الفصل 74
“هُهق…!”
شعرتْ وكأنّ الدم قد انسحب من جسدها كلّه، فارتجف عمودها الفقري بقشعريرةٍ عنيفة.
احتضنتْ إيثيل ذراعيها لا إراديًّا وأخذت تلهث في تنفّسها.
‘ما الذي رأيتُه للتو؟ ذكرى؟ هل كانت ذِكرى؟’
الرجل كان الدوق الأكبر السابق، إريكسون نورتون.
كان يشبه إيلان ، لذا في البداية لم تكن واثقة تمامًا، لكن الوجه الذي رأته في غرفة الصور كان ذاته بلا شك.
والطفل الذي كان ينكمش خلف الدوق الأكبر، لا بدّ أنّه إيلان حين كان صغيرًا.
نظرتْ إيثيل بوجه شاحب من جديد إلى السيف المُعلّق على الحائط.
كان ما يبحث عنه الدوق، هو..الساحرة العظيمة.
أي، إيثير .
لكن ما لا تفهمه هو: لماذا ترى هذه المشاهد الآن أمام عينيها؟
عادت رؤيا جديدة تتجلّى أمامها.
السماء الزرقاء التي تعلُوها غيوم بيضاء، تحوّلت فجأة إلى مشهدٍ للدوق الأكبر مستلقيًا.
“لم تنسَ إذًا…”
تحرّكت رؤية إيثيل باتّجاه ما كان ينظر إليه بعينَيه المحمرّتَين.
“الحمدُ لله…”
في اللحظة التي أغمض فيها الأب عينيه المُوجَّهتين نحو ابنه الصغير، سمعتْ إيثيل صوتها الخاص يتردّد في أذنيها:
“لقد وجدتكَ… يا نوري.”
“الآنسة ميشلان؟”
استفاقتْ إيثيل فجأة وأدارتْ رأسها.
كان أوسويل ينزل على الدرج وهو يعبّس.
“كيف دخلتِ إلى هذا المكان؟ لا تخبريني أنّ صاحب السموّ هو من أرشدكِ إليه…”
لكنه قطع كلامه وهو ينقر لسانه بضيق.
كان يعلم كم يُعامل إيلان إيثيل بطريقةٍ استثنائيّة.
وفي النهاية، قرّر أنّه لا داعي لإلقاء اللوم عليها.
“على كل حال، أرجو أن نخرج من هنا. فصاحب السموّ ليس موجودًا، ولا ينبغي أن تبقي في هذا المكان هكذا.”
“لمن يعود هذا السيف؟”
“…إنّه سيف الدوق الأكبر السابق.”
أجاب أوسويل بنبرةٍ غريبة وهو يلاحظ خدّيها المبتلَّين بالدموع.
“هو سيفٌ موروث في عائلة الدوق، لكنّ صاحب السموّ الحالي لا يستخدمه.”
كان مقبضه مزدانًا بجوهرة بنفسجيّة فيما مضى.
شدّتْ إيثيل قبضتها دون وعي.
رأت الدوق الأكبر يموت أمام عينيها.
ضحّى بنفسه ليحمي ابنه… وليحمي هذه الأرض… بعد أن استدعى إيثير من جديد إلى هذا المكان.
‘لقد جرّني إلى هذا العالم…’
خرجتْ من المكتبة برفقة أوسويل ، وكانت في طريق عودتها إلى غرفة النوم، تغلي داخلها مشاعر الاضطراب.
ما الذي تعنيه تلك المشاهد التي رأتها؟
هل يعقل… أنّها هي نفسها إيثير ؟
‘أنْ أكون أنا إيثير ؟’
فتاة لم تُصلِّ في حياتها ولو مرةً واحدة… تُصبح العظيمة إيثير؟ التي باركت هذه الأرض بدا ذلك استنتاجًا سابقًا لأوانه.
لكن إن كانت هي فعلًا إيثير …
‘فقد مات الدوق الأكبر ليستدعيني من عالمٍ آخر إلى هذا المكان.’
وبسبب ذلك، فقد إيلان والده.
وخسر “نورتون” حاكمَه.
وخسر الفرسان سيّدهم.
وربّما…
‘إنْ بقيتُ هنا، قد أُعرّض إيلان للخطر.’
نورتون يرمز إلى الظلمة، وإيثير للنور.
إنّها نقيضان لا يجتمعان.
وبما أنّ الدوق الأكبر فارق الحياة بعد أن استدعاها إلى هذا العالم، فلا يمكن توقّع ما قد تسبّبه وجودها من ضرر لابنه إيلان .
‘لا يمكنني البقاء هنا.’
هذا الاستنتاج البسيط المريع، شلّ خطوات إيثيل.
كأنّ قلبها توقّف. لم تقدر على التقدّم خطوة واحدة.
ذلك القلب الذي بالكاد وصل إليه…
ذلك الفتى الذي لطالما تاقت إليه…
ذلك الرجل الذي بدأتْ لتوّها فقط في التعرّف عليه…
كان في الحقيقة شخصًا لا ينبغي الاقتراب منه أصلًا.
مسحت إيثيل دموعها التي بدأتْ تتساقط مجدّدًا، بلمسةٍ عنيدة.
“سيدي أوسويل.”
استدار أوسويل الذي كان يتقدّمها، ونظر إليها باستغراب.
لكن إيثيل لم تكن في موضع يسمح لها بالشرح.
“يجب أن أعود إلى فونيت.”
“…دون أن تنتظري صاحب السموّ؟”
“يجب أن أعود.”
“…مفهوم. لقد تأخّر الوقت الليلة، سأعطي الأوامر لتجهيز العربة صباحًا.”
“لا.”
هزّت إيثيل رأسها بحزم.
ما دامتْ قد علمتْ أنّ وجودها قد يكون مؤذيًا، فعليها الرحيل فورًا.
لا تريد أن تُعرّض أحدًا تُحبّه للخطر، من أجل شكٍّ لا يمكنها التأكّد منه.
“أرجو تجهيز العربة… في الحال.”
“كان عليّ أن أُودّع ذئاب الغابة…”
همستْ إيثيل وهي تُسند رأسها إلى نافذة العربة.
حين اقتربت من فونيت، أدركت أنّها غادرت دون أن تودّع الذئاب التي كانت قد تعلّقت بها.
كانت تُحبّهم كثيرًا، وهم بدورهم أحبّوها أيضًا.
شعرتْ بالندم لأنها لم تُداعب فراءهم الوثير ولو لمرةٍ أخيرة.
لكن بالطبع، أكثر ما ندمَت عليه… هو أنّها تنكّرت لمشاعرها التي بالكاد بدأتْ في التشكّل.
‘لكن لا ينبغي لي أن أندم على ذلك.’
كان عقلها في فوضى عارمة.
جلستْ ساكنة في العربة التي انطلقت بها ليلًا، تُحاول فكّ خيوط هذا اللغز المعقّد… ولكن بلا جدوى.
إيثير … أحبّت آستير ، وجوهر كلّ شيء.
ما تعرفه أيثيل عنها، هو فقط ما قرأته في كتب التاريخ أثناء الطفولة.
لن تتمكّن من حلّ هذا بمفردها.
هي بحاجة إلى من يعرف جيّدًا تاريخ آستير … ومن يعرف إيثير .
‘حين أعود إلى القصر، سأرسل برقيّة إلى زوجة مركيز سويفت وأطلب زيارتها.’
بما أنّ عائلة سويفت كانت خدمًا لإيثير ، فلا شكّ أنّها ستجد طرف الخيط عندهم.
حدّقتْ بعينَين مُتعبتَين نحو النافذة.
كانت العربة تمرّ عبر سوق فونيت.
وكان مشهد المدينة عند بزوغ الفجر يبدو مختلفًا قليلًا عن المعتاد.
“هل هذا هو الجمال الذي رأته إيثير ذات يوم؟”
تساءلت إيثيل عن شعورها هي التي أحبّت آستير .
وبصراحة، كانت تُحبّ بنفسها أجواء فونيت الهادئة صباحًا، والصاخبة نهارًا، والمفعمة بالحياة مساءً.
فربّما كانت تستطيع أن تتفهّم ما شعرتْ به..
وبينما كانت تنظر من النافذة بلا توقّف، وصلتْ العربة إلى قصر آل ميشلان.
كان راينولد يتجوّل في الحديقة في نزهةٍ صباحية، فهرع إلى العربة ما إن رآها.
“آنستي، ما الذي أتى بكِ في هذا الوقت المبكّر…؟ لكن السيدة مور قالت إنكِ ستبقين في نورتون …”
“كنتُ أنوي ذلك، لكنّني عدتُ فجأة.”
ومع أنّها ابتسمت ابتسامة خفيفة، إلا أنّ راينولد فهم حالًا أنّها كانت في مزاجٍ سيّئ.
وبدلًا من السؤال، رافقها بلطف.
“أحسنتِ، آنستي. حضوركِ سيُخفّف عن السيّد والسيّدة كثيرًا.”
“كيف حالهما؟”
“السيّد… دائم القلق كما تعلمين…”
“لا بدّ أنه قضى اليوم كلّه في البكاء.”
كان الأمر واضحًا من دون أن تراه.
فكونت ميشلان يعشق أبناءه، وخبر تحطّم سفينة دورانتي كان كالصاعقة عليه.
فكّرت إيثيل كم عانى والدها، الذي لم يكن يتناول الطعام من شدة القلق.
فقال راينولد كي يُواسيها:
“لكن السيّدة لا تزال تبذل كلّ جهدها لتقصّي الأخبار. وسنسمع شيئًا قريبًا بلا شك.”
“أتمنّى ذلك…”
“الشابّ السيّد حتمًا سيعود.”
ربتَ على كتفها بلطف وأضاف:
“لا يمكن له أن يترك آنستي وحدها.”
“…أليس كذلك؟”
“بالطبع لا.”
ابتسم لها ابتسامة دافئة، كانت دائمًا تُشعرها بالأمان منذ الطفولة.
سألته بلطف:
“وكيف كانت أحوالك؟ لم يحدث شيء، أليس كذلك؟”
“كنتُ أشعر بالوحدة، لذا اهتممتُ جيّدًا بالبيت الزجاجي الخاصّ بكِ.”
“خبرٌ جميل فعلًا.”
لقد أوفى بوعده، حين طلبتْ منه العناية بحديقتها قبل أن تُغادر إلى نورتون.
فهو كبير خدم العائلة منذ ما قبل ولادة أبناء آل ميشلان، لذا لم يكن هناك أيّ قلق.
لكن، كان هناك أمر يشغل بالها أكثر.
“لكن… أثناء عودتي، لاحظت أنّ السوق كان هادئًا بشكل غريب. أليست المخابز والمطاعم الصغيرة تبدأ بالعمل الآن؟”
“ربّما… بسبب جلالة الإمبراطور.”
“الإمبراطور؟ ما به؟”
الإمبراطور لم يكن يظهر حتى في الولائم الرسميّة.
ولم يكن من السهل رؤيته أصلًا.
ولذلك، لم تفهم إيثيل ما علاقة الإمبراطور بهدوء السوق.
لكن ما قاله راينولد بعدها، جعلها تُصدم:
“يقال إنّ جلالة الإمبراطور… في حالة خطرة، بسبب تسمّم غذائي.”
التعليقات لهذا الفصل " 74"