نستطيع أن نحمي أحبّاءنا ونكفّ الأذى عنهم إن جاء من الخارج غريبًا،
فكيف نداويهم من قسوة أحبّائهم؟
كان المكتب يعجّ بحركةٍ لا تهدأ منذ الصباح الباكر.
ملفاتٌ مفتوحة تعرض أرقامًا متقلبة، وأصواتٌ متداخلة لفرقٍ تحاول احتواء أزمةٍ تتّسع مع كل دقيقة.
وقف كينت خلف مكتبه، سترته معلّقة إلى جانبه، وأكمام قميصه مطويّة حتى المرفقين. عيناه ثابتتان على شاشة العرض، بينما يتحدّث نظيره السياسي الدبلوماسي من دولته:
” سيد كينت… أعلم أنك لم تتراخَ يومًا في عملك، لكن العقود التي تربط بين الدولتين هي صمّام أمان للسلام، حتى لا تنزلق الأمور إلى حرب. أرجو أن تجد حلًا قبل أن تصل الأزمة إلى آذان الرؤساء.”
أغلق الاتصال، ولم يحضر إلى عقله سوى اسم الوزير الفاسد.
كان يعرف يقينًا من يقف خلف هذا التعقيد المفتعل.
أخرجه زيك من تفكيره وهو يقترب منه قائلًا بنبرة منخفضة: ” العقود مع الدولة الشرقية عُلّقت مؤقتًا، بحجة خللٍ في الشروط الجديدة.”
ابتسم كينت ابتسامة قصيرة ساخرة، نافسًا:
“الخلل لا يأتي مصادفة يا زيك… أخبرتهم أنني لن أساوم.”
تردّد أحد الموظفين قبل أن يتكلم:
“سيدي، السياسي ذاته ضغط على الوسطاء… يريد إفشال الاتفاق.”
رفع كينت رأسه ببطء، ونظر إليهم نظرةً أسكتت الجميع، ثم قال بهدوءٍ مُحكم:
“إذًا… فلنُفشل لعبته قبله. أعيدوا التفاوض عبر الطرف الثالث، ودعوا الدول المجاورة تعرف حقيقته، وما يسعى إليه هو وابنه، حتى يرفضوا استقبالهم. دعوه يختنق بعقوده الفارغة.”
خرجوا تباعًا.
وبقي وحده، واقفًا أمام النافذة الزجاجية الممتدة بعرض الحائط وطوله، مع ارتعاشٍ خفيفٍ في يده.
نظر إلى الساعة.
مرّت ساعة كاملة… كما اتفق معها.
ضغط زر الاتصال.
لم يكن يعرف كيف يبدأ، ولا ماذا يقول. لم يرتبك هكذا قبل التحدث مع أحد.
لم يطل الرنين حتى جاء صوتها المرتبك دائمًا:
“مرحبًا؟”
قال فورًا بصوتٍ أخفض من المعتاد، يتخلله تشوش واضح: “في هذا الوقت… كنت أشعل سيجارة تلو الأخرى. ومع هذا القدر من الفوضى في بداية يومي، أعجز حقًا عن ألا أطلب من أحدهم إحضار علب التبغ كلها إلى مكتبي… وكل هذا بسبب كلماتٍ خرجت منكِ، أغضبتني بقدر ما كانت صائبة.”
توقّف، وضع يده على الزجاج، خفّض رأسه، ثم قال بصدقٍ مكشوف:
“حتى تختفي هذه الرغبة… تحدّثي معي. عن أي شيء. أشغلي هذا العقل عمّا يؤذيه.”
كان يلهث.
غضبه يتفاقم، لا يدري إن كان حديثه معها سينقذه أم يزيده وهنًا.
ساد صمتٌ قصير، ثم جاء صوتها متحمسًا، صادقًا، كأنها تحفظ يومها عن ظهر قلب:
“لم أذهب إلى الجامعة اليوم أيضًا. تابعت المحاضرات التي فاتتني، ولم أسمح لأبي بالذهاب إلى العمل. أراد ذلك، لكنني اشترطت أن يأخذني معه، فرفض… قال إن الشركة كلها رجال، وقد أخاف. هو الآن يعمل من المنزل حتى أتعافى.”
اعتدل كينت في وقفته، وضع يده في جيبه، وابتسم بهدوءٍ و هو يفكر.
تابعت بصوتٍ بسيط:
“وقبل هذا… أعددنا فطورًا متأخرًا. أحرقت الخبز قليلًا… وأليكا سخرت مني كعادتها.”
إن الحديثَ معها مريح.. هذا ما استنتجة.. بل و ساعده أيضاً
فبعد دقائق من حديثهم.. أخرج يده من جيبه، رفعها أمام عينيه،.. لاحظ ذلك.. فقد خفّ ارتعاشها. و خفّت معها قضمة لشفتيه التي كانت تطلب التبغ باستماتة، حتى أنفاسه انتظمت.. و كأنه يعود إلى رشده من جديد.
فقالت بنبرةٍ يختلط فيها الهدوء بالحزن:
“أتعلم؟ أمي تقول إن الأشياء الصغيرة هي التي تُبقي الإنسان واقفًا… كوب شاي، حديثٌ عابر، أو شخص يسمعك حقًا.”
ابتسم براحة، وقال:
“أو شخص يمنحك قليلًا من وقته، وكأنك مُنقذه الوحيد”.
توقفت لحظة، ثم قالت بصدقٍ طفولي:
“لكن أمي لم تُضف هذه الجملة.”
ضحك…. ضحك بملء فمه، على سذاجتها المقرونة بصدقها.
أبعدت الهاتف عن أذنها دون وعي، قلبها يضطرب، وحرارة وجهها تزداد.
وقبل أن يُغلق الخط، قال:
“وهو كذلك يا آنسة إڤانيا… أشكركِ على وقتكِ، يا طبيبتي.”
في تلك الأثناء، كانت أليكا تخرج من المطبخ تحمل كوبًا ساخنًا.
توقفت حين سمعت صوت أختها تتحدث مع رجل، ومع كل كلمة كانت الغيرة تتصاعد.
انتظرت حتى أُغلق الهاتف، ثم دخلت الغرفة بحدة:
“حتى الغرباء يلتفون من حولكِ؟”
ثم أضافت بنبرة مشحونة:
“هل أنتِ سعيدة بذلك؟”
تصلّبت إڤانيا، وشعرت أن كره أختها يخنقها:
“لم أفعل… لم أفعل شيئًا.”
ضحكت أليكا بمرارة:
“كفاكِ تمثيلًا… كل هذا ولا تفعلين شيئًا؟”
ارتفع صوتها في اللحظة ذاتها التي أنهى فيها والدها مكالمته ودخل مسرعًا:
“أنتِ عبء… عبء على هذا البيت. ليتني لم أولد في عائلةٍ تضمكِ، وليتكِ لم تكوني أختي.”
الكاتبة: أليكا… تبًّا لكِ.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"