الفصل 87
في تلك اللحظة، دخل جوزيف إلى حانة حاملًا صندوقًا كبيرًا.
“وصلتُ لتوصيل السندويشات الصغيرة.”
“أهلًا بك.”
رحّب به بابلو، الذي كان يلمّع كؤوس البيرة. وضع جوزيف فوق البار كمية كبيرة من السندويشات صغيرة الحجم، ثم سأل:
“هل هذه الكمية كافية لليوم؟”
“إنّها كافية تمامًا.”
“يا للعجب، من الغريب فعلًا أنّ من يطلب البيرة يحصل على سندويش مجّانًا!”
“لكنّ الفكرة ناجحة، أليس كذلك؟ خصوصًا السندويشات التي تحتوي على الجبن واللحم، فهي تتماشى جيدًا مع البيرة.”
“ومن غيري وضع هذه الوصفة؟”
ضحك جوزيف ضحكةً مجلجلة، وجلس على الكرسي أمام البار، فسأله بابلو:
“ما الذي ترغب به؟”
“لفّ لي دجاجًا مقليًّا واحدًا.”
“هل ستأكله مع مدام هيس؟”
جاء صوت مفاجئ من جانبه، كاد جوزيف يسقط من المفاجأة، لكنّه بالكاد استعاد توازنه، وفتح فمه دون أن يخرج صوت وهو يرى وجهًا لم يتخيّل أن يصادفه هنا.
“آه… لماذا… كيف أنتِ هنا…؟”
نظر جوزيف، المرتبك تمامًا، بين إيثيل وبابلو، اللذَين تبادلا نظرات ضاحكة. وبعد أن استجمع جوزيف أنفاسه، خفَض صوته وسأل:
“هل يجوز لكِ الخروج هكذا بسهولة؟”
كان سؤالًا يحمل معانٍ كثيرة. ابتسمت إيثيل وأجابت:
“آههاه، أردتُ الأكل، فماذا أفعل؟”
“كان عليكِ إرسال أحدهم لشراء الطعام بدلًا عنكِ!”
“لكنّه ألذّ عندما يُؤكَل وهو ساخن.”
“آه يا إلهي…”
هزّ جوزيف رأسه بيأس، لكنّ إيثيل كانت سعيدة بلقائه بعد غياب طويل.
“بالمناسبة، بابلو.”
“نعم، آنستي.”
“هل من المناسب أن تبقى هنا؟ فأنت طاهٍ في القصر، ومع ذلك تقلي الدجاج طوال اليوم…”
“لا بأس بذلك.”
أجاب بابلو بحماس، وكأنّ قلق إيثيل غير مبرَّر.
“فكّر جيدًا يا بابلو. إن بقيتَ في القصر، فبطبيعة الحال ستصبح… ذلك الطاهي الخاص.”
“آههاه! ما هذا ‘الطاهي الخاص’؟!”
“من الصعب قول المكان بالضبط.”
وأومأ جوزيف برأسه نحو قصر الإمبراطور، لتنفجر إيثيل ضاحكة. وحين شاهد بابلو تفاعلهم اللطيف، مثل عمٍّ وابنة أخيه، قال بهدوء:
“أنا مرتاح هنا.”
“حتى وأنتَ واقف أمام الزيت طوال اليوم؟”
“وأنتَ أيضًا تصنع الخبز طوال النهار يا جوزيف.”
“صحيح… لكنّي صانع خبز بالأصل!”
أراد أن يوضح أنّ هناك فرقًا بين الطاهي وصانع الخبز، فالأخير من الطبيعي أن يقضي يومه في إعداد الخبز، أمّا الطاهي، فأن يبقى طوال اليوم يُقلي، فهذا غريب.
لكنّ بابلو كان جادًّا:
“في القصر، هناك طهاة أفضل منّي. لكنّ هذا العمل يناسبني أكثر. كما أنني أستمتع بمراقبة الناس.”
“… إذا كان هذا رأيك، فأنا ممتن لك. يمكنني الاعتماد عليك في إدارة المتجر.”
ابتسمت إيثيل وهي تفكّر بأن تُخبر إيفان، الذي سيعود قريبًا إلى فونيت، عن مدى كفاءة أخيه.
ثم اقترحت تغيير ترتيب الطاولات في الحانة:
“حين تتحسّن الأجواء، ضَع بعض الطاولات أمام المحلّ، بابلو.”
“في الخارج؟”
“نعم. سيحبّها الجميع كثيرًا، على الأرجح.”
وتخيّلت كيف سيصبح الميدان أكثر حيويّة من الآن. مجرّد تخيّل ذلك كان يملؤها بالرضا.
في اليوم التالي، في قصر عائلة ميشلان.
كانت إيثيل تُعاني من ألم في رأسها أثناء كتابة مقال عن البيرة والدجاج المقلي اللذين تناولتهما بالأمس.
كتابة المضمون لم تكن صعبة، لكنّ العنوان كان المشكلة.
“الدجاج المقلي والبيرة يُحرّكان فونيت؟ لا، لا يصلح…”
أرادت عنوانًا خاطفًا يأسر القارئ من النظرة الأولى، لكنّ الإلهام لم يأتِ.
“آه، لو كان لِيَام هنا الآن!”
لكن للأسف، لم يكن لِيَام معها ليساعدها.
فقد انضمّ لتدريب مع فرسان الإمبراطورية بناءً على توصية السيّد فيديكس.
وبينما كانت إيثيل تفكّر وتعضّ على طرف قلمها، سُمِع طَرقٌ على الباب.
“آنستي، إنّه أنا جايل.”
“ادخل.”
أذنت له بالدخول، فأطلّ برأسه، وجهه الضخم كوجه قاطع طريق، لكنّ ملامحه كانت متوهّجة.
فهمت إيثيل على الفور سبب مجيئه، وقفز قلبها من الحماسة.
“لا تقل أنّك نجحت؟”
“حسنًا، إلى حدٍّ ما.”
قدّم لها جايل وعاءً بحذر. العجينة الحمراء بدت حارّة من مظهرها فقط.
“اللون مثالي! والملمس يبدو مناسبًا تمامًا.”
“حاولتُ أن أقترب قدر الإمكان من الطعم الذي وصفته آنستي. هذه المرّة لدي ثقة كبيرة.”
“حقًا؟”
كان يبدو أكثر ثقة من أيّ وقت مضى، مما زاد من توقّعاتها.
ما أعدّه جايل كان معجون الفلفل المصنوع من فاكهة “بيبيل”. كانت محاولاتهم السابقة لإعداد المعجون الحارّ والحلو قد فشلت، لكن جايل لم يستسلم.
‘كم كان من حسن الحظ أن دورانتي تمكّن من اختراق تجارة البيبيل في ذلك الوقت.’
رغم تحطّم السفينة أول سفينة تجارية لشركة ميشلان، فقد حقّقت نتائج مهمّة. وبعد وقت قصير، وصلت سفينة محمّلة بفواكه البيبيل إلى ميناء فونيت الأول.
وبما أنّ وحوش البحر الشمالي هدأت في ذلك الوقت، تمكّنت إيثيل من الحصول على البيبيل بأمان.
مدّت إيثيل إصبعها الصغير، غمسته في المعجون، وتذوّقته. كان القوام مثاليًّا.
“ما رأيكِ…؟”
“…”
“أليس جيّدًا حتى الآن؟”
راقب جايل تعابير وجهها، قلقًا، بينما كانت تغمض عينيها وتتذوّق. ثمّ صاحت وهي تبتسم ببريق:
“هذا هو، جايل! هذا هو تمامًا!”
“حقًّا؟!”
“نعم! إنه ممتاز!”
قبض جايل على قبضته فرحًا، وضحكت إيثيل ضحكة مرحة.
لقد وُلد معجون الفلفل الشهير المصنوع من الصويا، السكر، الطحين، ومسحوق البيبيل.
* * *
“وهذا كل ما حدث، الأن يمكنني الآن أن أعدّ التّتبُوكِّي!”
“تتبوكي؟ هذا الطبق؟”
رفعت إيثيل رأسها نحو إيلان، الذي كانت تسير بجانبه ممسكةً بيده. تساءلت ما إذا كان يتذكّر ما هو التتبوكي.
“هو طبق نُصنع فيه نوعًا من المعكرونة السميكة من الطحين، ونقلّبها في صلصة حارّة.”
“ما هذا، أتتذكّرهُ فعلًا؟”
“قلتِ أكثر من مرّة إنّكِ تشتاقين إليه. ووصفه كان مميزًا جدًّا.”
“المهم أنّني لن أحتاج إلى الشرح بعد الآن.”
وضعت يديها على خصرها، ورفعت ذقنها بثقة.
“سنأكله قريبًا! تتبوكي!”
ضحك إيلان بصوت عالٍ وهو يراها تهتف باسم الطبق وسط حديقة الأعشاب. ثمّ مسح دمعة من عينه وقال:
“متى يؤكل هذا الطبق عادةً؟”
“متى؟”
أمالت إيثيل رأسها، مستغربةً من السؤال.
“لا وقت معيّن. يُؤكَل عندما ترغب بذلك فقط.”
“إذًا، ليس طعامًا خاصًّا جدًّا؟”
“لكن هناك أوقات يكون فيها ألذّ من غيره.”
“مثل متى؟”
بدأت إيثيل تعدّ على أصابعها:
“بعد يوم شاقّ جدًّا. في يوم مزعج جدًّا. أو عندما أشعر بظلم غير مبرّر. أو عندما يجعلني المدير والموظفون أجنّ تمامًا.”
“هل كان يحدث هذا؟”
“كثيرًا.”
تذكّرت لحظات من حياتها السابقة، ونظرت أمامها بعينين حالمتين.
“في تلك اللحظات، مجرّد قضمة من التتبوكي تُزيل كلّ الصداع.”
“ما هذا؟ هل هو دواءٌ سحريّ؟”
“دواء؟ نعم، يُمكن اعتباره كذلك. كلّما كان أكثر حِرَاقةً، زادت فاعليّته!”
وأشارت نحوه بنظرة ضيّقة، وكأنّها تُعطيه أمرًا خفيًّا. وكان تأثيرها قويًّا لدرجة أنّ إيلان اقتنع.
“إذًا عليَّ أن أتناوله قريبًا.”
“خصوصًا وأنت مشغول هذه الأيّام، أليس كذلك؟”
كان إيلان منشغلًا بتنظيم شؤون دوقية نورتن. فبعد أن استعاد اسم أستير، أصبح عليه ترتيب الأمور قبل العودة إلى القصر الإمبراطوري.
وقد تولّى أوسويل، خادمهم المخلص، إدارة نورتن بدلًا منه.
وأصبح قصر النّجوم، مقرّ إقامة الدوقيّة، هو المقرّ الإمبراطوري الجديد. رغم كلّ ذلك، لا يزال إيلان يُقيم فيه بدلًا من القصر.
“بالمناسبة، إيلان.”
“نعم؟”
“هل السبب في بقائك بالقصر هو أنّك لا تحبّ حديقة القصر الإمبراطوري؟”
“……سأقتلعها كلّها في أقرب وقت.”
قالها بغيظ شديد. فضحكت إيثيل بصمت، إذ نادرًا ما تراه ينفعل هكذا.
“لكن لم يعُد بإمكانك الاعتناء بها بنفسك، أليس كذلك؟”
“يمكنني على الأقل الإشراف على صيانتها.”
عرف إيلان أنّه لن يملك وقتًا لممارسة هوايته، فتنهد بخفة. وكان ذلك كافيًا لإرضاء إيثيل. كلّ شيء عاد إلى مكانه الصحيح.
نظرت إيثيل حول حديقة الأعشاب الخاصّة بهيلدا. كانت كما عهدتها، باستثناء لون البراعم الجديدة الذي يُشير إلى بداية الربيع.
“لكن، هل يُسمح لنا بالتجوّل هنا؟”
سألت فجأة بقلق.
“جئنا لأنّها دعتنا، لكن… ألا سنُوبَّخ إن رآنا أحد؟”
فرغم أنّ هيلدا وحدها تعتني بالحديقة، فهي ما تزال جزءًا من الدير. والتنزّه فيه مع شاب وقت الغروب قد يُعدّ تصرّفًا متهوّرًا.
شعرت بالقلق فجأة، وأمسكت بيد إيلان.
“لا يمكن! لنغادر، إيلان.”
“لا تقلقي. لن نتعرّض للتوبيخ.”
“وكيف تعرف ذلك؟”
“لأنّني…”
أجاب بكلّ ثقة، وهزّ كتفيه:
“أخذتُ الإذن.”
التعليقات لهذا الفصل " 87"