر تعبيرُ وجهها المشرق.
“أحضري السّمادَ التالي! بسرعة!”
بالأمسِ فقط كانت تتحدّثُ عن اقترابِ أجلِها، أمّا الآن، فالنّشاطُ الّذي تبعثه يوحي وكأنّها ستعيشُ خمسينَ سنةً أخرى بسهولةٍ.
‘قسمُ الولاء… هل هناك طريقةٌ لإلغائه؟’
أوه، لا أعلم.
حين يأتي وقتُ استلامِ الظّرفِ الماليّ والانصراف، سأكونُ صريحةً وأعتذر.
طالما أنّ الدّوقَ سيُساعدني، فلا بدّ من إيجادِ مخرجٍ ما.
‘لكن هناك شيءٌ آخرُ يُقلقني…’
نظرتُ إلى الفيكونتيسة فينيان وهي تخلطُ السّمادَ بحماسٍ، وإلى روحِ الشّجرةِ الّتي تشجّعها بقوّة، ثمّ تحسّستُ العقدَ المخبّأ تحت ملابسي.
ذلك الحجرُ الرّوحيُّ الّذي صنعته “أليشيا” على هيئةِ عقدٍ.
‘لو أزلتُ هذا الحجرَ، وراقبتُ كيف تمتصّ التّربةُ السّمادَ والماءَ بسرعةٍ… فهل كان ذلك الحجرُ هو السّببَ في أنّ التّغذيةَ لم تكن تصلُ إلى الشّجرةِ؟’
يكفي وجودُ روحٍ داخلها لتكونَ قادرةً على التّعافي والنّموِّ بهذه السّرعةِ.
فما نوعُ التّأثيرِ الّذي أحدثه ذلك الحجرُ الرّوحيُّ حتى جعلَ شجرةَ المشمشِ العظيمةَ تموتُ ببطء؟
صحيحٌ أنّ شجرةَ المشمشِ عادت إلى الحياة، لكنّ السيّدةَ الكبرى مرضت لمدّةِ ثلاثةِ أيّامٍ كاملة.
وكان ذلك بلا شكٍّ مرضًا نفسيًّا.
“يا لها من جريئةٍ… ما أوقحها!”
ومن ساهم في إشعالِ غيظها أكثرَ لم تكن سوى فيرونيكا.
لقد جلبتُها إلى جناحِ أخر بعيدًا عن أعينِ النّاسِ، وطلبتُ منها ألّا تقتربَ من إيري، فإذا بها تُخرجُ شفتَيها وتردّ بانزعاجٍ:
”لِمَ؟ لماذا لا يمكنني اللّعبُ مع أختي آيري؟”
”ولا تُنادِيها أختًا أصلًا! قلتُ لكِ سابقًا، لم تُعقدِ الخطوبةُ رسميًّا بعدُ، ومن يدري ما قد يحدث؟”
”لكنّ أخي قال إنّه سيتزوّجُها مهما حصل. أخي لا يُخلفُ وعدَه، على عكسِ أمّي.”
”ماذا؟”
”لا أريدُ منكِ تمثيليّاتٍ ولا دمى. لم أعد أريدُ اللّعبَ معكِ يا أمّي.”
”ماذا قلتِ؟!”
”الوعدُ لا يُقطَعُ عبثًا. وأنتِ لم تَفي لي بأيِّ وعدٍ قط!”
فيرونيكا رغم شخصيّتِها الحسّاسة وسهولةِ انزعاجِها، كانت دائمًا فتاةً طيّبةً وهادئة.
لكن أن ترفعَ صوتَها وتتصرفَ بهذه الوقاحةِ أمام والدتِها… فهذا لا يمكن أن يكونَ طبيعيًّا.
السببُ لا يحتاجُ إلى تفكير.
لا بدّ أنّ إيري أثّرت فيها تأثيرًا سيّئًا.
“تلك الشّقيّة… كيف تجرؤ على أن تعبثَ بابنتي…؟ آه، يا إلهي.”
كانت غاضبةً. محبطةً.
وكان أكثرُ ما يُشعرُها بالجنونِ هو خبرُ ولاءِ الفيكونتيسةِ فينيان لـإيري.
‘بما أنّها أقسمت الولاء، فلا بدّ أنّ بوراني والفيكونت كايل قد سمعا بذلك أيضًا.’
وهذا يعني أنّهما لن يُساعداني في التخلّصِ من إيري.
فمعارضتُها الآن تعني معاداة فينيان.
‘كيف أصبحتُ الوحيدةَ الّتي تقفُ في وجهِ تلك المرأة؟! كيف لي وحدي أن أطردَ تلك الماكرةَ!’
وفي ذروةِ حيرتِها، أتاها الخادمُ بخبرٍ لم يُسعدها أبدًا.
“سيّدتي، صاحبُ السّموّ الدّوقُ قد أتى لزيارتِك.”
“قُل له ليعُد! ألا ترى أنّني لا أستطيعُ مقابلةَ أحد؟!”
“لكنّكِ تبدين في كاملِ نشاطِك.”
وكما في المرّةِ السّابقة، دخلَ إلكيوس غرفةَ نومِ والدتِه دون استئذان.
لقد تجاوزَ كلّ الحدودِ في تجاهلِ والدتِه.
غضبَت السيّدةُ الكبرى غضبًا شديدًا، فجلستْ فجأةً على السّريرِ وهي تصرخُ فيه:
“اخرجْ حالًا! وإن لم تفعل، سأخرجُ بنفسي وأصرخُ أمام الجميعِ أنّ ولدي طردَ والدتَه، وأنّ الدّوقَ مجرّدُ ابنٍ عاقٍ لا قلبَ له!”
“ذاك سيكونُ مشهدًا رائعًا. لكنّني للأسفِ لستُ هنا من أجلِكِ اليوم. لديّ شأنٌ آخرُ وسأغادرُ حالما أنهيه، فاستريحي.”
“ماذا؟ ومن غيري لديكَ شأنٌ معه في جناحِ دلفينيوم؟!”
“الخادمةُ أوليفيا.”
فُتحت عينا أوليفيا على وسعهما حين ناداها، وتجمّدت السيّدةُ الكبرى من الذّهول.
“خادمتي؟ ما بها؟!”
“هناك بستانيٌّ حاولَ دسَّ السّمِّ في السّمادِ الّذي كانت خطيبتي ستستخدمه على شجرةِ المشمش.”
عندما شكر اسمعها، أوليفيا حافظت على هدوئِها بصعوبةٍ، لكن السيّدةَ الكبرى لم تفعل.
“وتزعمُ أنّ خادمتي هي من أمرته بذلك؟!”
“نعم. البستانيُّ اعترفَ أنّ خادمةَ السيّدةِ الكبرى قد رَشتْه.”
تحوّلت نظراتُ كلٍّ من إلكيوس والسيّدةِ الكبرى نحو أوليفيا.
وسطَ خليطٍ من برودِ الازدراءِ، وقلقِ الصّدمة، أجابت أوليفيا بهدوءٍ:
“لا بدّ أنّ هناك سوءَ فهمٍ. أو ربّما أحدُهم دبّرَ هذه المكيدةَ لإلصاقِ التّهمةِ بي.”
“نعم، لا بدّ من ذلك! إنّها خادمتي المُقرّبة! لا يمكن أن تفعلَها! أعِدْ استجوابَ ذلك البستانيّ!”
“سيّدتي، أحقًّا تظنّين أنّني لم أتحقّقْ منه مرارًا بشتّى الطّرق؟”
إلكيوس لم يكن يشكّ، بل كان واثقًا.
وقد أشار برأسِه إلى الفرسانِ الواقفين خلفَه.
“خُذوها.”
“لا!”
صرخت السيّدةُ الكبرى ونهضت من سريرِها، ثمّ تدحرجتْ أرضًا لتحميَ خادمتَها.
تردّد الفرسانُ في تقييدِ أوليفيا فكانت الأوامرُ متوقّفةً بانتظارِ موقفِ السيّدةِ الكبرى.
“إنّها خادمتي منذ بيتِ أهلي! لقد قضت عمرَها في خدمتي! كيف تجرؤون؟!”
“لقد شرحتُ مرارًا أنّ الأمرَ ليسَ عبثًا.”
قالها بنبرةٍ رسميّةٍ تمامًا، بلا ذرّةِ عاطفة.
حينها، انفجرت أوليفيا بالبكاءِ بين ذراعي السيّدة الكبرى:
“أنا مظلومةٌ فعلًا! كيف يجزمُ صاحبُ السّموِّ بذنبي دون أن يسمعَني؟!”
“سأستمعُ إليكِ، لذا تعالِي بهدوءٍ.”
“سيّدتي…!”
تعلّقت أوليفيا بسيّدتها، والّتي ضمّتْها كمن يحتضنُ ابنتَه، ثمّ صاحت في وجه إلكيوس والغضبُ يشتعلُ في عينيها:
“لطالما أرهقتني بمعاملتِك لي بالجفاء! ومع ذلك، حاولتُ احترامَ كونِك دوقًا! لكن أن تأخذَ خادمتي أيضًا؟!”
“أها. إذًا، تتّهمينني الآن أنّني أُلبِسُ خادمتَكِ التُّهمَ بدافعِ الكُره؟”
“نعم!”
صرخت وكأنّها تفقدُ عقلَها، فاكتفى إلكيوس بقرصِ شفتيه تحسّرًا.
نظراتُه لم تخلُ من الشّفقةِ والازدراءِ معًا.
“حقًّا أمرٌ مؤسف، يا سيّدةَ لوديان الكبرى.”
حين نطقَ اسم لوديان، ارتجفَ جسدُها.
“بعد أن دبّرتِ مؤامرةً لتدميرِ الرّمزِ الحامي لعائلتنا… كيف تملكين الجرأةَ لتدّعي البراءةَ؟ كم مرّةً في حياتكِ يا سيّدةَ لوديان، سخرتِ من إرثِنا المقدّسِ هذا؟”
“إلكيوس لوديان! لا تتفوّهْ بهذه التّفاهات!”
“بما أنّ فمي مفتوح، فدعيني أُكمل: هل تُدافعين عن خادمتِكِ لأنّكِ أنتِ من أمرَها؟”
التعليقات لهذا الفصل " 29"