الفصل 19 :
“يا سيّد الكاهن، تفضّل من هذه الجهة من فضلك!”
“آه، أرجو المعذرة.”
على صوتٍ عاجلٍ لم يتمكّن الكاهن من إنهاء حديثه، فاندفع بين الحشود.
كان هناك عددٌ كبيرٌ من الجرحى الذين يحتاجون إلى العناية، ولم يكن ثَمَّة وقتٌ كافٍ لتبادل الأحاديث.
رغم وجود بعض من بقيَ في المعبد مِمَن خرجوا لمساعدة الآخرين، إلا أنَّ عددهم لم يكن كافيًا مقارنةً بعدد المصابين.
وفوق ذلك، لم يكن هناك سوى كاهنٍ واحدٍ يبدو أنّه يملك معرفةً طبية، ولذا لم تكن الأمور تسير دون أن تمرّ عبر يديه.
نظر أَسْتان بعنايةٍ إلى أنحاء المعبد.
رائحة الدم كانت قويّةً لدرجةٍ تُلهب الأنف، ومع ذلك لم يكن هناك ما يكفي من الدواء أو الضمادات، ولا حتى البطانيات لتغطية المرضى.
حتى لو أرسلوا الآن لطلب الإمدادات من مقاطعةٍ أخرى، فلن تصل قبل ظهر الغد.
وكان الأطفال، على وجه الخصوص، هم من يبدون في أسوأ حال.
أطفالٌ تَعرّضوا لبيئةٍ لا يستطيع حتى البالغون احتمالها، وها هم يُتركون في الزوايا يرتجفون من البرد.
“أمِّي… أمِّييي…”
طفلٌ صغيرٌ بملابس النوم كان يبكي مناديًا أمَّه.
إلى جواره، كانت امرأةٌ شاحبة الوجه تعتني برجلٍ مصاب.
الرجل الذي يبدو أنّه زوجها كان فاقدًا للوعي، والمرأة كانت منشغلةً به لدرجة أنّها لم تستطع حتى الاهتمام بالطفل.
أَستان، وهو يُراقب الطفل المرتجف، خلع عباءته وناولها للطفل، وفي تلك اللحظة…
“لا تلمس ابني!”
دفعت المرأة أَستان بعيدًا وهي تحتضن طفلها.
انطلق صوتها كصرخةٍ مدوّيةٍ يتردّد صداها في المكان.
أَستان، الذي التقت عيناه بعينيها الممتلئتين رعبًا، لم يستطع حتى أن يسحب يده.
“بدا لي أنَّ الطفل يشعر بالبرد، ففكّرت أن—”
“لسنا بحاجةٍ إلى شيءٍ منك! كلّ هذا بسببك!”
في عيني المرأة، حلّ مكان الخوف شعورٌ بالكراهية.
“كلّه بسببك! لو لم تكن موجودًا، لما حصل هذا أبدًا!”
كانت تعرف تمامًا من الذي تصبّ عليه غضبها، ومع ذلك لم تتوقّف. بل لعلّها لم تتوقّف تحديدًا لأنّها تعرفه.
“اخرج من هنا فورًا! ولا تجلب علينا تلك اللعنة اللعينة!”
“هيه! أليس في كلامك قسوةٌ زائدة؟!”
صرخ لوغان وتقدّم غاضبًا، لكنّ المرأة ارتجفت من حجمه الكبير واحتضنت طفلها بقوّةٍ أكبر.
“توقّف، لوغان.”
قال أَستان بصوتٍ خافتٍ وهو يمنعه. نظر لوغان نحوه وهو يلهث من الغضب، لكن أَستان هزّ رأسه ببطء.
تراجع لوغان بخطواتٍ متثاقلة.
“…..”
كانت عشرات العيون المليئة بالحقد مسلّطةً على أَستان.
كما لو أنّه كان أكثر رعبًا من أنقاض البيوت المنهارة أو حتى السيكون نفسه.
تلقّى أَستان الكراهية الكثيفة الصامتة وكأنّها تخترق صدره، ثمّ قال ببرود:
“يبدو أنَّ من الأفضل أن أختفي من هنا.”
همس بذلك بصوتٍ مريرٍ وهو يستدير مغادرًا.
***
تابعت غلوريا بعينيها أَستان وهو يخرج من المعبد.
وما إن غاب عن الأنظار، حتى عاد الأنين ليملأ أرجاء المعبد وكأنّه يُعيد الناس إلى واقعهم.
ذلك التناقض لم تستطع غلوريا أن تفهمه أبدًا.
هل عاش حياته دومًا تحت هذه النظرات؟
حتى مجرّد المشاهدة من بعيد كانت مرهقة، فكيف يكون الأمر بالنّسبة له؟
“سيّدي الدوق.”
عندما همّت بالخروج خلفه، أوقفها أحدهم. كان الكاهن الذي رأته قبل قليل.
“من الأفضل أن تتركيه وحيدًا لبعض الوقت.”
قال الكاهن بلطفٍ وهو يمنعها. غلوريا، التي تردّدت عاجزة عن فعل شيء، سألت بصوتٍ يوشك على البكاء:
“لماذا يُحمِّلونه كلّ هذا اللوم؟”
“لأنّ هذه هي مسؤوليّته التي عليه أن يتحمّلها.”
“لا أفهم. صحيح أنَّ ظهور السيكون كان أمرًا مؤسفًا، لكن هذا لا يعني أنّه خطؤه.”
“كلامكِ صحيحٌ منطقًا. ولكن سيّد الدوق…”
“لقد لُعن من السيكون، أعلم هذا. لكنّ اللعنة تخصّه هو فقط، وليست قدرةً تمكّنه من التحكّم بالسيكون. أنت تعرف هذا أيضًا، أليس كذلك؟”
اهتزّ صوتها وهي تنطق بذلك. الكاهن هزّ رأسه بأسى.
“ليس كلّ الناس عقلانيّين بهذا الشكل.”
“…..”
“كلّ ما يحدث في الإقليم هو من مسؤوليّة السيد، سواء كان أمرًا حسنًا أو سيّئًا.”
“لكن هذا لا يُبرّر كلّ هذا اللوم. لا يمكنه أن يمنع حتّى سقوط الثلج، أليس كذلك؟”
أجابته بجديّةٍ تامة، فظلّ الكاهن يُحدّق فيها صامتًا.
ثم، بعد لحظات من الصمت المثقل، غيّر الكاهن الموضوع فجأة:
“هل تعلمين يا آنسة أيُّ حاكمٍ يُعبَد في هذا المعبد؟”
“نعم؟ لا…”
تفاجأت غلوريا بالسؤال، وأخذت تُمعن النظر في المعبد من حولها. والحقّ أنّه لم يكن يشبه المعابد التقليديّة.
المكان مطليٌّ باللون الرماديّ، ولا توجد أيُّ صورٍ مقدّسة أو تماثيل.
“هذا المعبد مخصَّصٌ لعبادة حاكم السيكون.”
“حاكم… السيكون؟”
اتّسعت عينا غلوريا بدهشة. فلم تكن تتوقّع ذلك أبدًا.
منذ أن وحّد الإمبراطور الأول القارّة، حظر رسميًّا كلّ الأنشطة الدينيّة.
فقد اتُّهِم الكهنة بأنّهم خدعوا الناس باسم الحاكم وحرّضوا على الحروب.
وبسبب القمع الشديد من البلاط الإمبراطوري، أُغلقت معظم المعابد في أنحاء الإمبراطوريّة، ولم يبقَ منها سوى القليل.
فكيف يوجد معبدٌ لحاكم السيكون؟
رأى الكاهن الدهشة في وجهها، فأضاف:
“أحيانًا، يلجأ الناس إلى عبادة ما يخيفهم، كي يستطيعوا التغلّب عليه.”
“لكن في هذه الحالة، أليس من المفترض أن يعبدوا الدوق أيضًا؟”
“العبادة لا تكون إلّا لما لا تستطيعين رؤيته بعينيك.”
عضّت غلوريا شفتها السفلى.
“إذا كانوا خائفين لهذا الحدّ، فلماذا لا يرحلون؟ لماذا لا يتركون المكان؟”
“ليس من السهل التخلّي عن الأرض التي عاشت فيها عائلتكِ لأجيال.”
“إذاً، هل سيظلّ الدوق يتلقّى هذا اللوم إلى الأبد؟”
“لم أقصد هذا.”
هزّ الكاهن رأسه وقال:
“أنا أعلم جيّدًا أنّه رجلٌ صالح. حتّى أنّه لم يُدمّر هذا المعبد رغم أنّه يعبُد السيكون.”
“لكنّ الآخرين لا يعرفون هذا.”
“ولهذا السبب نحن بشر. نُلقي اللوم على الآخرين كي نبقى على قيد الحياة، مثلما فعل الإمبراطور حين أباد السيكون.”
ظهرت ابتسامةٌ وديعة على وجه الكاهن الطيّب.
لم تكن غلوريا متأكّدةً إن كانت قد فهمت كلّ ما قاله، لكنّها شعرت أنّه كان يحاول مواساتها، وهذا وحده جعلها تسأله بحزن:
“هل يمكننا تغيير هذه النظرة؟”
“لن يكون الأمر سهلًا.”
“لكنّه ممكن، أليس كذلك؟”
“لو كان الحاكم يتحدّث، لقال لكِ نعم.”
“سيّدي الكاهن!”
ارتفع صوتٌ ينادي الكاهن من مكانٍ ما، فالتفت الرجل نحوه.
“اذهبي الآن. على الأرجح احترقت نصف السيجار في يده.”
***
خرج أَستان من المعبد وأشعل سيجارًا.
كان الجوّ باردًا لدرجة أنَّ التنفّس نفسه كان مؤلمًا.
حدّق في الدخان المتصاعد نحو السماء، ثمّ خفّض رأسه ببطء.
كان عليّ أن أُوكل الأمر لكولين…
ظننتُ أنّه من واجبي أن أحضر بنفسي، بما أنَّ ما حدث وقع في إقليمي… لكن بعد رؤية ردّة فعل الناس، يبدو أنّني كنتُ مخطئًا.
كان معتادًا على نظرات الناس له كما لو كان وحشًا، لذا لم يكن يتأثّر بسهولة، لكنّ الأجواء المشحونة ازدادت سوءًا، فشعر بمرارةٍ في فمه.
“…سيّدي الدوق.”
وما زاده سوءًا، هو الصوت القادم من خلفه.
لكي لا تظهر عليه علامات الاضطراب، أطفأ السيجار بقدمه ببطء، ثم استدار بهدوء.
وجهه، الذي كان شاحبًا دومًا، بدا أكثر بهوتًا اليوم.
“سأطلب عربةً لتُعِيدكِ إلى القصر.”
“لا.”
أجابت بصرامة وهي تتقدّم نحوه.
“أريد أن أبقى معك.”
“ولماذا؟ لن تُفيديني بشيء.”
“لكن يمكنني مواساتك.”
مواساة؟ هذا كلامٌ سهلٌ أكثر من اللازم.
ضحك أَستان ساخرًا.
“هؤلاء الناس… لن يُصغوا إلى أيِّ شيءٍ الآن.”
“أنا لا أتحدّث عنهم. أتحدّث عنك.”
نظرت إليه بعينيها الزرقاوين مباشرةً.
كان في نظرتها إصرارٌ يخترق أعماقه، فأشاح ببصره من دون أن يدري.
لكن غلوريا، دون تردّد، أمسكت يده المتجمّدة بيدها البيضاء المتشقّقة.
كانت يدها صغيرةً ودافئة، رغم أنّها كانت ترتجف من البرد.
“هذا ليس خطأك، سيّدي الدوق.”
“…..”
“أنت تعلم ذلك، أليس كذلك؟ حين تحدث كارثةٌ كهذه، يحتاج الناس إلى شخصٍ يُحمِّلونه اللوم. ولسوء الحظ، كنتَ أنتَ هذا الشخص.”
كان صوتها رقيقًا، لكنّه ارتجف وكأنّه سيبكي.
ليست مشكلتها، ومع ذلك…
نظر إلى عينيها الممتلئتين بالعاطفة، فلم يستطع إلّا أن يبتسم بمرارة.
“يا لكِ من فتاةٍ متعجرفة، يا آنسة صغيرة.”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 19"