3
الفصل 3
أحضَرتُ فريدريش إلى غرفتي بعيدًا عن أعين الآخرين. ولحسن الحظ، وجدتُ صندوق إسعافات أوّلية بعد أن فتّشتُ الغرفة قليلًا.
“اجلس.”
أجلستُه على السرير، ثم أخرجتُ قطعة القماش من فمه.
“أخرج لسانك.”
بدا فريدريش مذهولًا لسماعه كلامًا لا يُقال إلّا للأطفال الصغار.
آسفة يا سيدي، لكنك طفلٌ الآن.
“بسرعة.”
أخرج فريدريش لسانه على مضض. بلّلتُ قطعة قماش نظيفة بمُطهّر ولمستُ بها لسان الطفل. عبسَ فريدريش وكأنه يشعر بالمرارة.
“تحمّل. لِمَ تجرأتَ على عضِّ لسانك هكذا دون خوف؟”
وَبَّختُه بينما كنتُ أرتب الصندوق. كان هناك تناقضٌ كبير بين نظراته الحادّة والوضعية التي كان عليها ولسانُه خارجٌ. عندما انفجرتُ ضاحكة، أدرك الأمر وأعاد لسانه بسرعة.
“أوه.”
عبسَ فريدريش بشدة، ربما بسبب مرارة المُطهّر. لم أستطع تمالُك نفسي وضحكتُ بصوتٍ عالٍ، ثم استلقيتُ على السرير.
“نَم بسرعة، أيها المريض. لا تقلق، لن يدخل غرفتي أحد حتى مطلع الفجر.”
“…”
“ولا تُفكّر في الهرب. لن أسامحك مرّة ثانية.”
“كيف علِمتِ أنني سأهرب إلى الحديقة؟”
طلبتُ منه النوم، فإذا به يسأل. أجبتُ بلا مبالاة:
“ما يُفكّر فيه الأطفال مكشوف دائمًا.”
…هذه مُجرّد دعابة، كل شيء كان مكتوبًا في الرواية الأصلية.
لكن فريدريش، الذي لم يكن يعلم بذلك، غضب.
“أنا لستُ طفلًا.”
“بهذا المظهر؟”
ضحكتُ بسخرية واقتربتُ بوجهي منه بمرح.
ارتعش فريدريش وحاول سحب رأسه، لكنني أمسكتُ بوجنَتيه المُمتلئتين ولم أدعه يبتعد.
“انظر إلى وجهك الذي ينعكس في عينيَّ. هل أنت طفل أم لا؟”
اهتزَّت عينا فريدريش. ضحكتُ على مظهره.
“أنت لطيفٌ للغاية.”
خاصةً هذين الخدّين الناعمين ككعك الأرز اللزج!
فركتُهما قليلًا ثم قرصتُهما، فاحمرَّ وجه فريدريش وصاح بصوتٍ حادّ:
“لا، لا تلمسي جسدي ولو بطرف إصبعك!”
هل يعتبرني شخصًا فاجرًا؟ توقفتُ للحظة من الذهول. سرعان ما عادت إليَّ روح الدعابة.
“لا أريد! لا أريد!”
غطّيتُ فريدريش بالغطاء حتى رأسه وأرقدتُه على السرير.
بعد لحظات، أنزلتُ الغطاء قليلًا حتى ظهرت عيناه، فنظر إليَّ فريدريش بنظرة غاضبة.
آه، أصبح ألطف! ضحكتُ بخفّة ومسحتُ على رأسه.
“نومًا هنيئًا، أيها الأمير الصغير. غطي نفسكَ جيدًا حتى لا تُصاب بالزكام.”
“…..”
تقبّل هذا الأمر بهدوء على عكس المتوقع. هل يُحبّ أن يُمسَح على رأسه؟ يجب أن أتذكّر هذا.
تثاءبتُ طويلاً واستلقيتُ بجوار فريدريش. لن يهرب مرّة ثانية، أليس كذلك؟
***
“… هل يُعقل أن أكون قد أسأتُ الظنّ به؟”
عندما فتحتُ عينيَّ مرة أخرى، كان المكان بجواري فارغًا. بينما كنتُ أُعبّر عن ذهولي في غرفة النوم التي أضاءتها الشمس المُشرقة:
“لقد أعدتُ الأمير فريدريش إلى السجن.”
سمعتُ صوت إلزا.
اقتربت مني وبدأت بتمشيط شعري المُبعثر.
“لقد بدا لي سليمًا جدًا.”
“ما الذي كنتِ تتخيلينه؟”
“لا تنظري إليَّ كأنني شخصٌ سيئ. الجميع يُفكّر بطريقة مُشابهة، لكونه الأمير الذي فضّلتِه على حقّ خلافة العرش.”
“همف.”
على الرغم من أن خيال الناس كان مُفاجئًا، إلّا أنني استحققتُ ذلك لأنني من بدأتُ الأمر.
“يجب أن أتصرف كسيدة. إذا انتحر، فسأضطر للبحث عن زوج جديد.”
“أنتِ حكيمة حقًا.”
“بما أنه سيتزوجني على أي حال، هل من الضروري إعادته إلى السجن؟”
“إنه سجين حرب حتى موعد الزواج.”
“ما أقساكِ. رجل قضى ليلته مع الأميرة، يُعامَل بهذه المعاملة القاسية.”
توقفت إلزا للحظة، ثم تكلّمت:
“إذا أردتِ، يمكنني أن أجعله يحظى بمعاملة أفضل.”
“حقًا؟”
“أقصد جسديًا، أما كرامته، فلا أعلم.”
“بالطبع، لن تتغيّر حقيقة كونه أسير حرب.”
لكن أليست الراحة الجسدية هي الأهم؟ وافقتُ على ذلك على الفور.
رأيتُ فريدريش مجدّدًا عندما ذهبتُ لاستقلال العربة التي ستُعيدنا إلى العاصمة.
كان يرتدي قيودًا فضية تُغطّي معصميه. بدا لي غريبًا بعض الشيء، ربما لأن آخر ذكرى لي به كانت لكونه طفلًا.
في تلك اللحظة، رآني فريدريش وتجمّد وجهه. في الوقت نفسه، ركل الفارس الذي كان يمسكه خلف ركبتيه بقوة.
سقط فريدريش على ركبتيه مع أنينٍ خافت. اقتربتُ منهما بابتسامة مُحرجة.
“صباح الخير، أيها السير هانس.”
تذكّرتُ متأخرةً أن رينيه لا تُبادر بتحية أي شخص غير الإمبراطور، لكنني قررتُ المضيّ قدمًا.
لم يكن هناك شكّ في تعابير السير هانس، بل ظهر عليه الامتنان اللامُتناهي لاستقبال تحيّتي.
“أتشرّف بلقاء سُموّ الأميرة رينيه، نجمة شتاده الساطعة والمُباركة بنعمة الربّ.”
ركع هانس أمامي في وضعية احترام مُنضبطة.
كان هو قائد فرسان السيف الأحمر التابعين للإمبراطورية مباشرةً، وشخصية ثانوية في بداية الرواية الأصلية يموت بشرف أثناء مقاومته لانقلاب فريدريش.
ولكن…
‘إنه وسيمٌ للغاية بحيث لا يجب أن يموت بهذه الطريقة!’
كأنّه تجسيدٌ للهرمون الذكوري. كان وسيمًا يذكّرني بالمُصارعين في الأفلام الكلاسيكية.
‘سأطلب من فريدريش لاحقًا أن يعفو عن حياة هانس.’
لذلك، من المهم ألّا يكون لفريدريش أي ضغينة تجاه هانس.
“هل يمكنني اصطحاب الأمير الآن؟”
سألتُ بهدوء وأنا أُساعد فريدريش الذي كان هانس يمسك به على الوقوف. أومأ هانس برأسه وهو يقف.
“بالتأكيد يا صاحبة السُموّ. إذا تصرّف الأمير بوقاحة، أرجو أن تُخبريني وسأتّخذ الإجراءات اللازمة فورًا.”
“شكرًا لك أيها السير. يا لك من مخلص!”
أن يقول ذلك وهو يعلم أن رينيه أقوى من أي شخص هنا. إنه رجل طيّب!
أثناء اصطحابي له إلى العربة، وأنا عازمةٌ على إنقاذ حياته لاحقًا، حدث شيءٌ مُفاجئ.
ركع فريدريش فجأة على الأرض أمام درج العربة.
لقد اتّخذ وضعية تُشير إلى أنني يجب أن أستخدم ظهره كَموطئ لقدمي. صُدمتُ.
“ماذا تفعل؟”
نظر إليَّ فريدريش بنظرة غير ودّية.
“لقد سَمِعتُ أنكِ أخرجتِني من السجن لأجل هذه الخدمة.”
…أنا؟ هذه أول مرة أسمع بها.
اتسعت عيناي ونظرتُ إلى إلزا، فشجت كتفيها وفسّرت:
“لقد أخرجتُه بشرط أن يخدم سموّك.”
“هذا مُبالغ فيه. لا أُحبّ هذا النوع من الخدمة المُهينة.”
“لكن هذا النوع من الخدمة يليق بأمير مملكة ساقطة.”
“…”
كانت إلزا على حق. إذا عاملتُ فريدريش باحترامٍ زائد، سيعتقد الجميع أن هناك شيئًا غريبًا.
قد تنتشر إشاعات غريبة عن أنني أحاول الانفصال عن الإمبراطورية باستخدام الأمير فريدريش.
“هل سمعتَ أيها الأمير؟ لم يكن هذا قصدي.”
اضطررتُ إلى صعود العربة دائسةً على ظهر فريدريش.
لم يُطلِق أنينًا، وصعد إلى العربة بعدي. أشرتُ إليه بالجلوس في المقعد المُقابل لي.
“هل أنت بخير؟”
عاد فريدريش إلى هيئة الأمير *طالبريء والمُنكوب، وعضَّ شفتيه وأجاب بهدوء:
“إنه لشرف لي أن تُنقذي حياة أمير مملكة ساقطة.”
“ماذا تقول؟ أسأل عن ظهرك.”
جلستُ بجوار فريدريش بوجهٍ حائر. ارتجف جسده وابتعد عني.
“أنا ثقيلة جدًا بالمناسبة. هل تُريدني أن أرى إن كانت هناك كدمات؟”
“أأ، أنا بخير.”
غطّى صدره بذراعيه بسرعة.
طلبتُ أن أرى ظهره، فلِمَ يُغطّي صدره؟
توقفتُ عن التعجّب وتذكّرتُ الجرح الذي كان في لسانه الليلة الماضية.
“كيف حال لسانك؟ لم يكن الجرح عميقًا بالأمس…”
“صاحبة السُموّ، سنتوجه…”
بمجرد أن أمسكتُ بذقن فريدريش، فُتِحَ باب العربة فجأة. التقت عينيَّ بعيني إلزا بمجرّد أن أدرتُ رأسي.
“سننطلق.”
… مهلًا، لحظة. لقد تمت إساءة فهمي بطريقة غير لائقة.
“مهما كان ما تفكرين فيه، فهو سوء فهم.”
“حسناً.”
“تعالي واركبي أنتِ أيضًا. بسرعة.”
“لا بأس. لستُ غبية إلى هذا الحدّ.”
أجل، هي الآن فهمت الأمر بشكلٍ خاطئ! أغلقت إلزا الباب بينما كنتُ مشدوهة.
آه، حسنًا… الجميع يعتقدون أنني أحضرته لأهداف مُعين* على أي حال. تنهّدتُ وفتحتُ فمي مُستسلمة.
“إذا أردتَ، سأطلب منهم إعادتك إلى عربة السجناء.”
عندها فقط أدركتُ معنى كلمات إلزا. قد تكون القيود الجسدية صعبة، لكن التنقل مُقيّدًا قد يكون أفضل لكرامته.
“لقد أحضرتُك مراعاةً لك، لكنني لم أفكّر جيدًا.”
بدت عينا فريدريش مُندهشتين بعض الشيء من كلامي. هل هو لا يصدّق أنني كنتُ أُراعي مشاعره؟
“أنتَ زوجي المُستقبلي على أي حال. شعرتُ بالضيق لكونهم يعاملونك كأسير حرب علنًا.”
“…”
“سأفتح النافذة وأطلب من إلزا إعادَتَك.”
عندما فتحتُ النافذة لأُنادي إلزا، شعرتُ بيد ضعيفة تمسك بطرف فستاني.
أدرتُ رأسي، فقال فريدريش وهو يخفض رأسه قليلًا:
“أفضّل أن أبقى هنا.”
“يمكنك أن تقول الحقيقة. لن أغضب. لا يمكن أن يكون وضعك جيدًا وأنت تُداس تحت قدمي أمام الجميع.”
“لكن هذا أفضل من عربة السجناء.”
توقف عن الكلام للحظة، وكأنه تذكّر السبب متأخرًا.
“… هذا المكان أكثر دفئًا وراحة.”
التعليقات لهذا الفصل " 3"