الفصل 64

 

 

 

نبوءة إيثير.

 

كانت هذه كلمة غريبة تمامًا على أهل فونيت.

حتى إيثيل، التي نشأت تحت رعاية سيسيليا، المؤمنة المتدينة بديانة ريول، كانت واثقة أنها لم تسمع بهذه الكلمة ولو مرة واحدة في حياتها.

 

“ما مضمونها؟”

 

“نور إيثير سيضيء نورتون.”

 

“… ألا يعني ذلك أنها ستُدمج في أستير؟”

 

“ربما.”

 

نظرت إيثيل إلى مونتي ، الذي اكتفى بهز كتفيه ولم يُضف كلامًا، وهي تفكر في نبوءة الإلهة.

‘نور إيثير سيضيء نورتون.’

كلما تأملت النبوءة، زادت إمكانيات تفسيرها.

 

هل تحققت بالفعل لأن نورتون أصبحت جزءًا من أستير؟

لكنها شعرت أن هناك ما هو أكثر من ذلك.

 

“إنها صعبة. من المؤكد أنها تعبير مجازي.”

 

“ليس بالضرورة.”

 

“هيا، لا يعقل أن ينزل نور من السماء فعلًا.”

 

“من يدري؟”

 

هز مونتي كتفيه مرة أخرى.

كانت عيناه خلف نظارته تلمعان بنفس الحدة المعتادة.

 

“أعتقد أن إيثير ستعود يومًا ما.”

 

“… لم أكن أعلم أن إيمانك عميق إلى هذا الحد.”

 

كان مونتي ميشلان، كما تعرفه إيثيل، شخصًا عقلانيًا إلى حدٍ يبدو حادًا أحيانًا.

لم يكن شخصًا سيئًا، لكنه كان بالتأكيد دقيقًا وصارمًا.

 

لكن أن يتوقع عودة قديسة عظيمه من أساطير التأسيس؟

للحظة، بدا لها أن لديه جانبًا رومانسيًا وساذجًا بشكل غير متوقع، لكن مونتي فجأة انفجر ضاحكًا.

 

“هههه، قد يبدو الأمر كذلك.”

 

“إذن، ليس هذا ما تقصده؟ لو سألت أي مؤمن بريول، قليلون جدًا من سيقولون إنهم ينتظرون عودتها مع الأمل.”

 

“حسنًا، هذا منطقي…”

 

كرر مونتي كلمة “إيمان” مرات عديدة، كأنه يسمعها لأول مرة، وصوته مليء بالمرح.

 

“لم أزر معبدًا قط في حياتي.”

 

“مستحيل! كيف يمكن ذلك وأنت تحمل اسمً نبيل؟ حقًا؟”

 

اتسعت عينا إيثيل بدهشة لا تخفى.

كان من الصعب تصديق أن وريث إحدى العائلات الأربع الكبرى، التي تُعتبر أساس الإمبراطورية، لم يزر معبد ريول ولو مرة.

 

“لكننا ذهبنا إلى الدير معًا في المرة السابقة.”

 

“كان ذلك بسبب العمل. لم أذهب قط للصلاة أو العبادة.”

 

“إذن، كيف تؤمن بأن إيثير ستعود؟”

 

ألا يعني عدم الصلاة أو العبادة طوال حياته أنه لا يؤمن بأنهُ مُلحد أصلًا؟

 

بينما كانت إيثيل تتخبط في حيرتها، بدأ مونتي يشرح بلطف:

 

“هناك قصة تُروى في عائلتنا.”

 

“ماذا؟”

 

“عندما تأسست أستير، كان اسم الخادم الذي وقف إلى جانب إيثير هو نورتون.”

 

فتحت إيثيل فمها دون وعي من هول المفاجأة.

بدا مونتي مستمتعًا بمظهرها، فواصل حديثه:

 

“من الصعب التأكد من صحة القصة، لكن بفضلها، اضطررت منذ الطفولة لدراسة كل ما يتعلق بإيثير حتى الملل.”

 

“إذن… هل عودة إيثير استنتاج عقلاني؟”

 

“بل هو حدس، إذا جاز التعبير.”

 

كان الحدس، في الأصل، قدرة على اتخاذ قرارات سريعة بناءً على معلومات متراكمة دون وعي.

ليس كالقمار أو لعبة الروليت.

 

بينما كانت إيثيل تفرك ذراعها التي انتابتها القشعريرة وهي تنظر إلى مونتي المبتسم، سُمع فجأة صوت صاخب من الخارج.

 

كانغ! كينغ! كاك!

تلاقت أنظار إيثيل ومونتي في الهواء عندما بدأت أصوات الوحوش الصاخبة تتردد من الخارج.

 

اقترب مونتي بسرعة من النافذة، تاركًا إيثيل المتجمدة من الذعر خلفه.

ألصق ظهره بالجدار ونظر إلى الخارج، فتجعد جبينه بشدة.

 

“ما هذا…؟”

 

“ماذا؟ ما الذي يحدث؟”

 

اقتربت إيثيل بحذر من النافذة.

وقفت إلى جانب مونتي ملتصقة بالجدار، فشعرت وكأنها في فيلم تجسس.

 

لكن المشهد الذي رأته عندما أطلّت برأسها بحذر جعلها تصرخ بدهشة:

 

“ما هذا بحق السماء؟”

 

في حديقة القصر الكبير خلف النافذة، كان هناك شكل أسود ضخم.

كان حجمه هائلاً لدرجة أنه يبدو قادرًا على ابتلاع بيت الشجرة بأكمله.

 

لم يكن هناك شك في أن هذا الشكل الغريب كان وحشًا، نظرًا لحجمه غير الطبيعي.

 

وأمامه، كان هناك كلب أبيض صغير يشبه كتلة القطن، يكشر عن أسنانه ويهدر.

 

في الوقت نفسه، كان إيلان يطارد ظل وحش على حدود الغابة.

كان يمتطي حصانه، يشق الريح الباردة، ويتبعه أوسويل وبقية الفرسان السابقين عن كثب.

 

توقف إيلان فجأة، مشدودًا اللجام بقوة.

تتبعت عيناه الباردة كضوء القمر الأزرق حدود الغابة والسماء.

 

“يبدو أننا فقدناه، سيدي.”

 

توقف أوسويل بجانبه وهمس بهدوء.

استقرت عينا إيلان على حجر الحدود المغطى بالطحالب.

 

“أليس من الغريب أن يخرج خارج الحدود ثم يعود إلى الغابة؟”

 

كانت الوحوش محصورة في هذه الغابة كجزء من عقوبة خسارة الحرب.

لم يكن هناك الكثير من الوحوش القادرة على اختراق حجر الحدود المقدس الذي كرّسه رئيس دير القديس باتريك، آرون بيل.

 

بمعنى آخر، الوحوش التي تخترق الحدود لا تعود إلى الغابة عادةً.

كان عمل إيلان وفرقة الفرسان في مثل هذا اليوم هو اصطياد تلك الوحوش.

 

“بالفعل، هذا غريب بعض الشيء.”

 

“في العادة، كانت ستتجه نحو الأراضي.”

 

“هل من الممكن أن يكون ذلك الوحش مختبئًا داخل الحدود بذكاء؟”

 

“ألا تبالغ في تقدير الوحش لأنك لم ترَ واحدًا منذ زمن؟”

 

“أنا فقط أفترض… إنه أمر محير.”

 

بينما كان الفرسان يتهامسون في حيرة، نزل إيلان من حصانه واقترب من حجر الحدود.

في الجزء الذي لا تصله الشمس، قال:

 

“لقد مر شيء ما.”

 

“ماذا؟”

 

اقترب أوسويل بسرعة من إيلان وانخفض.

لمعة عينيه الحادة عندما اكتشف آثار الطحالب الممسوحة.

 

“إنه شيء كبير.”

 

“والآثار؟”

 

“هذا…”

 

ما إن أشار أوسويل بعينيه حتى بدأ الفرسان يتحركون بانسجام.

لكن العشب الذي داسوه كان نظيفًا بشكل مثير للريبة مقارنة بالآثار المشبوهة.

 

“قائد! لا يبدو أن هناك شيء!”

 

“مستحيل!”

 

“انتظر، هنا! هنا شيء!”

 

في تلك اللحظة، بدأ كارلسون، الذي يحرس إسطبل القصر الكبير عادةً، يلوح بسيفه فوق رأسه.

تبعه إيلان دون تردد، وتبعه أوسويل وهو يتمتم متجهمًا:

 

“ما هذا؟”

 

“يبدو وكأن شيئًا مدببًا قد طُعن به.”

 

“أليس هذا مجرد أثر بشري؟”

 

“ربما سيف رفيع؟”

 

“ألن ينكسر لو طعن الأرض؟”

 

بدأ الفرسان المتجمعون يقترحون فرضيات معقولة.

كان الرأي السائد أنها آثار بشرية وليست وحشًا، لكن إيلان كان له رأي آخر.

 

كان حجم الطحالب الممسوحة وعميق الخدوش متناسبين إلى حد ما.

 

“ليس نوعًا حيوانيًا، بل حشري.”

 

“ماذا؟ إذن ذلك الوحش…”

 

“كان طُعمًا.”

 

ظهرت تعبيرات الدهشة على وجوه الجميع.

تجاهل إيلان النظرات المتذبذبة بين الفرسان وأطلق صفيرًا لاستدعاء حصانه.

 

هرع الفرسان إلى خيولهم، لكنهم لم يتمكنوا من مواكبة إيلان، الذي ركل جانب حصانه بمجرد أن صعد.

 

“سيدي!”

 

“الجميع إلى القصر!”

 

تتبع أوسويل ظهر إيلان بعينيه وهو يصعد على حصانه.

 

“بأسرع ما يمكن!”

 

تعرفت إيثيل على تلك الكتلة القطنية من النظرة الأولى.

كان ذلك الكلب الصغير الذي شاركها الحليب في المطبخ قبل أيام.

 

“من فضلك، سيد مونتي .”

 

“مستحيل.”

 

“هل ستختبئ خلف كلب صغير كهذا؟”

 

“ألا تعرفين ما الذي أمامنا؟”

 

وقف مونتي  في طريق إيثيل، التي نزلت إلى باب المطبخ الخلفي، وخفض صوته الذي كاد يعلو.

 

كانت ريزيتا، التي كانت تسترق السمع إلى الخارج، قد لمست ذراعه لتنبهه.

 

“هذا وحش. ومن الواضح أن الشيء الذي يقف أمامه ليس كلبًا!”

 

“لكنه يحاول حمايتنا!”

 

كان بحجم كف اليد، لكنه يقف أمام عنكبوت بحجم منزل.

 

على الرغم من أنه لا يبدو قادرًا على حماية نفسه، كان يحرس الطريق من الحديقة إلى باب المطبخ الخلفي.

 

كيف يمكنها أن تظل مختبئة دون فعل شيء؟

التفتت إيثيل إلى مونتي  وريزيتا وقالت بحرارة:

 

“لنفعل شيئًا، نحن الثلاثة.”