الفصل 72
كانت إيثيل، التي لا تجيد التزلج، تقطّع الجليد بحركات متردّدة.
ومع ذلك، بدت تلك الحركات محبّبة جدًّا في عيني إيلان، الذي كان يمسك بيدها، حيث كانت عيناه تُسقطان عسلًا.
كلّما فقدت إيثيل توازنها، كان يجذبها إليه ويعانقها، فيضحكَ بصوتٍ عالٍ يضيء العالم من حوله.
كان ذلك المشهد ممتعًا للغاية، حتّى إنّ كايرا فكّرت:
‘هل هذا شعور الأمّ وهي تنظر إلى طفلها الذي أنجبته؟’
“تلك الصّغيرة مليئة بالحبّ لدرجة أنّه يفيض، فلا يستطيع النّاس مقاومة الاقتراب منها.”
“الحبّ…”
“إيثيل دائمًا ترغب في تناول الطّعام اللّذيذ مع الآخرين. إنّها تحبّ رؤية النّاس سعداء وهم يأكلون شيئًا لذيذًا.”
هكذا بدأت كايرا علاقتها الوثيقة مع إيثيل في البداية.
في عيني كايرا الصّغيرة، التي كانت تتلقّى دروسًا لتكون وريثة مبكّرًا، بدت الفتيات النّبيلات في سنّها، المهتمّات فقط بالمجوهرات والفساتين، تافهات.
لكن إيثيل كانت مختلفة.
“إيثيل كانت الأولى التي أشادت بزيت الزّيتون من موير، وليس بمجوهراتي أو فساتيني.”
“…كتبتِ ذلك في رسالتك آنذاك، أنّك أضعتِ عمركِ وأنتِ تأكلين زيت الزّيتون عبثًا.”
“وما زلت أؤمن بذلك حتّى الآن.”
كانت إيثيل تتألّق عيناها وكأنّ زيت الزّيتون من موير جوهرة زمرديّة، فاستخدمته لقلي شرائح اللّحم وصنع تتبيلة السّلطة.
هناك، اكتشفت كايرا لأوّل مرّة أنّ زيت الزّيتون الذي تناولته طوال حياتها يمكن أن يكون بهذا العطر الزّكي.
“أعتذر من السّير مونتي، لكن… حياتي انقسمت إلى ما قبل لقاء إيثيل وما بعده، أليس كذلك؟”
“حسنًا، لا يفاجئني ذلك.”
“أليس كذلك؟ لقد تحدّثت عنها كثيرًا.”
كانت كايرا تعلم جيّدًا أنّها ذكرت إيثيل كثيرًا في رسائلها إلى خطيبها، ومع ذلك كانت واثقة.
كانت تعرف أنّ مونتي سويفت ليس من الرّجال الذين يغارون لهذا السّبب.
فهو لا يريد تغيير حياة كايرا، بل يرغب في أن يكون جزءًا منها.
“صراحةً، أنت أيضًا معجب بإيثيل، أليس كذلك؟”
نظرت كايرا إلى خطيبها، الذي يبدو غامضًا ولكنّه شفّاف إلى حدّ ما، وهي تضيّق عينيها.
“لو لم تكن معجبًا بها، لما طرحتَ هذا السّؤال أصلًا.”
“حسنًا… كنت أظنّ أنّها مختلفة عمّا يُرى أو يُسمع عنها.”
في فونيت ، كانت الإشاعات عن إيثيل ميشلان دائمًا سلبيّة.
لذا، حاول مونتي ثني إيلان عن فكرة الزّواج من عائلة ميشلان من أجل الأعمال.
لكن عندما جاء إلى نورتون واختبر إيثيل ميشلان بنفسه، وجد أنّها تملك موهبة جعل الجميع، سواء كانوا بشرًا أو حيوانات، يقفون إلى جانبها.
‘حتّى أمّي الصّارمة ذابت أمامها، فما بالك بالآخرين…’
لكنّه لم يتوقّع أن تستطيع إيثيل إقناع أهل القلعة الكبرى بهذه السّرعة.
فالإقليم كان في وضع صعب، ومعظم سكّانه من الفرسان الذين اعتادوا الحذر، لكنّهم أصبحوا أمام إيثيل ميشلان مثل الحملان الوديعة.
وكان هناك شيء آخر لفت انتباهه، كونه من سلالة سويفت…
“هل سبق أن تغيّر الجو حسب مزاج الآنسة ميشلان؟”
“ههه، ما هذا؟ يبدو أنّ إيثي أعجبتك حقًّا! كيف تتغيّر أجواء الجميع حسب مزاج شخص؟”
ضحكت كايرا وكأنّ الفكرة سخيفة، لكنّها عندما رأت جديّة مونتي، غرقت في التّفكير.
لكنّها في النّهاية لم تجد ما تقوله، فاكتفت بهزّ كتفيها.
“إيثيل تحبّ الأجواء الصافية. إنّها تستمتع بتناول الطّعام على الشّرفة هذا فقط….”
* * *
بعد أن استمتعا بالتزلّج على الجليد، جلسا إيثيل وإيلان بجانب نار الموقد التي أُشعلت أمام العربة.
كان مونتي وكايرا، اللذان كانا يراقبانهما طوال الوقت، قد ذهبا لجلب الحطب وهما يمسكان بأيدي بعضهما بحنان.
جلست إيثيل على بطانيّة سميكة فرشها إيلان، تحتضن ركبتيها، وتنظر إلى النّار بنظرة شاردة.
بعد أن قطعت الهواء البارد وهي تتزلّج بحماس، وجلست الآن أمام النّار المشتعلة، شعرت بالنّعاس تدريجيًّا…
“أشتهي شيئًا حلوًا.”
“ماذا؟”
“النّار تبدو رائعة. سيكون لذيذًا لو شوينا بعض المارشميلو.”
“ما هذا؟”
“شيء حلو جدًّا وطري.”
في الحقيقة، لم يكن المارشميلو هو الشّيء الوحيد الذي خطر ببالها.
فهذه النّار يمكن أن تُستخدم لشواء كعك الأرز وتغميسه في شراب الشّعير، أو لتسخين الماء وتحضير وعاء من النّودلز الفوريّة، وكلاهما سيكون لذيذًا.
ابتلعت إيثيل اللّعاب الذي تجمّع في فمها.
قدّم لها إيلان كوبًا.
“تناولي هذا على الأقل.”
“ما هذا؟”
“لم تتذوّقيه المرّة الماضية، أليس كذلك؟ بدا أنّكِ أردتِ تجربته.”
عندما أمسكت بالكوب، شعرت بدفء يلفح يديها.
وما إن استنشقت الرّائحة الغنيّة والحلوة التي تصاعدت مع البخار، حتّى أشرق وجه إيثيل.
“إنه ذلكَ!”
في لقاء الذّواقة السّابق، منعها إيلان من تذوّقه بحجّة أنّه فاسد.
تذكّرت إيثيل تلك اللحظة، فأخذت تشمّ الكوب بشكلٍ مرحّ، فضحك إيلان بهدوء.
ابتسمت إيثيل له، ثمّ أمسكت الكوب بكلتا يديها وارتشفت من الإيغنوغ.
كان دافئًا ولذيذًا، مثاليًّا لفصل الشّتاء.
“دافئ ولطيف.”
“هل بدأ جسمكِ يدفأ؟ لقد تزلّجتِ لوقتٍ طويل.”
“نعم، هذا يكفي تمامًا.”
ابتسمت إيثيل لإيلان بمرح.
لم تكن كلماتها فارغة، فقد كان يوم شتاءٍ مثاليًّا.
تزلّجت على بحيرة مغطّاة بالثّلج، وجلست بجانب نار الموقد تشرب الإيغنوغ، بينما إيلان، الذي يجعل قلبها يخفق كلّما رأته، بجانبها.
“كلّما جاء الشّتاء، سأتذكّر هذا اليوم.”
“يمكننا القدوم كلّ شتاء.”
“إلى هنا؟”
نظرت إيثيل إليه بعينين مستديرتين.
توقّف إيلان للحظة متردّدًا.
كان هذا اليوم مثاليًّا بالنّسبة له أيضًا.
إيثيل، التي تحمل كوب الإيغنوغ الذي قدّمه لها، وسط مناظر نورتون المغطّاة بالثّلج الأبيض.
كان هذا المشهد الذي طالما تخيّله، وأراد رؤيته غدًا وبعد غد.
“أنا… أتمنّى لو نعود إلى هنا مرّة أخرى.”
أمسك إيلان قبضته بقوّة، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يتكلّم.
وبمجرّد أن فتح فمه، بدأ الثّلج الأبيض يتساقط بهدوء مرّة أخرى.
“ليس من أجل الأعمال، بل من أجل ما اتّفقنا على فعله بعد ذلك.”
* * *
كان مونتي سويفت نائبًا كفؤًا للغاية.
في غضون أيّام قليلة، عدّل خطّة إيثيل وفقًا لظروف الإقليم.
بفضله، اكتملت خطّة عمل مرضية للجميع، واستطاعت إيثيل العودة إلى فونيت براحة بال نسبيّة.
“أتمنّى لو نبقى بضعة أيّام أخرى.”
“وأنا أيضًا.”
“إذن، لمَ لا نبقى بضعة أيّام أخرى؟”
ردّت كايرا على الفور، كما لو كانت تنتظر هذا السّؤال.
نظرت إيثيل إلى صديقتها، التي كانت تقول كلامًا لا تعنيه، بنظرةٍ خالية من اللّوم.
“لديكِ أعمال يجب أن تعودي لإنجازها، أليس كذلك، دوقة مور؟”
“هذا صحيح، ولكن…”
كانت كايرا تدير بعض أعمال عائلة الدّوق بدلًا من الدّوق موير، وكان عليها البدء في تحضير ميزانيّة العام القادم.
لكن، أليس من الطّبيعي أن يكون تناول الطّعام اللّذيذ واللّعب مع ذئاب الغابة الصّغيرة أكثر متعة من العمل؟
“نورتون أفضل ممّا توقّعت بكثير.”
“هذا صحيح. التحيّزات مخيفة حقًّا.”
إقليم نورتون، الذي تظهر فيه الوحوش باستمرار، موطن الدّوق الأكبر الملعون.
أرضٌ كالقنبلة الموقوتة، قد تنفجر في أيّ لحظة، كما اجتاحت أستير قبل ثمانين عامًا.
على الرّغم من أنّ الجميع يعلمون أنّ نورتون حمت الحدود من الوحوش، إلا أنّ النّاس احتقروها وازدروها.
كان من المؤسف التّفكير في أنّ هذا الإقليم الجميل والهادئ ظلّ معزولًا بسبب ذلك.
“الآن سيتغيّر كلّ شيء. النّاس سيأكلون جعة نورتون والجبن.”
“سيكون رائعًا لو استطعنا توزيع الحليب أيضًا، لكن ذلك لن يكون سهلاً، أليس كذلك؟”
أحبّت كايرا الحليب الطّازج الذي تذوّقته في نورتون.
الإيغنوغ المصنوع منه، والشّاي بالحليب الدّافئ، كلاهما لن يكون متاحًا عند عودتها إلى فونيت، وهذا أحد أسباب عدم رغبتها في العودة.
شعرت إيثيل بالأسف لذلك أيضًا.
بالإضافة إلى مشروع الدّجاج والبيرة، كان لديها مشروع آخر كبير يجب أن تعمل عليه.
“في الحقيقة، عندما أعود إلى فونيت، سأحاول حلّ هذه المشكلة.”
“كيف؟”
“سأصنع عربة تبريد.”
“عربة… تبريد؟”
مالت كايرا رأسها بدهشة عند سماعها هذا المصطلح الغريب.
وفي اللحظة التي كانت إيثيل ستبدأ فيها الشّرح، سمعا طرقًا خفيفًا على الباب.
“أوسويل هنا.”
“تفضّل بالدّخول!”
كانت ملامح أوسويل، وهو يدخل غرفة النّوم، متصلبة بعض الشّيء.
ظنّت إيثيل أنّه جاء لأنّ موعد المغادرة قد حان.
“هل حان وقت المغادرة بالفعل؟”
“الوقت يمرّ بسرعة حقًّا. هيّا بنا، إيثي.”
نهضت كايرا وإيثيل.
لكن أوسويل ظلّ واقفًا في مكانه كما لو كان مسمّرًا، متردّدًا.
شعرت كايرا بالاستغراب وسألته:
“هل هناك مشكلة؟”
“للأسف…”
نظر أوسويل إلى إيثيل وتنهّد قليلاً.
وبعد تردّدٍ طويل، أغمض عينيه بقوّة وقال:
“لقد تحطّمت السّفينة التّجاريّة.”
التعليقات لهذا الفصل " 72"