كان صيف الإمبراطورية خفيفًا، حيث كانت الظلال توفر نسمات باردة نسبيًا، لكن اليوم، بدا الهواء ثقيلًا ورطبًا، كأن رطوبة كثيفة تتراكم في الأجواء. كانت الأمطار الموسمية الطويلة، التي استمرت لأيام، قد توقفت مؤقتًا، تاركة وراءها سماءً ملبدة بالغيوم الداكنة. تحت هذه السماء القاتمة، كان الهواء الحار واللزج يلف الجلد كغطاء خانق.
كان سيزار يمشي بخطوات بطيئة، وكأنه يتحرك في عالم يغرق في صمت ثقيل. بجانبه، كان ليون يسير بنفس الوتيرة، يلقي نظرات مترددة نحوه، وكأنه يحاول قراءة ما يدور في ذهن شقيقه. أخيرًا، تحدث ليون بنبرة مليئة بالقلق: “لماذا ترفض حتى تناول الطعام؟… سمعت أنك لم تشرب حتى قطرة ماء.”
كانت والدتهما قد حبست نفسها في القصر، رافضة لقاء أي شخص، وامتنعت عن الخروج منذ أربعة أيام كاملة. وصلت أخبار إلى الشقيقين أنها أهملت تناول الطعام تمامًا،.وانغمست في طقوس سحرية غامضة، لكنهما تركاها دون تدخل. كان ليون، على وجه الخصوص، مضطربًا من تصرفات والدته الغريبة. وبعد تفكير طويل، قرر أن يطلب من سيزار مرافقته لزيارة والدتهما للاطمئنان عليها. كان قلقًا، لكنه كان يخشى مواجهتها بمفرده. من يعلم ماذا قد يحدث إذا أزعجاها أثناء طقوسها السحرية؟ كان ليون يأمل، في قرارة نفسه، أن يتقاسم شقيقه سيزار غضب والدتهما إذا ما تم استفزازها.
في هذا العام، بلغ ليون وسيزار سن الرشد معًا، لكن عندما يتعلق الأمر بأمهما، كان ليون لا يزال يحمل شيئًا من طفولته. كان يحتقرها من جهة، لكنه في الوقت ذاته كان يتوق إلى حنانها بشدة. كان هذا التوق مفهومًا، إذ كانت والدتهما تبدي بعض العطف تجاه ليون، بينما كانت تبغض سيزار. كانت تعتقد أن عينيه الحمراوين نذير شؤم، فكانت تلعنه، بينما كانت ترى في عيني ليون الزرقاوين، اللتين تشبهان عيني الإمبراطور، مصدرًا للحب والتقدير.
لم يكن سيزار يهتم كثيرًا بهذا التمييز. كان بطبعه لا يشعر بأي تأثر تجاه مثل هذه الأمور. كل ما كان يزعجه هو طلبات والدته المتكررة لسحب دمه أو إشراكه في طقوسها السحرية الغريبة.
كان يرى هذه الأفعال مضيعة للوقت ومجهودًا لا طائل منه. حتى الآن، كان يرى محاولاتها لإحياء حبيبها المتوفى محض جنون. كان من الأفضل حين كانت منغمسة في خرافات لاستعادة حب الإمبراطور، إذ كان هناك، على الأقل، أمل ضئيل في تحقيق ذلك. ربما لو فقد الإمبراطور الطاعن في السن عقله فجأة، قد يعود إليها. لكن محاولة إحياء الموتى؟ هذا كان أمرًا لا يمكن لسيزار أن يفهمه. كان يعتقد أن أي شخص يملك ذرة من العقل والمنطق لن يقدم على مثل هذه الأفعال المجنونة.
كان يخشى أن ينتهي به المطاف مغطى بدماء ماعز إذا حاول التدخل في طقوس والدته. لذا، رفض طلب ليون في البداية. لكن ليون كان مثابرًا، وبعد أن اقنعه بشرب الشاي معًا، وافق سيزار أخيرًا على مرافقته إلى قصر والدتهما. من بعيد، بدا القصر البالي كأنه شبح من الماضي. على عكس قصور الأمراء الفاخرة، كان قصر والدتهما متواضعًا وبائسًا.
كان الإمبراطور يكن حبًا خاصًا للأخوين التوأم، وخاصة سيزار، لكن هذا الحب لم يمتد أبدًا إلى والدتهما. بل على العكس، كان يكرهها ويعاملها بازدراء، خوفًا من أن تستغل شهرة ابنيها لتصبح متعجرفة. لهذا السبب، كان قصرها، على الرغم من كونها أمًا لأميرين، في حالة يرثى لها.
عندما دخلا القصر، لم يكن هناك خادمة واحدة لاستقبالهما. كان عدد الخدم في القصر قليلًا، ويبدو أنهم غادروا مؤقتًا.
“حسنًا، لقد جئنا دون إشعار مسبق”، تمتم ليون بإحراج وهو يتقدم بخطوات واثقة نحو الغرفة التي كانت والدتهما تقيم فيها طقوسها. كانت الستائر تغطي جميع النوافذ في الممر، مما جعل الأجواء مظلمة وكئيبة حتى في وضح النهار. أمام باب الغرفة التي كانت والدتهما فيها، كان الممر مغطى بسائل أحمر داكن ولزج، يتسرب من تحت الباب. كانت رائحة الدم النفاذة تملأ المكان، وكان السائل يلتصق بأحذيتهما، محدثًا صوتًا مقززًا مع كل خطوة. ارتعش ليون وهو يطرق الباب بحذر: “أمي، أنا ليون”.
لم يأتِ رد. حاول ليون فتح الباب، فتحرك المقبض بسهولة دون مقاومة. توقف للحظة، يحدق في الباب غير المقفل، ثم قال: “سأدخل.”
عندما فتح الباب، أصدر صوتًا مزعجًا، كأنه صرير مفصلات صدئة. لكن الصوت لم يكن قادمًا من الباب. كان هناك شيء يتأرجح عند النافذة المفتوحة، يتحرك مع الرياح. رغم التهوية، كانت رائحة كريهة تملأ الغرفة. عبس سيزار، بينما فتح ليون عينيه على وسعهما. تجمد التوأمان في مكانهما للحظات، عاجزين عن الحركة.
“آه…”.
كسر ليون الصمت بنهدة قصيرة. تقدم خطوة متعثرة، لكنه لم يستطع مواصلة المشي وسقط على ركبتيه، يتقيأ بعنف. تقدم سيزار، متجاهلاً حالة أخيه، والتقط سكينًا من الأرض، ثم قطع الحبل الذي كان يتدلى منه جثة بدأت بالتحلل.
سقطت الجثة على الأرض بصوت مكتوم، مشوهة قليلاً، لكنها كانت بحالة يمكن لمتعهد دفن الموتى التعامل معها.
نظر سيزار حوله، فوجد الغرفة مغطاة بدماء الحيوانات، كأنها مسرح لطقس يائس. كان من المحتمل أن دمه هو الآخر مختلط في هذا المشهد المروع. تذكر كيف طلبت والدتهما مؤخرًا كمية غير معتادة من دمه. التفت إلى ليون، الذي كان يجلس على الأرض، متسخًا بالدماء والقيء، يحدق في سيزار بعيون زجاجية. خلع سيزار قفازاته الجلدية الملطخة وألقاها على الأرض، ثم قال: “استفق، ليون”.
لم يرد ليون. سحبه سيزار خارج الغرفة، ثم صفعه على وجهه. عندها فقط عاد ليون إلى رشده، وبدأ يحاول السيطرة على انفعالاته المضطربة. كأمراء في إمبراطورية تراون، كانت مكانتهما غير مستقرة، فهما مجرد اثنين من أبناء الإمبراطور العديدين. كان عليهما الحفاظ على اهتمام الإمبراطور، وإظهار أي ضعف عاطفي بسبب وفاة والدتهما المكروهة قد يضرهما.
فجأة، سأل ليون سيزار: “أنت… هل أنت بخير؟”
فكر سيزار في السؤال للحظة. لقد شاهد جثثًا كثيرة في ساحات المعارك، لذا لم تؤثر فيه رؤية جثة والدته. بل بدت له جثة هادئة مقارنة بما رآه من قبل. أجاب بأنه بخير، لكن ليون، الذي بدا وجهه شاحبًا، سأله مجددًا: “كيف يمكنك أن تكون هادئًا هكذا؟”.
لم يستطع سيزار فهم سبب استغراب ليون. بالنسبة له، لم تكن هذه الجثة مختلفة عن غيرها، لكنه لم يعبر عن ذلك. كان يعلم أن إظهار اختلافه لن يجلب له سوى المشاكل.
انتشر خبر انتحار والدة الأميرين التوأم في القصر بسرعة البرق، كأن الناس انتظروا فقط لحظة شرب الشاي ليبدأوا بالحديث.
***
في اليوم الذي ماتت فيه والدتهما، التقى سيزار بإيلين. كان اللقاء مقررًا مسبقًا، لكن الخدم حاولوا منع الطفلة من دخول القصر، معتبرين أن هذا ليس وقتًا مناسبًا لطفلة أن تلعب. ربما ظنوا أن سيزار سيظهر بعض الحزن على فقدان والدته، رغم العلاقة السيئة بينهما. لكنه أصر على تنفيذ جميع مواعيده، بما في ذلك لقاء إيلين في الوقت المحدد.
شعرت إيلين بالجو المتوتر في القصر، فكانت هادئة بشكل غير معتاد، هي التي كانت عادةً تثرثر بمرح. سألته بحذر إن كان هناك شيء قد حدث. في تلك اللحظة، تخيل سيزار ماذا سيحدث لو أخبرها أن والدته ماتت اليوم. كان متأكدًا أنها ستبكي بحرقة، ربما تعوض عن بروده العاطفي بدموعها الصادقة. تخيل كيف ستبذل جهدها لمواساته، لكنه لم يرد رؤية دموعها. لم يكن جيدًا في التعامل مع المواقف العاطفية، فأجابها بأن كل شيء على ما يرام، وقضى الوقت معها كالمعتاد.
في تلك اللحظة، لم يكن يعرف، لكنه أدرك لاحقًا سببًا آخر جعله يتردد في إخبارها بوفاة والدته. لقد كان هناك جزء منه، عميق وخفي، يريد حماية براءة تلك اللحظة معها، بعيدًا عن ظلال الموت والحزن.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات