ميروو:
الفصل 16

عندما رأى الكونت فيرغا التعبير الغريب على وجه ابن أخيه، تجهّمتْ ملامحه.

“لا تقل لي أنّكَ…”

على عكس ما كان يرجوه، بدا أن إيلان يَكِنُّ مشاعر حقيقية تجاه إيثيل ميشلان إلى درجة أنه قدّم لها مجوهرات والدته كهديةٍ.

توقّف الكونت فيرغا لحظةً قبل أن يتكلّم من جديد.

“لستُ متأكّدًا إن كنتَ تعلم، لكن تلك الآنسة تحيطها الكثير من الشائعات. ولم تُقدِّم ظهورها الرسمي في المجتمع كما ينبغي.”

“…”

“وقد جلبتها معكَ، لذا ستزداد الضجّة من الآن فصاعدًا.”

كان الأمر سيكون أهون لو أنه اكتفى بإحضارها فحسب.

لكنه قدّمها وكأنها دوقة كبرى، أمام الحاضرين الذين لَبُّوا دعوةَ الدوق مليئين بدوافعٍ خفية.

“الكثير من السيّدات بدأن يُدركن الآن أنّ مقعد الدوقة الكبرى لا يزال شاغرًا.”

“غريب أنّهن انتبهن لهذا الآن فقط.”

ذلك المقعد كان شاغرًا منذ وفاة والدته.

مع أنه يُعَدُّ من أعلى المناصب في الإمبراطورية، إلا أنّ الحرب التي استمرّت لسبع سنوات جعلت من المستحيل ضمان سلامة الزوج، لذا كان من الطبيعي ألّا يتقدّم أحد.

“لقد طال أمد الحرب، لذا من المنطقي ما حدث.”

“لستُ متأكّدًا من ذلكَ.”

حتى لو لم تكن هناك حرب، فالوضع لم يكن ليختلف كثيرًا. فكم من الأرستقراطيين يرضون بأن تصبح ابنتهم سيّدة على عائلة ملعونة، مهما علا شأن الدوق؟

وكان الكونت فيرغا من أولئك الذين يحملون مشاعر سلبية تجاه عائلة الدوقية، لنفس السبب.

فقد وقعت شقيقته في حب أحد أفراد تلك العائلة الملعونة، وأصرّت على الزواج رغم معارضة العائلة، لتنتهي بها الحال تحتضر وتموت في تلك الأرض الملعونة.

“إن لم تكن متأكدًا من مشاعرك بعد، فسأبحث لك عن أسرة نبيلة مناسبة.”

“عمي.”

“لا داعي لأن تُثير مزيدًا من الأقاويل حولكَ.”

كانت عيناه الزرقاوان تشهدان على أنّ دماءهم تجري في عروق إيلان.

ولم يكن الكونت فيرغا مستعدًّا لأن يسمح لابن أخته، الذي بالكاد استعاد سمعته بعد طرد الوحوش، بأن يُلطِّخها مجددًا.

“لا داعي لذلك.”

رفض إيلان عرض عمّه دون أي تردّد. ثم أدار رأسه يبحث عن شخص آخر.

لكن تعبيره، الذي كان قد هدأ قليلًا، سرعان ما عاد إلى العبوس.

وتبعًا لتغير إيلان ، اتّسعت عينا الكونت فيرغا بدهشةٍ.

“كيف اجتمع هذان الاثنان…؟”

ولي العهد مارسيلوس ، وإيثيل ميشلان.

كان الجميع يُلقي نظرات جانبية وهما يتبادلان التحايا بأسلوبٍ مألوفٍ جدًّا.

“لم أركِ منذ وقت طويل، يا آنسة. آخر مرة زرتِ فيها العاصمة كانت منذ… ثلاثة أشهر؟”

كاد أن يُفلت منها سؤال ساخر عن سبب احتفاظه بتفصيل كهذا، لكنها بالكاد استطاعت رفع طرفي شفتيها وتحقيق الحدّ الأدنى من اللباقة.

“هل مرّ كل هذا الوقت؟”

“يقولون إنّ الكونت ميشلان قد حرّر أخيرًا ابنتهُ.”

كان معروفًا للجميع أنّ الكونت ميشلان يصطحب ابنته في كل زيارة إلى العاصمة.

فقد كان يأخذ رأي إيثيل قبل اتخاذ أي قرار مهم، لكن الناس اعتبروا ذلك نوعًا من الإفراط في حب الأب لابنته.

ولم يكن هذا الوصف بعيدًا تمامًا عن الحقيقة.

‘حرّر ابنته؟ يا للسخف.’

ابتسمت إيثيل بسخرية من هذا الاستنتاج العجيب.

“لقد كنتُ مشغولةً جدًّا، فلم يكن لدي وقتٌ لمرافقة والدي.”

“هل بسبب المشروع الذي تعملين عليه مع الدوق الصغير؟”

لم تستطع إيثيل إخفاء دهشتها وهي تُحدّق في مارسيلوس ولي العهد، الذي بالكاد يُرى خارج القصر، ابتسم بهدوء.

“لماذا تبدين مندهشة؟”

“حتى سموّ وليّ العهد يعرف بالأمر؟ يبدو أن الحملة الترويجية للمطعم قد نجحت فعلًا.”

“هل يُعدّ غريبًا أن أعرف شيئًا كهذا؟”

“ذلك لأن سموّكَ لا تهتم كثيرًا بحفلات المجتمع، على ما أظن…”

مارسيلوس  كان دومًا شخصًا لا يهتم بما يفعله النبلاء.

ربّما بسبب كثرة أمراضه في طفولته، قلّما خرج من العاصمة. والإمبراطور لم يكن يُحبّذ أن يظهر ابنه كثيرًا أمام الناس.

حتى إنّ هناك شائعات تقول إنّ وليّ العهد الحقيقي مخفي في مكانٍ ما.

لكن إيثيل كانت تملك رأيًا مختلفًا.

“من المستحيل أن يكون وليّ العهد غير مهتمّ بالمجتمع الراقي.”

“… الآن بعد أن ذكرتِ الأمر، يبدو كلامك صحيحًا.”

“أضف إلى ذلك، أنّ الوقت قد حان فعلًا ليبحث سموّه عن زوجة مناسبة.”

كان هناك شيء غريب في هذا الرجل. عيناه الفضوليّتان كلما التقتا بها، ونظرته المبتسمة التي لا توحي بالدفء أبدًا.

“على كلّ حال، بفضلكِ تناولتُ طعامًا شهيًّا جدًّا، يا آنسة.”

“يسرّني أنّه راقَ لسموّكَ.”

“من أين تأتين بهذه الأفكار العبقرية…؟”

عينا مارسيلوس الكهرمانيتان انحنتا بلطفٍ وهو يُطيل النظر إليها.

كان مَن يراهما يظنّ أنّه يُحدّق في حبيبته.

لكن إيثيل، وقد أصابتها قشعريرة، مسحت ذراعها المرتجفه وهي تقول بنبرة ساخرة:

“لا شيء… كل ما في الأمر أن رأسي ممتلئ بأفكار عن الأكل.”

“هاها، لا يمكن أن يكون هذا فقط.”

ضحك مارسيلوس بصوتٍ عالٍ على غير عادته، فبدأت العيون تلتفت إليه.

“لو كانت كل أفكاركِ عن الأكلِ، لما استطعتِ صنع أطباقٍ فنيةٍ كهذه.”

ثم أضاف وهو يُلقي نظرة على النبلاء المتحلّقين حول المأكولات والمشروبات:

“أناسٌ كهؤلاء لن يصنعوا سوى ما يُشبِههم.”

في عينيه المنخفضتين، كانت هناك نظرة ازدراء خفيّة.

‘إنسان مزعج فعلاً…’

حين أدارت إيثيل وجهها بتعبير بارد، جاءه سؤال مباغت.

“ما طبيعة علاقتكِ بالدوق، يا آنسة؟”

“… وصف ‘علاقة’ يبدو مبالغًا فيه بعض الشيء.”

“مبالغ فيه؟”

“سموّ الدوق طلب مني أن أُعدّ له الحفل، وأنا نفّذت الطلب كما أراد. إنْ أردتَ توصيفًا أدقّ، فهي علاقة تعاقدية.”

رغم نبرتها الباردة وكأنّ الأمر لا يعنيها، إلّا أنّ عيني مارسيلوس لمعتا بشيءٍ من الغرابة. تذكّر حينها كلام الدوق حين قال إنّه يبحث عن ‘شريك تجاري’.

“لكن يبدو أنّ الدوق ينظر للأمر بشكل مختلف.”

“عفواً؟”

“ألستِ تعلمين أنّ الدوق يبحث عن شريكةٍ؟”

“وما علاقة ذلك بي؟”

قبل أن يتمكّن من اختبار إيثيل مجددًا، قاطع لوكاس الحديث فجأة.

“أسرة ميشلان تتعاون تجاريًا مع عائلتنا منذ زمن.”

“لكن من الطبيعي أن يُشارك الإنسان في أكثر من عمل في الوقت نفسه.”

رغم تدخّله غير المهذّب، لم يُبدِ مارسيلوس أي انزعاج. بل احمرّ عنق لوكاس من الإحراج.

“نحن بالكاد بدأنا، ولا طاقة لدينا للاستثمار في مشاريع أخرى.”

“هذا يعتمد على ما تنوي فعله الآنسة إيثيل.”

توجّهت السهام مجددًا نحو إيثيل. لكنها بدلاً من التذمّر، اكتفت بزفرةٍ خفيفة.

“كلام الدوق الصغير صحيح، يا سموّ الأمير. ليست لدي نية لبدء مشاريع جديدة حاليًا.”

“حقًا؟”

“نحن ما زلنا في البدايات. ولن يستقرّ المشروع قبل العام المقبل على أقل تقدير.”

رفع لوكاس ذقنه فخورًا، وكأنّه يقول: أرأيت؟
رغم أنّ تصرّفه كان طفوليًّا إلى حدّ السخافة، لم يُعره مارسيلوس أي اهتمام.

“لقد كان حديثًا ممتعًا، يا آنسة. آمل أن نلتقي مجددًا قريبًا.”

“سأحرص على مرافقة والدي في الزيارة القادمة، سموّ الأمير.”

“سيكون ذلك جيّدًا.”

غادر مارسيلوس بابتسامته المعتادة، وبعد أن بدأ الحديث مع أشقاء مركيز أتوود، أسقطت إيثيل الابتسامة الرسمية عن وجهها.

“ما الذي دفعكَ للتدخّل؟”

“أنا فقط… شعرت أنّ الأمير يتكلّم وكأنّك ستتعاونين مع الدوق…”

“وهل قال شيئًا خاطئًا؟ من قال إنّ الإنسان لا يستطيع إدارة أكثر من مشروع في آن؟ حتى عائلتنا تعمل على عدّة مشاريع.”

“لكنه لم يكن يقصد المشاريع فقط…!”

“إذًا ماذا كان يقصد؟ ماذا بالضبط؟”

هذه المرة، أطلّت كايرا فجأة برأسها إلى الحديث.
بينما لم تتفاجأ إيثيل، بدت ملامح لوكاس مشوّهة من الغضب.

“أنا كنتُ أتكلم مع إيثيل أولاً!”

“ومن قال العكس؟ تابع حديثك، ما المشكلة؟ لماذا تصرخ؟”

“أنتِ التي قاطعتِني للتوّ!”

“ما هذا؟ تُفرغ غضبك في غير مكانه؟ هل تريدني أن أمنعك من التحدث مع إيثيل مرة أخرى؟ أستطيع فعل ذلك.”

مالت كايرا برأسها مهدّدةً، فلوّح لوكاس بالاستسلام سريعًا، وقد تعلّم الدرس منها منذ الطفولة، حين كانت تنهال عليه بالكلام والضرب.

أمّا إيثيل، فلم تُعِر شجار صديقيها أيّ انتباه. نظرت حولها وسألت:

“أين دورانتي؟”

“لا أدري. لا بدّ أنه مع أصدقائه.”

“علينا أن نغادر. أشعر بتعب شديد.”

“ليس غريبًا. لقد كنتِ تجريين طوال اليوم، والآن هذا اللقاء مع وليّ العهد…”

ربّتت كايرا على كتف إيثيل وهي تنقر لسانها، ثم قادتها نحو المخرج.

لكن فجأة، أمسك لوكاس بذراع إيثيل.

“ماذا؟ أنتِ أيضًا ستغادرين؟”

“نعم. تعال معنا، سنأكل وجبة خفيفة.”

رغم دعوتها، هزّ لوكاس رأسه رافضًا، وقد بدا عليه بعض التوتر.

“لدي شيء أريد قوله، إيثيل. دعينا نذهب هناك قليلًا ونتحدث.”

حدّق مباشرة في عينيها وأضاف:

“إنه أمرٌ مهم.”