الفصل 24 :
رمش رمش. رَمشت غلوريا بجفنيها وهي تُحدّق في منظرٍ غريب.
دخل إلى مجال رؤيتها الضباب الداكن والسقف المتعفن الذي بدأ يتساقط.
‘ما هذا؟ لماذا أنا على هذه الحالة… آه.’
كانت قد سقطت بسبب انهيار الصناديق، وحاولت إنقاذ إيي لكنها انغرست تحت الصناديق. إيي… على ما يبدو كان بخير.
مع سقوط الصناديق فوق رأسها، عادت إلى ذاكرتها بعض المشاهد غير الواضحة.
“هااا…”
ضغطت غلوريا على صدغها المؤلم وهي ترفع جسدها.
صدر صوت صرير مِن السرير القديم.
كانت هذه الغرفة… غرفة الكاهن…
“آنستي!”
“إيي؟ هل ما زلت هنا-“
“الكاهن! الكاهن! آنستي قد استيقظت!”
خرج إيي مسرعًا من الغرفة دون أن يتمكن أحد من الإمساك به.
‘لا أستطيع العيش. يا له من إزعاج.’
رغم أنّها كانت متعبة، لم تكن بحالةٍ تُسقطها، لكنّ التعب المتراكم انفجر فجأة.
أبعدت غلوريا البطانية ونزلت من السرير.
كان جسدها يؤلمها من هنا وهناك، لكنها كانت قادرةً على الحركة.
كان لديها عملٌ ينهال عليها كالجبل، فلا مجال للراحة.
فتحت الباب بسرعة وهي تفكر في الخروج للمساعدة، فاندفع الكاهن مسرعًا نحوها.
“آنستي؟ هل أنتِ بخير؟”
“آسفة، أزعجتكم بسببّي، أليس كذلك؟”
“لا، كيف حال جسدكِ؟”
“أنا بخير. يبدو أنّني شعرت بدوارٍ بسيط لأنّي لم أنم جيدًا الليلة الماضية.”
هزّت غلوريا كتفيها كأنَّ الأمر بسيط.
“وجهكِ شاحب، من الأفضل أن تبقي مستلقية…”
“الاستلقاء يزيد الأمر سوءًا. من الأفضل أن أتحرّك.”
تجاهلت غلوريا الكاهن القلق وخرجت من الغرفة.
“بالنسبة لترتيب الصناديق؟”
“تمّ الانتهاء منها تقريبًا.”
“هل جمعتِ الغسيل؟”
“ليس بعد…”
“حسنًا، سأقوم بذلك.”
خرجت غلوريا من المعبد بشكلٍ طبيعي.
تطاير الغسيل المعلّق على الحبال في نسيم بارد.
كانت السماء صافية، لكن يبدو أنَّ ثلوجًا ستتساقط قريبًا.
خشيت أن تتلف الملابس المغسولة بعناية، فسارعت لجمع الغسيل.
ووضعت السلة على الأرض وجلست تجثو.
شعرت بصداعٍ نابض، ربما لأن الجو غائم.
‘كان يجب أن أستريح أكثر كما قال الكاهن.’
ربما لأنَّ حالتها كانت متدهورة، نشأت داخلها موجة من الحزن.
‘هل أستان بخير؟’
‘كان من الممكن أن يتصل بي مرة واحدةً على الأقل.’
لكن عندما لم يُظهر السوار أيَّ استجابة، ظنّت أنّه على ما يرام.
شعرت بغضب تجاهه لأنه لم يسأل حتى عن حالها.
“هل هو لا يريدني أن أراه…؟”
همست غلوريا وهي تعبث بالسوار.
لم يكن بإمكانها لوم أستان، فهو أصرّ على ألا تذهب، وهي أصرت على تحمل التعب.
هزمت الحزن وتابعت جمع الغسيل المتبقّي.
كانت السلة أثقل من المعتاد، ربما بسبب ضعف جسدها.
كانت تسحب السلة بصعوبة، ثمّ…
“أعطني السلة.”
انتزع أحدهم السلة من يدها.
“الدوق؟”
كان أستان.
حدّقت غلوريا به بذهول، ثم ركضت خلفه.
“متى وصلت؟ هل أنتَ بخير؟ هل حدث شيء؟”
“هل أضعها هنا؟”
“نعم، نعم.”
وضع أستان سلة الغسيل في زاوية المعبد، ثم نظر إليها بغضب.
شعرت غلوريا بالحيرة وهي ترى نظرته التي تفحصت كلّ جسدها من رأسها حتى قدميها.
‘هل لأنّي أبدو سيئةً لهذه الدرجة؟’
كانت تبدو مهترئة؛ فكّت أسفل تنورتها ولفّت أكمامها، وكانت ملابسها متّسخة.
كانت تبدو فوضوية لدرجة أنّها لم تمانع أن تُبرّر نفسها، لكن أستان قطع كلامها أولاً.
“لماذا تبدين نحيفةً هكذا؟ هل تناولتِ طعامك؟”
“نعم، أكلت.”
“متى؟”
“هذا الصباح.”
“كم الساعة الآن؟ وهل تناولتِ الغداء؟”
“كنت أنوي الأكل بعد العمل.”
ابتسمت غلوريا بخجل.
راقبها أستان بعينين مليئتين بالاستياء.
كانت تحت عينيها هالاتٌ داكنة، وخدّها غائر كالمريض، وعلى عنقها كدمات.
لكنها ما زالت تبتسم وكأنَّ لا شيء حدث، وهذا لم يعجبه.
“هل أنتَ بخير؟ هل اعتنيت بجرحك؟ هل وضعت الدواء؟”
في خضم الحديث، أظهرت قلقها على الآخرين.
“سأذهب لأجمع الغسيل فقط، انتظرني قليلاً.”
“كفى.”
مسك أستان معصم غلوريا عندما حاولت حمل الغسيل.
كانت يداها ناعمتين كالطفل، لكنّ يدا أستان كانت خشنة كقشرة الشجر.
“كفى، عودي إلى الداخل.”
“الآن؟”
“لقد فعلتِ ما يكفي.”
“لكن هناك الكثير من الأعمال…”
“سيدتي، أيمكنني التحدّث؟”
تغيّر نظر أستان إلى الصوت.
اقترب رجلٌ لم يره من قبل، كان يمشي على عكاز.
“اسمي آرثر راندل.”
كان هو آرثر راندل.
سمع أستان عن قصته عبر ألونسو، فخفّف من حذره.
“ما الأمر؟”
“أردت فقط أن أشكرك.”
“تشكر؟”
“أنقذتِ حياتي، سيدي. وسمعت أنَّ الدوق أقام جنازةً كريمة لزوجتي.”
كان الرجل فاقدًا ساقه من تحت الركبة، وكان يتوكّل على العكاز.
انحنى بعمق شاكرًا.
“شكرًا لك، بفضلك ستتمكن زوجتي من الراحة بسلام.”
“كـ سيد الأرض، سأكافئ شجاعتك. إذا احتجت إلى شيء، تعال متى شئت.”
ربت أستان على كتف آرثر مشجعًا إيّاه.
ثمّ استدار راندل، وجاءت امرأةٌ أخرى، والدة إيي.
ارتسمت على وجه أستان تعابير متجهمة، تذكّر ذكرى غير سارة.
لكن المرأة اقتربت منه وقدّمت اعتذارًا غير متوقّع.
“أعتذر عن المرة السابقة، سيدي.”
“……”
“لقد كنتُ وقحةً، ولم أُدرك كم كنتَ تبذل من الجهد من أجلنا…”
تابعت المرأة متلعثمة.
“لن أنسى هذه النعمة حتى موتي.”
“……”
نظر أستان إليها بدهشة.
رأى الطفل الصغير يلتصق بساق أمه مبتسمًا بسعادة.
أدار وجهه محمرًا، ونظرت إليه غلوريا بابتسامة دافئة.
“لقد أخبرتك، سأنجح.”
***
في ظهر ذلك اليوم، استسلمت غلوريا لإصرار أستان وغادرت المعبد.
كان يثقل قلبها ترك كلّ هذا العمل المكدّس، لكن الكاهن ودّعها بابتسامة.
“لقد تعبتِ كثيرًا.”
“آسفة لأنّي لم أتمكّن من المساعدة أكثر.”
“لا، لقد فعلتِ ما يكفي.”
ابتسم الكاهن وأعطاها تمثال الحاكم الذي رأته في الغرفة.
“ربّما لا يكفي مقابلًا، لكنّها هديّةٌ مني لكِ.”
“لماذا لي…؟”
“الحاكم سيحميكِ.”
ترددت غلوريا قليلاً ثم قبلت التمثال.
بعد الوداع، توجهت إلى العربة.
حشد من الناس احتشدوا حولها.
“شكرًا على كل ما فعلتِ.”
“شكرًا لمساعدتكِ.”
حتى الذين كانوا يتجاهلونها سابقًا قدّموا تحياتهم، فامتلأت عيناها بالدموع.
اقتربت من إيي الذي كان متشبثة بطرف تنورة أمّه، وانحنت.
“إيي، اعتنِ بصحتك.”
“نعم، آنستي.”
هزّ الطفل رأسه بخجل وكأنّه حزين على الوداع.
عانقته غلوريا بشدّة، ثم ودّعت الجميع.
“كونوا بخير جميعًا.”
“احذري في طريقك، آنستي.”
تردّدت في الرحيل لبعض الوقت قبل أن تركب العربة.
أغلق أستان باب العربة، ثم بدأ لوغان تحريكها ببطء.
وكأنِّ العربة تفهم مشاعر الحزن، فقد خرجت من المعبد بسرعةٍ بطيئة.
مدّت غلوريا وجهها خارج النافذة لتنظر إلى الناس، ثم عندما اختفى المعبد عن الأنظار، اتكأت على المقعد.
رأى أستان وجهها المتعب وفتح فمه بالكلام.
“أنتِ متعبة، خذي قسطًا من الراحة.”
“أنا بخير. لستُ متعبة… ليس تمامًا، لكنّنا التقينا بعد فترةٍ طويلة.”
في الحقيقة، كان جسدها يؤلمها، وجائعة، وحرّها النعاس بشدّة.
“لا تضغطي على نفسكِ، نامي. لا أريد أن تمرضي.”
“حسنًا… أيقظني عندما نصل.”
أغمضت عينيها بتذمر.
بعد وقتٍ قصير، انخفض رأسها ببطء.
نظر إليها أستان وهو يضع رأسها على النافذة، ثم انتقل إلى الجانب الآخر ووضعها برفق على ركبته.
نظر إلى وجهها النحيل، ومدّ يده بحذر ليمشط شعرها المتناثر.
‘رغم كل التعب، تتمسّك بإرادتها بعنادٍ لا مبرر له.’
“لكنكِ نجحتِ.”
وضع شفتيه بهدوء على جبينها ثم ابتعدا.
‘شكرًا لكِ، أيّتها الصغيرة.’
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 24"