2
يَطنُّ طنينٌ منخفضٌ في أذني.
ويتسارعُ خفقانُ قلبي كأنّه سينفجر.
غير أنّني.
‘…ما هذا، لِمَ لا أشعرُ بأيّ شيء؟’
مضت ثوانٍ على سماع صوتِ الطَّلق، لكنّني لم أشعر بأيّ ألم.
فتحتُ جفنيَّ بحذرٍ شديد.
ورأيته.
المخلوقَ الشَّنيعَ الذي ظهر بجانبي.
-كياااااا!
على الدَّرج المؤدّي إلى الممرّ العُلويّ، كان يقفُ جسدٌ غارقٌ بالدّماء.
مخلوقٌ تآكلت بشرتُه وتقطّر منها سائلٌ أسودُ لزج.
يبدو في الظاهر كأنّه بشر.
لكنّه لم يَعُد إنسانًا بأيّ شكل.
ثمّ انقضَّ نحوي مطلقًا صرخةً مُقزّزة.
وفي اللحظة ذاتها، طانغ!
دوّى طلقٌ قصير، ووقفَ كاي أمامي مباشرةً.
“…تبًّا، ما ألعنه من مخلوق.”
تمتمَ كاي بسُبةٍ مقتضبة، ثمّ ضغط الزناد مرّةً أخرى.
فَوَقَعَ دويّ.
وانفجرَ رأسُ المخلوق في الحال.
كأنّه بطيخةٌ ناضجة في قلبِ الصَّيف.
تطايرَ النَّزيف الأسود في كلّ اتجاه، ملطّخًا السجّاد والجدران.
“أ-أ… ما الذي…….”
ارتجفت أطرافي بلا تحكّم.
ما ذاك؟
ولِمَ ظهر مخلوقٌ الآن؟
-كياااااا!
عاد ذاك الصفير الحادّ يخترق أذني.
وخفق قلبي بعنفٍ أشدّ.
لكن لم يكن بوسعي البقاء مجمّدةً في مكاني.
أمسكتُ طرفَ سترته وشدَدته إلى الوراء.
“يا سموّ الأمير، هل أنت بخير؟ هل أصابك شيء؟!”
كنتُ أحاول تفقد حاله بسرعة، لكن—
“كفى، أرجوك!”
باغتتني يده الكبيرة وهي تمسك ياقة ثوبي.
ثمّ دفعني بقوّة إلى الحائط.
اختلطَ نَفَسُه بنفَسي من شدّة القُرب.
“أرجوك… لم يَفُت الأوان بعد.”
كان صوته المرتجف يحمل مشاعر مختلطة.
غضبًا.
وحقدًا.
ويأسًا.
وغيظًا.
وأملًا.
شيئًا ما بين ذلك كلّه.
حدّق فيّ بعينين محتقنتين بالقُرْمُزيّ.
“قولي الحقيقة.
ما الهدف من إطلاق المخلوقات؟ وكيف يمكن إعادة الناس إلى حالهم؟!”
—
المخلوقات التي يقصدها كاي.
تحديدًا: ‘فيروسُ المخلوقات’.
جميعُ أحداث الرواية تدور بسببه.
فعندما يعضّ المخلوقُ إنسانًا—
أي عندما يدخلُ لعابه جسمَه—
عندها يُصاب بالفيروس.
تصل فترةُ حضانة الفيروس إلى 12 ساعة كحدٍّ أقصى.
وبعدها يبدأ الفيروس بتحويل الجسد بما يناسب طبيعته الطفيليّة.
وفي أقلّ من يومٍ واحد، يتحوّل الإنسان إلى وحشٍ أسود اللعاب، منزوعِ العقل والعاطفة.
ولأنّني قرأتُ الرواية أكثر من ثلاثين مرّة، أعرفُ تمامًا ترتيب الأحداث.
‘كان ظهورُ المخلوق الأول من المفترض أن يكون بعد أسبوع كامل.’
فلماذا ظهر قبل موعده بكثير؟
ولم يكن هذا وحده ما أربكني.
بل ما قاله كاي قبل قليل.
“أنا؟ أُطلقت المخلوقات؟ ما الذي تقوله؟!”
الشخصية التي تجسدتُ فيها ليست سوى فتاةٍ غنيّة مدلّلة.
جميلة الوجه قليلًا، نعم.
لكنّها تبقى شابّةً طائشة في العشرين!
فكيف لي أن أطلق المخلوقات على متن هذه السفينة؟
“يا صاحب السمو، يبدو أنّ ثمّة سوء فهم…….”
“إذن ما زلتِ تُنكرين.”
رفع ذقنه قليلًا وحدّق بي ببرود.
ربما أراد إخافتي.
‘يا له من أمرٍ مضحك. وهل تظنّني سأرتعب؟’
حدّقتُ فيه بعينين نصفِ مغمضتين.
لقد ارتكب كاي خطأً فادحًا.
‘يا سموّ الأمير… كان عليك أن تُتقن تمثيلك.’
عندما ظهر المخلوق، لم يقدر أن يتركني وشأني.
بل تصرّف بغريزةٍ مُباشرة لحمايتي، وغطّاني بجسده.
بل مدّ ذراعَه يصدّ عنّي الطلقات المتناثرة.
والآن يريد تهديدي؟
‘أنا أعرفك أكثر ممّا تتصوّر.’
كاي هايدن، “مُفضّلي”، رجلٌ رقيقٌ نبيل.
يعطي طعامه للجائع.
ويُدفئ المرتجف بثوبه.
لذلك فلا بدّ أنّه مخطئ.
‘أنا؟ أُطلق المخلوقات؟ مُستحيل.’
ربما التبس عليه شيء.
رفعتُ يديّ وتطلّعت إليه.
“يا صاحب السمو، أنا فقط نبيلةٌ من إمبراطورية بيرلوت.
أستطيع إثبات ذلك.
أجل، معي خادمة جاءت معي، لا بدّ أنّها في الجوار…….”
لكن قبل أن أكمل.
قبض كاي على رسغي.
“إذن فلنتحقّق بأنفسنا.
ولدي ما أبحث عنه أيضًا.”
وسحبني بقوّة إلى أعلى الدرج.
انثنت كاحلي بحذائي الضيّق، وأخذ رسغي يُلسَع من قيود السلاسل.
لم يهدأ إلا أمام باب مقصورتنا.
〈414〉
غرفتي الفاخرة التي أقمت فيها ثلاثة أسابيع.
“أخرجيه.”
“نعم؟ ماذا؟”
“المفتاح.
لا تُفتح الغرفة من دونه.”
“لا أستطيع إخراجه بسبب القيود. في الجيب الداخلي ولا أصل إليه.”
إذن هل تُفكّونها؟
مددتُ يدي إليه بابتسامةٍ متذلّلة.
لكن كاي لم يتساهل.
ومدّ يده يفتح سترتي مباشرة.
“م—ما الذي تفعلونه؟!”
“اصمتي.
هذا مُزعج لنا معًا.”
راح يتحسّس جانبيّ عند الخصر من فوق القماش الرقيق.
وإن كان الموقف يوحي بالتحرّش، إلّا أنّه بدا باردًا تمامًا.
كأنّما يلمس حجرًا بلا اكتراث.
بل عبس قليلًا… كأنه يلمس شيئًا مقزّزًا.
وذلك ما أغاظني أكثر.
“لو فتحت القيد لأخرجتُ المفتاح بأنفسي! ثمّ إنني سيدة! ألا يجب عليك الالتزام بأدنى درجات الأدب؟!”
“ولمَ أتحلّى بالأدب مع إرهابيّة؟”
“يا إلهي! قلتُ لك لستُ كذلك!”
“…….”
“أسمعت؟ يا صاحب السمو؟!”
“…….”
“سموّك! أنت! يا!”
واصل تفتيشه بلامبالاة تامّة.
وأثار بي ذلك غيظًا أحرق كلّ خوفٍ من الطلقات.
“ألا تسمع؟ أصرخ أكثر؟ أكتب لك؟!”
اقتربتُ من أذنه وصحتُ بأعلى صوتي.
صرخةٌ كادت تُصيبه بالصَّمَم.
“أ—نا— لست— أع—رف— شيئًاااا—!”
وهنا.
تكلّم أخيرًا.
“…كلمةٌ أخرى وستملكين ثقبًا في رأسك.”
تألّقت عيناه الوردية بتهديدٍ صريح.
كان يعني كلّ كلمة.
توقّفتُ عن المقاومة خوفًا من إطلاق النار، لكنّ عنادي اشتعل أكثر.
‘حسنًا، لنرَ يا عزيزي كاي… هل ستجد شيئًا أم لا.’
فطوال ثلاثة أسابيع لم أفعل سوى التبضّع، والشرب، والسهر.
وبمجرّد رؤية الغرفة سيدرك براءتي.
استسلمتُ لتفتيشه وأنا أتخيّل كيف سيعتذر.
وبعد قليل.
عثَر على المفتاح ودخل الغرفة.
كانت كما تركتُها قبل عشر دقائق.
“زعمتِ أنّ لديك خادمة.
كذبة آخرى.”
“…ربما ذهبت إلى مطعم السفينة.”
“أهذا أيضًا عذر؟”
نظرته كانت كالسكين.
‘يا للمصيبة، أنا مظلومة.’
كانت معي حتى الليلة الماضية!
منذ فتحتُ عيني على متن السفينة، وتلك الخادمة الصامتة بجانبي.
كانت لا تقرأ ولا تكتب.
تتحدّث بالإشارة فقط.
وأمس ظلّت تشير إليّ موحية بأشياء…
لكنّ المشكلة أنني لا أعرف لغة الإشارة.
اكتفيت بالابتسام وهزّ رأسي.
ومنذئذٍ اختفت.
‘لا يكون أصابها المخلوق؟’
تحرّكت عيناي بقلق.
وبينما أفكّر، بدأ كاي يركل أثاث الغرفة ويبحث.
فساتين.
مستحضرات تجميل.
روايات رائجة.
أغراضي العاديّة تناثرت أرضًا.
“أرأيت؟ ما قلتُه من البداية! ظلمتني بلا سبب!”
“…….”
“فتّش كما تشاء! لن تجد شيئًا!”
رفعتُ ذقني بفخر.
…وإن كانت قدماي ترتجفان قليلًا.
فلم يسبق لي أن فتّشتُ غرفتي بالكامل.
كنتُ مشغولة بالكازينو والرقص والشراب.
والخادمة كانت تتكفّل بكل شيء.
كلّما طال بحثُه، ازدادت حركته توترًا.
جلستُ على كرسيّ التسريحة.
“إن عدتَ الآن، سأكتفي بتقديم شكوى للسفارة.”
لولا أنّك “مفضّلي” لكنتُ أقمتُ عليك دعوى منذ البداية.
“لا تستمع أبدًا لكلام أحد.”
تمتمتُ بضيق.
لكن عندما نزع كاي اللوحة المُعلَّقة على الجدار…
تجمّد صوتي.
“…ها؟”
لماذا يوجد هذا هنا…؟
التعليقات لهذا الفصل " 2"