3
قراءة ممتعة~~~
الفصل الثالث: أخ خطيبي.
“يا آنسة؟”
ضيّق الرجل عينيه قليلًا، متفحّصًا ردة فعلها.
استعادت إيفون وعيها بعد لحظة تأخّر قصيرة.
“آه…”
حينها فقط لاحظت أنه كان يومئ بخفة إلى المعطف المعلّق على ذراعه.
كان الرجل يبدو نبيلاً من النظرة الأولى.
ليس بسبب ملابسه الفاخرة ووجهه الهادئ فحسب،
بل لأن كل حركة من حركاته كانت تنمّ عن انضباط وأناقة متأصلة.
من الواضح أنه لم يقصد سوى التصرّف بلُطفٍ كرجل مهذب، لكن بالنسبة لفتاةٍ غير متزوجة، استعارة معطف من رجلٍ غريب لم تكن تصرّفًا لائقًا.
رفضت إيفون عرضه بلُطف.
“أقدّر لطفك، لكنني بخير.”
“أمتأكدة أنك بخير؟”
أمال الرجل رأسه قليلًا، وتطلع إليها بعينيه الزرقاوين الغامضتين.
عينان بدتا وكأنهما تخترقان أعماقها.
“أنتِ لا تبدين كذلك.”
والحقيقة أنها لم تكن بخير فعلًا.
فمنذ أن نزلت من القطار، ظلت متوترة طوال الوقت، وحرارة جسدها انخفضت بسبب العرق البارد الذي غطى بشرتها.
لكن قبول معروفٍ من شخص غريب—خصوصًا من رجل—جعلها تشعر بعدم ارتياح.
وقبل أن ترفضه مجددًا، مدّ الرجل المعطف نحوها.
“ارتديه، أو على الأقل ضعيه على كتفيك.”
وبينما كانت مترددة، استدار الرجل مع المرافق الذي جاء ليصطحبه، وقد ترك المعطف في يديها.
“انتظر لحظة!”
التفت عندما أمسكت بطرف سترته.
أدركت ما فعلته، فأفلتت يدها بسرعة، ثم مدّت المعطف نحوه.
“لا يمكنني قبول شيء ثمين كهذا ما دمت لا أستطيع إرجاعه. من الأفضل أن تسترده.”
نظر إليها بدهشةٍ خفيفة، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة.
“إذًا، سأسترده في المرة القادمة.”
“المرة… القادمة؟”
“أنا متأكد أننا سنلتقي مجددًا.”
فلوتسرن مدينة صغيرة في النهاية.
قالها بنغمةٍ واثقةٍ هادئة، ثم رحل دون أن يأخذ معطفه.
تابعته إيفون بنظرها حتى غاب وسط المطر، ثم نظرت إلى المعطف الذي بقي بين يديها بعد أن غادرَت عربته.
كان ينبعث منه عبيرٌ خفيفٌ ومريح—
كرائحة الهواء البارد والماء النقي.
عندها فقط أدركت أنها لم تشكره حتى، ولا سألت عن اسمه.
لكن الوقت كان قد فات.
ومع ذلك، بعد أيام قليلة، التقته مجددًا، تمامًا كما قال.
***
توقّف المطر، وبدأ دفء الربيع الأول يملأ الجو.
أمام كنيسةٍ في ضواحي لوتسرن، تجمّع عدد كبير من المعزين.
جاؤوا جميعًا لحضور جنازة ماركوس غلاستون، الابن الوحيد لـ كارلايل غلاستون.
ظاهريًا، كانوا هناك لتوديع الفقيد، لكن الجميع كان يعلم أن دوافعهم مختلفة.
فماركوس، رغم أصله النبيل،
كان رجلاً عديم الإنجاز.
لم يحقق ثروة كوالده كارلايل،
ولم يسطع اسمه كابنه سيدريك الذي دعم الحرب ونال لقب الفروسية.
باختصار، لم يُعرف له فضل أو إنجاز.
وإن كان يُذكر بشيءٍ،
فبوسامته فقط—ذلك الوجه الذي أسر قلوب نساءٍ كثيرات.
ومع ذلك، كانت الجنازة مزدحمة بالناس.
أولًا، لأن الجميع أراد التقرب من كارلايل غلاستون، ذلك الثريّ الذي يسيطر على شؤون المملكة.
وثانيًا—
“ها هم وصلوا.”
عند صرخةٍ بين الحضور، التفتت الأنظار نحو صوت العربات القادمة.
ومن بين النظرات المتجمّعة،
ظهرت عربة عائلة لوروا.
توقفت أمام الكنيسة،
ونزل منها رجلٌ في منتصف العمر بعينين حادتين ونظرةٍ صارمة.
تبعته شابة بشعرٍ بنيّ يشبه شعره تمامًا.
كان وجهها غير مألوف لهم، لكن الجميع عرفها على الفور.
إنها إيفون لوروا،
الابنة الوحيدة لدوق لوروا،
التي قيل إنها كانت مريضة لفترة طويلة.
أما لوغان، الدوق، فقد قابل النظرات الموجهة إليهما بثقةٍ متقنة،
ثم همس بصوتٍ خافتٍ لا يسمعه سواها.
“من الأفضل أن تبقي متيقظة ولا تَدَعي أحدًا يعرف حقيقتك.”
“…نعم، أبي.”
أبي.
حتى بعد عشرين سنة من استعمالها هذه الكلمة— سواء حين قالتها لأبيها الحقيقي أو الآن وهي تقولها للوغَان،
إلا أن الكلمة ما زالت تجرح لسانها كالرمل.
كانت كلمة لم تشعر يومًا بأنها تخصها.
وبينما كانت تسترجع ثقلها في ذهنها—
“إيفون؟”
ظهرت فجأة شابة نبيلة بين الحشود المتطلعة.
حدّقت في وجهها للحظةٍ طويلة، ثم أمسكت بذراعها في حماسٍ واضح.
“يا إلهي، أهذه أنتِ حقًا؟ لقد مرّ وقت طويل جدًا! لو لم يكن الدوق هنا، لما عرفتك. مرحبًا سموك، ألا تذكرني؟”
“بالطبع أذكرك. إيفون، ألا تتذكرينها؟ إنها الآنسة ناديا من عائلة لوبيز، صديقتك.”
كان لوغان يُلقّنها المعلومات عمدًا.
فهمت إيفون قصده، واستعدت لتبادل التحية،
لكن صوتًا آخر انضمّ إلى الحديث.
“مرّ وقت طويل يا دوق، أتمنى أن تكون بخير.”
كانت النبيلة الأخرى التي انضمت تشبه ناديا في ملامحها وسلوكها إلى حدٍّ كبير، لذا كان من السهل إدراك أنها الكونتيسة لوبيز نفسها.
“بخيرٍ بفضلك. سمعت أن أعمالكم مزدهرة هذه الأيام. ألم يستطع الكونت الحضور معكم؟”
وبينما كان لوغان والكونتيسة يتبادلان المجاملات، تدخلت ناديا فجأة.
“أعتذر لمقاطعتكما، لكن هل يمكنني أن أدخل مع إيفون أولاً؟”
“ناديا، أعلم أنك سعيدة برؤية صديقتك مجددًا، لكننا في جنازة. كوني رزينة يا عزيزتي.”
“ناديا شابة مهذبة يا سيدتي.” قال لوغان بسلاسة.
“أنا واثق أنها ستتصرف كما ينبغي. إيفون غابت عن العاصمة طويلاً، ولا تعرف تمامًا كيف تسير الأمور هنا. سأكون شاكرًا لو ساعدتها قليلاً.”
ولأي ناظر، بدا وكأنه أب صارم لكنه حنون.
“بالطبع، أليست هذه مهمة الأصدقاء؟ لا تقلق.”
ابتسمت ناديا بودّ، وشبكت ذراعها بذراع إيفون بخفةٍ أنيقة.
“هيا بنا، إيفون.”
رائحة العطر القوية ودفء الملامسة جعلتها تنكمش داخليًا، لكنها أخفت انزعاجها وتبعت ناديا إلى داخل الكنيسة.
كان المكان مكتظًا بالمعزين الذين سبقوهم.
وبينما كانت ناديا تشق طريقها بين الحشود، همست لها.
“بالمناسبة، سمعت أنكِ مخطوبة للسير ديريك؟”
“كيف عرفتِ؟”
اتسعت عينا إيفون دهشةً، فالخبر لم يُعلن بعد رسميًا.
“يا إلهي، ألا تعرفين كيف تسير الأمور في العاصمة؟ حقًا، تبدين كفتاة ريفية!”
ضحكت ناديا بخفة، ضحكة حلوة لكنها تحمل سخرية خفية.
“الخبر انتشر منذ يوم وصولك. في العاصمة، إن همستِ شيء لشخصٍ واحد، سيعرف الجميع في اليوم التالي.”
اتضح أن القول المأثور صحيح:
للعاصمة عيون وآذان في كل جدار.
“على أي حال، بما أننا تحدثنا في الأمر، إيفون، هل يمكنك مساعدتي بشيء؟”
نادراً ما يطلب الناس المساعدة بعد غيابٍ طويل أو لقاءٍ أول إلا وكانت لهم نوايا خفية.
وبحكم سنواتها الطويلة كفتاة من العامة، شعرت إيفون بأن وراء طلبها شيئًا غير مريح.
لذا، بدل أن تجيب فورًا، سألت بحذر.
“…ما نوع المساعدة؟”
“أنتِ خطيبة السير ديريك، أليس كذلك؟ كنت أتساءل إن كان بإمكانك أن تعرّفيني على السير سيدريك.”
سيدريك غلاستون—الأخ غير الشقيق لديريك.
في تلك اللحظة فقط، فهمت إيفون لماذا اقتربت ناديا منها بكل ذلك اللطف بعد سنواتٍ من الغياب، بينما بالكاد يعرفان بعضهم.
“أليس هذا ما تفعله الصديقات؟ من الأفضل أن تصبحي عائلة معي بدلًا من إمرأة غريبة، أليس كذلك؟”
في الحقيقة، لم يهمّ إيفون من سينضم إلى عائلة غلاستون، فهي كانت تخطط للعثور على والدتها ومغادرة العاصمة قبل موعد الزواج.
لكن ناديا تابعت كلامها دون اهتمام بما تفكر به.
“آه، صحيح، لا بد أنك لم تري خطيبك بعد، أليس كذلك؟”
شدّت ذراعها بلطف، وأشارت بعينيها نحو مقدمة الكنيسة.
“انظري، ترين ذلك الرجل ذا العينين البنيتين الداكنتين؟ إنه خطيبك، السير ديريك.”
وفي الاتجاه الذي أشارت إليه، وقف رجلان أشقران.
كلاهما يملك الشعر الذهبي ذاته، لكن الهالة التي يبعثانها كانت مختلفة تمامًا.
الأخ الأصغر، ديريك، بدا مشرقًا ومرحًا ومنفتحًا.
“أما الرجل بجانبه، ذو العينين الزرقاوين—فهو السير سيدريك.”
كانت في نظرات سيدريك برودة مهيبة، منحته وقارًا طبيعيًا كأنه تجسيد للنبل ذاته.
وحين توقفت عيناها عليه، تأرجحت ذاكرتها.
ذكريات الليلة السابقة عادت إليها—
تلك النظرة القوية، وذلك الصوت الهادئ.
إذًا، سأسترده في المرة القادمة.”
“أنا متأكد أننا سنلتقي مجددًا.”
سيدريك غلاستون.
ذلك الرجل نفسه— الذي عرض عليها معطفه في محطة القطار.
يتبع^^
ترجمة نينا @justninaae
Chapters
Comments
- 3 - أخ خطيبي منذ يوم واحد
- 2 - الآنسة المزيفة منذ يوم واحد
- 1 - هل عليَّ سرقتها؟ منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 3"