الفصل 18 :
كانت العربة التي تُقلُّ أربعة أشخاصٍ تشقُّ طريقها عبر حقلٍ مكسوٍّ بالثلوج.
كان لوغان، الجالس على مقعد السائق، يُهوِي بالسّوط مرارًا وتكرارًا. بسبب الثّلج الذي تراكم مؤخرًا ثم تماسكَ على شكل جليد، أصبح الطريق زلقًا، فلم تتمكّن العربة من اكتساب السّرعة المطلوبة.
كانت غلوريا تُنصت إلى لهاث الخيول المُنهكة من جرّ العربة، فيما نظرت إلى معصمها بنظرة قلقة.
كان موضع السّوار يؤلمها بشكلٍ خفيف منذ قليل، وكأنّه ينبض بوخزٍ غير مريح.
قال صوتٌ بارد كسر صمت الرحلة.
“ألم أقل إنّه لا داعي لأن تتبعينا، يا آنسة صغيرة؟”
ظنّت غلوريا لوهلةٍ أنّه قد لاحظ توتّرها، فأجابت بمرحٍ مصطنع لتخفي قلقها.
“قد أكون نافعةً في شيء، من يدري؟”
“وماذا لو حدث أمرٌ خطير؟”
“أنا ذاهبةٌ مع الدّوق، فماذا يُمكن أن يحدث؟”
“وهذا هو مصدر القلق بالضبط… لا، انسِي الأمر.”
انتهى أستان من حديثه ووجّه نظره مجدّدًا إلى خارج نافذة العربة.
وقد بدا واضحًا أنّه لا يرغب في مواصلة الكلام، فلم تُلحّ غلوريا بالسؤال.
رغم أنَّ جراحه لم تلتئم بعد، ها هو في طريقه إلى السيكون مرّةً أخرى.
تصرّف وكأنّه بخير، لكن الجروح التي تُخفيها الضّمادات لا تزال مروّعة.
وإن واجه السيكون بهذا الحال، فلا يمكن لأحد أن يضمن سلامته، حتى لو كان أستان بنفسه.
راحت تلمس سوارها بقلق، عندما غطّت يدٌ كبيرة ظهر يدها برفق.
ثمّ سأل أستان، دون أن يبدو عليه أيُّ انفعال، وهو يُخاطب كولين الجالس مقابله.
“قلتَ إنّه واحدٌ فقط، أليس كذلك؟”
“هكذا سمعت.”
“ولا نعرف مدى الأضرار بعد؟”
“نعم.”
أومأ كولين برأسه وقد بدا وجهه شاحبًا.
“أظنّ أنّنا وضعنا حواجز حول أطراف القرية… من أين دخل؟”
“لا نعلم بالضّبط، ولكن يبدو أنَّ كثافة الثّلوج هذا الشّتاء قد أثّرت…”
أطرق كبيرُ الخدم برأسه وكأنَّ الذّنب ذنبه.
كثيرًا ما كانت الحواجز تتضرّر بسبب الثّلوج، وحتى مع وجود الحواجز، لم يكن بالإمكان صدّ السيكون بالكامل.
لكن إن لحق الضرر بالسكّان بسبب السيكون، فالمسؤوليّة الكاملة ستقع على عاتق أستان.
فتحت غلوريا فمها متردّدة وسألت بحذر:
“هل يظهر السيكون كثيرًا داخل القرية؟”
“عادةً ما يظهر بالقرب من القلعة، لكن أحيانًا ينزل إلى القرى.”
“وهل أهل القرية مستعدّون لذلك؟”
“لديهم بعض التعليمات الأساسيّة… ولكن في مثل هذه المواقف المفاجئة، يصعب التّعامل معها.”
اسودّ وجه غلوريا من هذه الإجابة القاتمة.
وشدّت اليد التي كانت تغطّي يدها وكأنّها تُطمئنها.
ثمّ همس صوتٌ منخفض في أذنها.
“فقط، لا تبتعدي عنّي.”
“…حسنًا.”
***
وصلت العربة التي غادرت القصر إلى القرية بعد مضيّ ساعتين من الانطلاق.
ومجرّد أن دخلوا أطراف القرية، خيّم جوٌّ من الفوضى.
“من الأفضل أن نترجّل ونتابع سيرًا على الأقدام.”
كان أستان قد قرّر ذلك بعد أن رأى أنَّ دخول العربة إلى وسط هذه الفوضى سيُزيد الطين بلّة.
كانت القرية في حالةٍ يُرثى لها، حتّى أنّه كان من الصّعب معرفة مكان الحادث بسبب الدّمار الذي عمّ.
كانت الأسواق في حالة فوضى عارمة، لدرجةٍ يصعب فيها العثور على متجرٍ سليم.
“هذا…”
كانت هناك قطعةٌ تشبه لحم السيكون ملقاةٌ في وسط الطريق.
تك، فكّ أستان قفل السّوار تحسُّبًا لأيِّ طارئ.
كان هناك دخانٌ يتصاعد من وسط البلدة، ولم يُعرف إن كان بسبب حريق أو للتّدفئة.
اتّجه أستان نحو مصدر الدّخان بخطًى سريعة.
“ساعدونا هنا، أرجوكم!”
“أين الطبيب؟ هل من طبيب؟”
“ما الأمر؟ أنتم هنا لتتفرجوا؟! ادخلوا إلى منازلكم فورًا!”
كلّما توغّلوا في داخل القرية، بدا الذُّعر أكبر، حتّى بين من اعتادوا على ظهور السيكون.
ما رآه الأربعة عند وصولهم إلى موقع الحادث كان مروّعًا.
أربعة منازل خشبيّة ضخمة كانت قد دُمّرت بالكامل، والأرض ملطّخة بالدّماء.
وكانت جثث الضّحايا ممدّدةً جنبًا إلى جنب، مغطّاة بقماشٍ أحمر منقوع بالدّم.
“الوضع أسوأ ممّا توقّعت.”
قال لوغان وهو يشهَر سيفه تحسّبًا لأيِّ خطر.
بين المنازل المُدمّرة، كان الأثاث مبعثرًا في كلّ مكان.
أغمضت غلوريا عينيها وهي تحدّق في دميةٍ قديمة مُلقاةٍ على الأرض المُوحِلة.
وبينما كانت نظراتٌ حذرة تُراقبهم، تقدّم كولين وسأل:
“من المسؤول هنا؟”
“أنا المسؤول.”
أجاب رجلٌ كان يُحاول تنظيم الفوضى، وتوقّف عن عمله حين رأى المجموعة.
“جئنا بناءً على بلاغٍ من القصر.”
نظر الرّجل إليهم بارتياب، لكنّه انحنى بمجرد أن رأى لباس أستان.
“اسمي ألونسو.”
كان رجلاً ضخمًا كلوغان، وملامحه تُظهر الإرهاق الشديد.
“ما الذي حدث بالضّبط؟”
“في الصّباح الباكر، مع أوّل ضوء للفجر، سمعنا صراخًا. خرجنا على عَجَل لنجد السيكون يهاجم النّاس.”
تابع الرّجل بوجهٍ كالح:
“يبدو أنّه اخترق الحاجز من الجهة الشماليّة وهاجم بعض المنازل، ثمّ نزل إلى البلدة. لم يكن لدينا وقتٌ كافٍ للتّعامل مع الموقف.”
نظر إلى الجثث وأكمل:
“استطعنا القضاء عليه بصعوبة، لكن الأضرار كانت فادحة.”
“ما حجم الخسائر؟”
“أربعة قتلى، وستّة جرحى بإصاباتٍ بالغة. وعدّة منازل مهدّمة. أما الخسائر البسيطة، فلم نتمكّن من إحصائها بعد.”
أشار ألونسو إلى الأشجار الكبيرة التي اقتلعها السيكون وسقطت على المنازل، ما جعل عمليّة التّرميم أكثر صعوبة.
“وأين السيكون الآن؟”
“في هذا الاتّجاه.”
قادهم إلى جثّة السيكون.
وقد كانت مليئةً بالكدمات والجروح، دلالةً على معركةٍ شرسة.
تفحّصه أستان بعناية، ولاحظ أنّه كان أصغر حجمًا من السيكون العاديّ، تمامًا كما كان الحال في الحادثة السابقة.
“وهل كان واحدًا فقط؟”
“ما تمّ تأكيده حتّى الآن، نعم. لكنّنا عزّزنا الحراسة على الحواجز تحسُّبًا لوجود غيره.”
“حسنًا. وأين الجرحى؟”
“الذين أُصيبوا بجروحٍ بالغة، وكذلك الأطفال، نُقلوا إلى المعبد.”
“إلى المعبد… فهمت.”
نظر كولين إلى أستان.
“هل تمّ وضع خُطّةٍ للتّعامل مع الوضع؟”
“ما زلنا نُحصي الأضرار، فلا يمكنني تحديد ذلك الآن. سنبدأ بمعالجة الجرحى أولاً، ثم نقرّر باقي التّفاصيل.”
“إن كنتم بحاجة لأيِّ مساعدة، فلا تتردّدوا في طلبها.”
“شكرًا جزيلًا.”
انحنى ألونسو باحترام.
راقبت غلوريا الحديث، ثم نظرت إلى أستان.
رغم أنَّ ملامحه كانت مُتحطّمة، إلّا أنّه ظلّ صامتًا ولم يتدخّل بالكلام.
لماذا؟
لم تُتح لها فرصة التّفكير كثيرًا، إذ اقترب منها كولين وقال:
“الخسائر كبيرة، ولا توجد خطّةٌ حتى الآن، فقط تمّ نقل الجرحى إلى المعبد.”
“فهمت… كولين، ساعدهم أنت ولوغان هنا. أمّا أنا، فسأتوجّه إلى المعبد.”
***
كان المعبد يقع في أطراف دوقيّة شولتسمير.
نظرت غلوريا إلى المبنى الضّخم. رغم أنّه بدا قديمًا، إلّا أنَّ عظمته ما زالت واضحة.
من داخل المعبد المفتوح، انبعثت أصوات أنين الجرحى.
ربت أستان على ظهرها المُتوتّر، ثم تقدّم بخطًى واثقة.
سارت خلفه، متردّدة، ودخلت إلى المعبد.
كان الدّاخل مختلفًا تمامًا عن الفوضى في البلدة، فقد بدا كأنّه صورة من الجحيم.
الألم، الخوف، الفوضى… كلّها تجمّعت بين الجدران العالية.
لم ينتبه النّاس كثيرًا لوجودهما، فقد كانت الأزمة شديدة.
اقترب منهما رجل يرتدي زيّ الكهنة وسأل بلطف:
“عذرًا، من أنتما؟”
“أنا أستان فون شولتسمير.”
“أهلاً وسهلاً، سموّ الدّوق.”
انحنى الرجل باحترام، وفجأةً خيّم صمت ثقيل على المكان.
نظراتٌ مليئة بالحذر، بل بالحقد، تركّزت على أستان.
توتّرت غلوريا لا إراديًّا أمام هذه الكراهيّة الصّارخة.
قال أستان بهدوء:
“جئتُ لأرى إن كنتُ أستطيع المساعدة.”
“شكرًا على اهتمامك، سموّ الدّوق.”
“ما الذي تحتاجونه الآن بشكلٍ عاجل؟”
“نُعاني من نقصٍ في الأيدي العاملة، وعدد المصابين بإصاباتٍ خطيرة كبير، فنحن بحاجة إلى طبيب.”
“سأتواصل مع القصر لإرسال من يُساعد. كما سأتحقّق من إمكانية استقدام أطباء من الإقطاعيات المجاورة.”
“شكرًا جزيلًا لكم.”
انحنى الكاهن مرّة أخرى.
وفيما كانت غلوريا تُحدّق في ملابسه المُلطّخة بالدماء، رفع الرجل رأسه فجأة.
وحين تلاقت أعينهما، بدا وكأنَّ بريقًا عاد إلى عينيه المُتعبتين.
ما هذا؟ هل ارتكبتُ خطأً ما؟
شعرت بثقل نظرته الحادّة، ثم فتح فمه قائلًا:
“هل يُمكن أنّكِ…؟”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 18"