لم ينطق بايك إيهيون بكلمة. كانت عيناه الداكنتان تحدِّق فيّ من علٍ بصمت مطبق.
لم أشيح بصري عن تلك النظرة المألوفة الغريبة معاً، بل رفعت رأسي لأواجهه مباشرة. خفق قلبي باضطراب، وامتزج الشوق بالخوف حتى لم أعد أقف على حقيقة ما يعتمل في صدري.
وما لبث بايك إيهيون أن فتح فمه وقال:
“لِمَ تحمينِي؟”
لم أفهم عبارته إلا بعد لحظة. واحمرّ وجهي دفعة واحدة. مقارنة بما أعددتُ له من عزيمة جازمة، كان اكتشافه للأمر بهذه السهولة أمراً يبعث على الذهول.
ثم أدركت أن تلك المشاعر تسربت إلى وجهي كما هي.
“من ذا الذي يصدقك وأنت تقولين بأنك أسأتِ النظر، وملامحك بهذه الشفقة؟ لا أظن أن الخوف من الخداع قد دبّ فيك الآن، فما مرادك إذن؟”
“لا… لا توجد غاية، حقاً.”
“أتخشين أن يُنظر إليّ باعتباري غريباً أيضاً فتتزعزع مكانتي، إن ادّعيتِ أنك تعرفينني؟”
جاءت عبارته في الصميم، فعجزت عن الرد. مررتُ ظاهر يدي على خدي؛ كان ساخناً من الحرج.
“لقد احمرّ وجهك. أهو أيضاً جزء من التمثيل؟”
“ليس كذلك.”
خرجت كلماتي ببرود دون قصد.
“ولِمَ تحملين همّي؟ أهو ادّعاء بالاهتمام كي تبدين كالصديقة؟”
“ما دمتَ لن تصدق، فلا تسأل.”
ظل بايك إيهيون يحدّق بي قليلاً، ثم مدّ يده إلى الجانب. ارتجفتُ لا إرادياً. لكنه لم يمسّني؛ بل سحب درجاً حديدياً صغيراً وفتحه.
أخرج من داخله علبة صغيرة، وأخذ بوساطة أطراف أصابعه مقداراً وافراً من جلّ أزرق اللون. ثم جثا على ركبة واحدة وخفض جسده.
“قلتِ إنك قادرة على رؤية نافذة الحالة، أليس كذلك.”
وبينما لم أستوعب الموقف بعد، أمسك بايك إيهيون قدمي. أسند عقبها بكفه، وأخذ يدلك الجلّ على كاحلي.
وخز الألم في كاحلي فجأة، فقبضت ساقي بقوة. لكنه شدّ عليها فما تركني.
وبعد أن أنهى تدليك الكاحل الأول، أمسك الآخر.
“ولعلك تعلمين—وقد ذكرتِ ذلك—أن رؤية نافذة الحالة شأنٌ فريد. سنختبر صدق دعواك قريباً، وبناءً على النتيجة سيُبتّ في مصيرك. لذلك لن أتحدث هنا عن نافذة الحالة.”
سرت البرودة في كاحلي الذي كان يوجعني، وخفّ الألم حتى كاد يتلاشى. عندها فقط أدركت أن كاحلي ومعصمي كانا محمرّين. كانت آثار مقاومتي حين حاولوا رفعي إلى طاولة الفحص.
ظننت أنهم سيفتشون أحشائي، لكن ما عدا استبدال ثيابي بفستان أبيض رقيق، لم يظهر أي تغيير.
في ركن غير بعيد، كانت ملابسي المتسخة بالدم والقاذورات مطروحة في سلة المهملات. كانت ثيابي المنزلية، أو بالأدقّ: ثياب نومي.
كنت قد دخلت اللعبة من غرفتي، وفجأة لمع الضوء وفقدت الوعي، ثم أفاقت نفسي داخل البوابة.
“ما يشغلني الآن هو من يقف وراءك.”
وقف بايك إيهيون. أخذ مزيداً من الجلّ ثم أمسك بمعصمي. كانت يداه جافتين ناعمتين. وما إن امتص الجلّ حتى تلاشى الانتفاخ في معصمي كأنما أُزيح عنه بلمسة ساحر.
نظرت لا إلى معصمي، بل إلى يد بايك إيهيون التي تمسّه. وأجبت كمن يتمتم:
“لا أحد ورائي.”
“أشكّ في أنك جاسوسة، لما فيك من اختلاف عن سائر الغرباء.”
“لست أدري ما ‘الغرابة’ أصلاً. أتراك تقول إنني أتظاهر بصداقتك بالاتفاق مع أحد؟”
استبدّ بي العجب حتى لم أستطع الغضب. رفعت رأسي، مبعدة بصري عن يده التي تدلّك معصمي.
فإذا بصوت معدن ينغلق على معصمي. أردت النظر إليه، لكن بايك إيهيون سبقني بالكلام.
“لا صلة لك بالطائفة؟”
“الطائفة؟ وما ذاك؟”
لم يشرح. اكتفى بأن ثبت نظره عليّ.
“لا أعرف ما تقصده بالطائفة. أهي ديانة؟ أنا بلا دين.”
موروها. الله يصبرني
“الغرباء عادة يأتون موتى. أما أنتِ فقلتِ إنك فقدت الوعي فقط. العبور إلى هذا العالم دون موت مستحيل عادة.”
“أنا حقاً لا….”
توقفت. لم يكن الأمر بلا دلالة تماماً.
“لقد دعوت كل يوم.”
كنت يائسة. أريد رؤيته. أريد الرجوع عن تلك النهاية. ولو استطعت بيع روحي لأستعيد الزمن، لفعلت.
“دعوت، صحيح.”
انخفض صوتي. وقلت ببطء:
“دعوتت أن أراك. ولو في حلم. دعوت لك كل يوم. ولم أُرِد… لم أُرِد أن يكون اللقاء هكذا.”
ولم أنتبه إلا بعد أن فرغت من كلامي إلى أنني افترضته صديقاً لي.
لم أجد وقتاً لتصحيح الأمر، إذ ضاق صدري، ولم أشأ أن تظهر دموع عيني. جفّفت الرطوبة بسرعة، ورفعت رأسي.
خلف بايك إيهيون، في زاوية السقف، كان جهاز صغير يلمع فيه ضوء أحمر. بدت كاميرا مراقبة.
عدت أنظر إليه. لم أدر إن كان سيتيح لنا فرصة انفراد لاحقاً. أردت قطع الشك.
“أهي كاميرا مراقبة؟”
“نعم.”
“وتسجّل الصوت؟”
“إلى حدّ ما. لِمَ تسألين؟”
“لأن ثمّة ما لا ينبغي أن يسمعه أحد… تعال قليلاً…….”
أشرت له بيدي. لم يتحرك. ظل يحدّق بي.
ثار في صدري شيء ثقيل، وأحسست كم أبدو غبية وأنا أعامله كصديقٍ كل حين.
ثم فجأة انحنى بليونة لا تُصدَّق.
تدلّت ربطة من بزّته فانزلقت على كتفي، فحبست أنفاسي. حاولت إخفاء توتري، وأطبقت شفتيّ قريباً من أذنه وهمست:
“أتُجيد استعمال يدك اليسرى في القتال؟”
توقّف لحظة بلا أي رد فعل. رمش بعينيه وانسحب قليلاً ونظر إليّ.
“وما الذي تعنينه؟”
أشرت له أن يقترب مرة أخرى، لكنه استقام بدل ذلك. كأن لا حاجة للهمس بعد الآن.
نظرت إليه وقد ابتعد، فوضعت يدي على فمي وخفضت صوتي:
“حين تتصارع مع أحد… كنتَ تمسكه كي لا يسقط، رغم أن القواعد تمنع استخدام اليد….”
“لا مشكلة في ذلك.”
وهَنَت ركبتاي من الإحباط. كنت أتوقع ألا يكون هو، لكن خيبة الأمب كانت ثقيلة.
“ولِمَ تسألين هذا همساً؟”
“خشيت أن يكون ضعفاً.”
قلت بفتور:
“إنها عادة كان صديقي يحاول التخلص منها.”
كدت أبكي، فعضضت لساني. وبعد لحظة رفعت بصري.
تلاقت عينانا. كانت ملامحه ما تزال عصيّة على القراءة، لكنها كانت ملامح اشتقت إليها حدّ الوجع. لم أستطع منع نفسي من التحديق.
“الشبه… كبير جداً. هل يُعقَل ذلك؟ أهو شبيه من بُعدٍ آخر؟ أخبرني، منذ متى تملك ذاكرتك؟ لو كنت قد متَّ في عالمنا وجئت إلى هنا، ربما فقدت ذكرياتك، ونسيت عاداتك، لذلك لا تعرفني….”
تحرك بايك إيهيون. فأطبقت فمي، أرقبه وهو يجلس بقربي.
لامست ثنية ثوبه ركبتي. وفاحت منه رائحة الحديد والدم. فانقبض قلبي ثانية.
“ما الذي لديك أيضاً؟”
“ماذا؟”
“ما الذي تعرفينه عنّي؟ قولي المزيد.”
شعرت بشيء غير طبيعي. فلو حكيت له عن صديقي، فلن يكون لذلك أي معنى عنده.
وسرى بردٌ في ظهري، وفي اللحظة نفسها أحسست شيئاً حول معصمي.
نظرت. كان يمسك بمعصمي. وتحت يده الكبيرة ظهر معدن رفيع.
كان شيء معدنيّ قد أحكم على معصمي دون أن أشعر. حلقة فضية ناعمة لماعة.
لم أدرِ كيف ركّبها دون أن ألاحظ. فهكذا هو دائماً؛ يشغل بصرك حتى تغفل.
أدركت الحقيقة: لم يكن يرعاني، ولا يتحلّى باللين، ولا يصغي بنية حسنة؛ كان يختبرني طوال الوقت.
“لن يؤذيك. إنه للتأكد فحسب.”
“التأكد ممَّ؟”
مرّر أصابعه ببطء على سطح الحلقة المعدنية في معصمي، وعيناه لم تزغا عني.
وقال بصوت منخفض:
“قولي أهم معلومة تعرفينها عني.”
أهم معلومة.
حدّقت في وجهه. كان مطابقاً لصديقي حتى أمكنني استحضار الزمن كله دفعة واحدة.
الأيام التي عشناها، تتابع الفصول، والترابط المتين الذي بُني ببطء عبر السنين.
أهم معلومة. أيّها أختار؟
يوم التقينا. الحدث الذي وعينا فيه وجود بعضنا. كيف سكن معنا في البيت.
المدة التي احتاجها لينادي والديّ بـ‘أمي’ و‘أبي’. علاقتنا التي تراوحت بين أخوّة وصداقة.
التنمّر الذي لاقيته بسبب سكنه معنا. وجهه يوم دافع عني في المدرسة. كلماته حين تركت الرياضة.
ومن بين كل تلك الطبقات انتقيت واحدة.
“لقد أنقذتَ حياتي… ومِتَّ مكاني.”
مسح بايك إيهيون وجهي بنظره بعمق. ولبث يحدّق بإصرار كمن يترصّد أي ارتجاف.
ثم هبط بصره.
“لا برهان على كلامك. مشكلة….”
نظرت إلى الحلقة. لم تُصدر صوتاً ولا ضوءاً. كانت ساكنة. فقال بايك إيهيون وهو يتأملها:
“ولا برهان على أنك تكذبين.
ترجمة : Moroha
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"