5
وقف كينت عند مدخل منزلها، يده لا تزال في جيبه محكمٌ في قبضتها، يحاول تمالك تعابيره بعد جملتها الحادّة:
“لا يشرب السجائر إلا الرجال الضعفاء…”
ثم كررتها… مرةً، واثنتين، وثلاثًا.
تجمّد…
ثانيةٌ واحدة فقط.
لكنها كانت كافية لتفتح داخل رأسه بابًا ظلّ مُغلقًا لسنوات.
وفجأة….…تغيم رؤيته.
…يهبط الصوت من حوله.
…ويتبدل المشهد.
فيعود إلى عمره الـسابعة عشر—
الرائحة نفسها.
رائحة المستشفى…
الضوء الأبيض…
البرودة…
وصوت الطبيب يقول: “والدتك…بها سرطان…”
يسمع أنفاسه الشابّة… المرتعشة.
يشعر بالفراغ اللاذع الذي كان يبتلع صدره.
أمه تبكي… وهو لا يعرف كيف يُمسك يدها دون أن يسقط معها.
الوقت يركض… والمال ينفد… والأمل يختنق.
ثم يرى نفسه يخرج من أبواب المستشفى، العَرَق والصدمة يختلطان على جبينه.
يسمع صوت أبيه في ذاكرته الماضية:
“أنا مسؤول عن عائلتي فقط.
دبّر أمرك.”
يتوقف الهواء.
ثم تظهر صورة ذاك الرجل الجالس عند مدخل المستشفى…
المظلة فوق رأسه، السيجارة بين أصابعه، وملامحه المنهكة.
يرى نفسه—الفتى النحيل المرتجف—يتقدّم منه، عينيه تائهتين:
“أ… أريد واحدة.”
يشاهد نفسه يشعلها لأول مرة.
يسحب نفسًا عميقًا…
وصدره يرتفع…
ثم ينخفض.
تعود إليه القدرة على التنفس بعد ساعاتٍ من الاختناق.
للحظة…
توقّف الارتجاف.
توقّفت الأصوات.
توقّف الألم.
لم تُشفِه…
لكنها خدّرت الهاوية التي في داخله.
وجعلته يظن، ولو لثانية واحدة، أنه قادر على الاستمرار.
ومن تلك اللحظة…
صارت السيجارة رفيقًا أسود يظهر كلما عاد الألم.
لا عادة… ولا رفاهية…
بل المسمار الذي يدقّه في صدره حتى يظل واقفًا.
كان ذلك أول شيءٍ جعله يشعر…
ولو بوهمٍ صغير…
أنه قادر على الوقوف.
أن العالم لن ينهار فوقه الآن.
كان ضعيفًا.
ضعيفًا بما يكفي ليتمسّك بأي شيءٍ يسكته، أو يجعله ثابتاً ليفكر، ليعرف كيف سيتحرك.
—
يعود إلى الحاضر فجأة
يرمش كينت مرتين.
المنزل يعود أمامه.
والدا إڤانيا ينظران بينه وبين ابنته في ارتباك.
وهي واقفة—وجهها شاحب، صوتها متصدّع—لكن عينيها الثابته على أيُ شيءٍ أمامها عداه و عدا العيونِ من حولها وهي تردد:
“لا يشرب السجائر إلا الرجال الضعفاء.”
تتحرّك زاوية فمه حركةً بالكاد تُرى… ليست ابتسامة.
بل شيء أشبه بجرحٍ قديم يُسحب عليه السكين من جديد.
خفض عينيه للحظة، كمن يعيد قفل صندوق قديم داخل صدره،
ثم رفع نظره إليها وقال بنبرة هادئة، خالية من أي غضب:
“إذن… يبدو أنّني كنت ضعيفًا بالفعل.”
لكن صوته كان يحمل شيئًا أعمق—
ذلك الانكسار القديم الذي لا يراه إلا من يصغي جيدًا.
لكنها قالت تتالياً من جملته أيضاً:” كأنك حزين؟! “
فتح كينت عيناه في صدمة… لقد قرأته… أجل لقد فعلت ذلك و فقط من خلال ما نبس به، كأنه مكشوفٌ من خلالها…
و قبل أن تزيد إڤانيا من إحراج والديها لأنها في كل مرةٍ تتحدث بتلقائيةٍ و صدق تُسقطُ قلب والديها من الحرجِ و الخوف من ردودِ فعله.
فتحدث والدها كي يغطي على ما قالت: “نعتذر على وقاحتنا تفضل بالجلوسِ رجاءً”
رفع كينت يده قليلًا، وحكّ حاجبه بإبهام مرتبك—
إيماءة لم يفعلها أمام أحد منذ سنوات.
ثم قال بهدوء:
“لا بأس… أردت فقط الاطمئنان عليها. واضح أنّها بخير الآن.”
توقف ثانية، ثم أضاف موجّهًا كلامه لوالدها:
“هل لي بكلمةٍ معك؟ على انفراد.”
فور سماعها الكلمة الأخيرة،
تجمدت إڤانيا.
ارتعشت أناملها، ثم أمسكت طرف ثوب والدها بقبضةٍ صغيرة متشبّثة.
نظر الأب إليها بلطفٍ ممزوج بثقل الألم:
“لن أبتعد يا صغيرتي… انظري، سنقف هناك… أمام بصرك تمامًا.
وأنتِ تبقين هنا. اتفقنا؟”
هزّت رأسها توترًا، ووالدتها أمسكت كتفها تُطمئنها:
“أنا هنا يا حبيبتي… لن أترككِ حتى يعود.”
فاستسلمت ببطء.
ابتعد الأب مع كينت بضعة خطوات، وظلت عينا إڤانيا معلّقتين عليهما في قلقٍ ظاهر.
تنهد الأب وقال بصوتٍ منخفض:
“هي هكذا منذ الحادثة… رفضت أن أذهب إلى عملي اليوم، ورفضت الذهاب إلى الجامعة.
وليس على لسانها سوى جملةٍ واحدة:
«لا تزال صور الرجال محفورةً في عقلي… لا تتركني.»
إنها… فتاة توحّد، لذلك فهي أكثر حساسية من أي شخصٍ آخر.”
تغيّرت نظرة كينت قليلًا—
لمسة فهم… احترام… و هدوءٍ لا يُقرء.
أومأ وقال:
“أجل… علمت هذا.
وعلمت أيضًا أن الأمور لن تسري معها بسهولة… لذلك أتيت.
لقد تعاملت مع حالاتٍ مشابهةٍ من قبل… أعرف كيف أساعدها.
وستكون مطّلعًا على كل خطوة، لتطمئن.”
قطّب الأب حاجبيه، وبدت الريبة في عينيه:
“لماذا…؟
لماذا تساعدنا مرة أخرى؟
ليس لأنني عاجز عن حماية ابنتي—أعرف ما عليّ فعله.
لكن… لماذا أنت؟”
ابتسم كينت ابتسامةً خافتة، بلا تكبّر ولا شفافية كاملة:
“هذا يدخل ضمن عملي… وقد أجريت بحثًا سابقًا عن حالة مشابهة،
وسارت الأمور كما ينبغي.”
لم يذكر وظيفته.
لم يذكر منصبه.
تعمد أن لا يخلق بينهما فرق طبقات… ولا فضل.
ثم أضاف بنبرة خفيفة، كأنها مزحة سرية تحمل صدقًا داخليًا:
“وربما… تساعدني هي أيضًا في الإقلاع عن التبغ.
كما تعلم… تركه ليس هينًا.
فلنعتبرها مساعدةً متبادلة.”
ارتفع حاجبا الأب في ريبةٍ أوضح…
شيء في الأمر لم يعجبه،
لكن في نفس الوقت… لم يستطع أن يكره الرجل الذي أنقذ ابنته.
نظر إلى إڤانيا—كانت تحدّق بهما وتفرك يديها في قلقٍ شديد.
ثم قال:
“لا أظنّ أنها ستوافق بسهولة… ليس بعد ما حدث.”
أخفض كينت حاجبيه بثقةٍ هادئة:
“اسمح لي أن أجرب…
وبالطبع، لا إجبار في طلبي يا سيّد إندارو.”
ساد صمتٌ صغير.
الأب لا يفهم لماذا يثق به… لكن قلبه يقول إن هذا الرجل لا يريد سوى الخير.
أومأ أخيرًا.
اقتربا من إڤانيا ووالدتها.
انحنى كينت قليلًا للأمام وقال بنبرةٍ أكثر لطفًا مما توقع الجميع:
“آنسة إڤانيا…
تعلمين أنني أنقذتكِ من الخاطفين… صحيح؟”
لم تنظر إليه.
نظرت إلى الجانب، وهزت رأسها:
“أجل… صحيح.”
تابع كينت:
“إذاً… هل تساعدينني في الإقلاع عن التبغ؟
ردًا على مساعدتي لكِ… كي لا تبقي مدينةً لي.”
فركت أصابع يدها الأربعة بتوتر،
وكأنها تحسب خطواتها قبل النطق، ثم قالت بصوتٍ صغير:
“يمكنك… المتابعة مع طبيب.”
رفع كينت حاجبه قليلًا، ثم هز رأسه:
“أمم… هذا صحيح.
لكنني كثيرُ الانشغال يا آنسة.
ولا أطلب منكِ الكثير… فقط أن أبقى على تواصلٍ معكِ عندما يهاجمني الشعور بالرغبة في التدخين.
نتحدث قليلاً… وينتهي الأمر.”
نظرت إليه بسرعة، دون أن ترفع رأسها:
“لماذا… أنا؟”
ابتسم بعمقٍ خافت:
“لأنكِ قلتِ لي… إن من يدخّن فهو ضعيف.
وكلما سمعت صوتكِ بتلك الكلمة…
اختفت رغبتي.
وبهذا… تكونين قد ساعدتني.”
ابتلعت ريقها، وصدرها يرتفع ويهبط توترًا.
قبضت على فكّيها ثلاث مرات متتالية—عادةٌ عُرفت بها منذ طفولتها.
ثم نظرت إلى والدها للحظة.
فقال لها الأب مطمئنًا:
“لا بأس يا صغيرتي…
إن لم يعجبكِ الأمر، ارفضي.
لا أحد يجبرك.”
لكنها تمتمت بخجلٍ صادق، كأن الكلمات تقفز من قلبها مباشرة:
“لكنه… ساعدني.
وأريد… مساعدته.
التدخين… سيّء. سيّء.”
تسللت ابتسامة خافتة على شفتي كينت—
أول ابتسامة حقيقية منذ أن دخل البيت.
أخرج هاتفه الأسود، وقدّمه لها:
“سجّلي رقمكِ… من فضلك.”
ارتجفت يدها قليلًا وهي تمسكه…
لكنها كتبته.
وأعادته بصمت.
بعد خروجه
قاد سيارته ببطء.
ذراعه يسند على إطار النافذة، رأسه مائل على قبضته،
وعيناه شاردتان في الطريق المظلم أمامه.
كانت كلماتها تتردد في أذنه:
“التدخين… سيّء.”
“أنت… حزين؟”
نفَس ثقيل خرج منه.
مدّ يده إلى الذاكرة الجانبية،
أخرج علبة التبغ… والقدّاحة الرمادية.
و دون النظرِ إليهما فتح النافذة ورماهما في الظلام.
لم يشعر بخفّة.
لكن للمرة الأولى منذ زمن…
شعر أنه يريد أن يحاول.
الكاتبة/تُرى.. كيف ستُحِبُ فتاةَ التوحدِ يا كينت؟!…
التعليقات لهذا الفصل " 5"
هوا حباها وخلص 🙂
بس كيف تدرس بالجامعة وهيه مريضة توحد
قرات خمس فصول في 5 دقائق .. حبيييييييييييييييت البداية