2
:
:
“الساعة ١١:٣٠ مساء
حديقة جرونا لاند “
شعرت بتدفق الوعي يعود إليها ببطء، وهي لاتزال ممدة على أرضية صلبة وباردة.
فتحت عينيها بصعوبة رافعة بصرها إلى الأعلى كانت السماء فوقها تبدو كما كانت، والحديقة المحيطة بها بدت نفسها تماما . حدقت في التفاصيل من حولها كانت الألعاب المهجورة، الأراجيح الصدئة، والأشجار الداكنة حولها كلها تشيرإلى أنها لا تزال في حديقة الملاهي، وكأن ما حدث للتو لم يكن سوى حلم مخيف.
جلست على الأرض وحاولت استيعاب ما جرى، بينما عقلها يحاول جاهدًا إقناعها أن كل شيء كان وهمًا،
لربما حصل بسبب شعورها باليأس وتراكم الذكريات المريرة.
وقفت بتردد، تراقب المكان، تحاول التحقق إن كان هناك شيء مختلف أو دلالة على أن ما مرت به كان حقيقيًا.
ولكن كلما دققت النظر، بدا لها أن الأمور كانت أكثر غرابة، فالأصوات من حولها كانت أعمق وأثقل، وكأن الطبيعة نفسها تنبض بطريقة غير مألوفة. شعرت بريح باردة تمر من بين الأشجار، لكنها لم تكن كأي ريح تعرفها
سارت بخطوات بطيئة بين الألعاب، وصلت إلى لعبة الحصان الدوّار تلك لللعبة التي تتذكرها جيدًا، لامست إحدى الخيول الخشبية بيدها، وشعرت بملمسها الخشن. لكن، فجأة، شعرت ببرودة غريبة تتسلل من الخشب إلى جلدها، وكأن اللعبة تُحيطها بهالة خفية.
بدأ الخوف يتسرب إلى قلبها، إذ بدت لها الحديقة مألوفة ولكن بروح أخرى، تقدمت نحو مخرج الحديقة، تسرع خطاها، لكنها وجدت أن البوابة كانت مغلقة بإحكام، غير قابلة للفتح، وكأنها محاصرة داخل هذا المكان.
وفجأة، قطع سكون المكان صوت خطوات خلفها. التفتت ببطء، وقلبها يخفق بشدة، لترى مجموعة من ثلاث رجال طوال و ضخام البنية أعينهم تلمع بلمعة ذهبية مخيفة
وعلى وجههم ارتسمت ابتسامة خبيثة تُظهر نواياهم الواضحة.
تقدم أحدهم نحوها، ونظر إليها نظرة متفحصة ثم قال بنبرة ساخرة
-ياللروعة من كان يتوقع ان نتلقي بفتاة جميلة في مكان كهذا ..
ما ان حاولت الفرار حتى اقترب منها آخر ممسك بذراعها جاعل منها تصرخ بشده طالبة النجدة
– أين تظنين انك ذاهبة ؟ لاداعي للخوف نحن فقط سنمرح قليلا معك
كانت تقاوم بشدة و صرخاتها قوية، حادة ومذعورة، صدى صوتها في أرجاء مدينة الملاهي المهجورة ..
ثم وبدون سابق إنذار، ظهر من العدم شخص طويل القامة، غامض الحضور. بدا كأنه خرج من بين الظلال نفسها. كان يرتدي جينزًا أسود وسترة جلدية داكنة تلتف حوله كدرع
شعره الأسود الامع يتمايل مع كل حركة خفيفة، و عيناه الذهبيتين تشعان بنظرات واثقة ..
– ما الذي يحدث هنا؟
صدح صوته الجهوري، قوياً وواضحًا، يخترق صمت المكان، محدثًا رجفة في قلوب الرجال المحيطين بها. بهدوء التفت الجميع نحوه، وأعينهم تترقبه بحذر .
تراجع الرجال خطوة إلى الوراء، غير قادرين على مقاومة الهالة القوية التي أحاطت به، ورغم تفوقهم العددي ، بدأ وكأن حضوره قد أضعف عزيمتهم… بشكل يأس حاولوا أظهار الثبات ، محدقين في عينيه اللتين كانتا تشعان بالهيمنة و النفوذ الواضحين .
أما هو، فما إن استقرت عيناه على الفتاة حتى تغيرت تعابير وجهه تدريجياً من الصرامة إلى الصدمة، وكأن شبحًا من الماضي قد تجسد أمامه. تسمرت نظراته على ملامحها، وشحبت بشرته قليلاً، بينما همس بصوت بالكاد يسمع ..
-أ…أنجيلكا ؟!!!
حين تسلل إلى سمعها ماخرج صادما من بين شفتيه، شعرت برجفة مفاجئة تسري في جسدها، من هذا الغريب ؟ومن يكون؟ وكيف يعرف اسمها؟
رغم خوفها الذي تزايد، شعرت بشيءٍ خفيٍ بداخلها يطمئنها بأنه لن يؤذيها، بطريقة ما كان الأمر غريزي … وبشكل مفزع أصبحت تستشعر بقوته وسلطته الحامية تزحف نحوها …
جمعت ما تبقى لها من شجاعة، وحاولت أن تسيطر على ارتعاش صوتها، لم تكن تمتلك الوقت الكافي للتفكير وشعورها الملح بكونه من سينقذها جعلها بديهيا تدعي أنها على معرفة به بالفعل
أخذت نفساً عميقاً قبل أن ترفع ذقنها بثقة مصطنعه. ثم قالت بصوت خائف ونبرة معاتبة ..
-أ… أخي اخيرا ظهرت! لما تركتني أنتظر هنا وحدي في هذا المكان المخيف! ألا تعلم كم كنت قلقة ..وخائفة ؟!
كانت يد الرجل تشدّ عليها بقوة، ، وبل مقابل استجمعت ماتبقى لها من طاقة وأفلتت يدها منه، قبل أن تندفع راكضة نحو الغريب صاحب النظرة الحادة . اختبأت خلفه ، تحاول أن تخفي جسدها الصغير وراء قامته الطويلة، وللحظة شعرت بأنها في مكان آمن، رغم غرابة الموقف.
رفعت وجهها نحوه، محاولَة أن تتماسك، لكنها لم تستطع إخفاء الارتجاف في صوتها وهي تتحدث ..
-هؤلاء الرجال… يحاولون إيذائي… أرجوك، ساعدني في التخلص منهم .
ما ان التفت اليها حتى بدت ملامحها أكثر وضوحًا تحت ضوء القمر الباهت تملّكته دهشة صامتة بينما حدّق فيها وكأن الزمن قد توقف ..
شعر بالجفاف في حلقه، عاجزًا عن استيعاب أن من يقف خلفه هي حقًا “إنجيلكا”، أو على الأقل، نسخة منها تكاد تُطابقها.
لكنّ ذهوله لم يدم طويلًا؛ إذ تحسس يدها وهي تشدّ قبضتها على سترته الجلدية، ونبضات خوفها تتصاعد وكأنها نبضاته. تسلّل ذلك الخوف كتيارٍ خفيّ إلى داخله، وأيقظ في روحه شيئًا مظلمًا، خامدًا منذ زمن.
بدأت عيناه تظلمان شيئًا فشيئًا، واستدار ليواجه الرجال بنظرة قاتلة، كأنما يتحدّاهم بصمت…
و الشرر يتطاير من عينه الذهبيتان تحدث بصوت واثق تخلّله تهديدٌ صريح ووعيد بالعواقب..
-هذه الحديقة، رغم كونها مهجورة، إلا أنها لا تزال تنتمي إلى عائلة جيرالد. ومع ذلك، تجرأتم على التسلل إلى هذه الملكية الخاصة، ولم تكتفوا بذلك، بل تجاوزتم الحدود بمحاولة التحرش بأختي الصغرى. هل أنتم مستعدون لمواجهة عواقب جرائمكم؟ التسلل، والعبث بالممتلكات، والتحرش بقاصر… لا أعتقد أن الأمور ستمرّ بسلام. وكونكم على مواجهة مع أحد أفراد عائلة جيرالد، فهذا يعني أنكم بالفعل وضعتم أنفسكم في مأزق لن يكون الخروج منه بالأمر السهل
صوته القوي، الحازم، تردّد في المكان، وكأن كل كلمة كانت تثقل كاهل الرجال أكثر.
لم يغب عليه ارتباكهم وتململهم، وهم يحاولون جاهدين إخفاء خوفهم خلف ابتسامات واهية. تحدّث أحدهم بصوت متردد، محاولاً تغيير نبرة التوتر إلى شيء من الود المصطنع، قائلاً:
“أوه، لقد… لم نكن نقصد أي إزعاج، صدقني. نحن هنا فقط لاستكشاف المكان، باعتباره مهجوراً. نحب المغامرة، هذا كل ما في الأمر. وعندما رأينا هذه الفتاة وحدها، ظننا أنها ضلت طريقها وأردنا… أردنا مساعدتها، لا أكثر.”
لكن الكلمات كانت تتساقط خالية من أي مصداقية. كانت نظراتهم القلقة، وتوتحركاتهم، كلها تخون محاولاتهم اليائسة لتبرير الموقف..
اخذ نفسًا عميقًا، محاولًا تهدئة الغضب الذي اشتعل في عروقه، وحدّق فيهم بنظرة غاضبة . كانت يد إنجيلكا متشبثة بذراعه، ونبضاتها المتسارعة تصل إليه كأنها نداء للاستعجال في إنهاء هذا الوضع. أدرك أن تصعيد المواجهة ليس الخيار المناسب الآن، خاصةً بوجودها هنا، خائفة ومذعورة.
استقام بكتفيه ورفع رأسه ثم تابع بنبرة صارمة ..
-أضن أنكم قد انتهيتم من مغامرتكم هنا. هذه الملكية ليست للعبث أو المغامرات الطائشة. الآن، غادروا قبل أن أغير رأيي وأتخذ إجراءات لا تعجبكم
بدت كلماته قاطعة كالسيف، تشق طريقها عبر الأجواء كتحذيرٍ أخير. لم يكن هناك مجال للجدل أو التفاوض، فقد عرفوا أن وجودهم هنا أصبح خطيرًا عليهم. تراصّوا لبعضهم البعض قبل أن يتراجعوا خطوة بخطوة، ثم استداروا سريعًا واندفعوا مبتعدين عن المكان
تركهم يرحلون دون أن يلتفت إليهم، وما لبث ان شعر بارتخاء جسدها عندما تلاشوا تمامًا عن الأنظار.
::
::
ما أن أختفوا من أمامهم حتى أطلق زفيرًا ثقيلًا، وكأن الأجواء المحمومة التي أحاطت به قد بدأت تهدأ. لكن سرعان ما عادت ملامحه لتتجهم، وأدار رأسه ببطء لينظر إلى الفتاة التي ما زالت متشبثة به.
لم يكن الغضب الذي يملأه موجهًا نحو أولئك الحمقى فقط، بل امتد ليشمل هذه الفتاة الغريبة. كيف تجرأت على التجول وحدها في مكان مهجور ومخيف كهذا؟ وفي مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ ألا تدرك مدى خطورة الموقف الذي وضعت نفسها فيه؟
نظر إليها بعينين باردتين وملامح جامدة، قبل أن يتحدث بنبرة منخفضة ولكنها مشحونة بالاستياء..
-ما الذي كنتِ تفكرين به؟ أن تأتي إلى هنا وحدكِ، في منتصف الليل، وفي هذا المكان ؟ هل لديكِ أدنى فكرة عن حجم الخطر الذي كنتِ فيه؟؟
كانت نبرته حادة كالسوط، لكنها لم تكن تخلو من القلق الذي حاول إخفاءه. أخذ خطوة للخلف، محاولًا تحرير ذراعه من قبضتها، لكنه لاحظ أنها لم تتحرك، بل كانت تنظر إليه بخوفٍ واضح، وكأنها لا تزال تعاني من صدمة ما حدث.
تنهد بعمق، ثم قال بصوت أكثر هدوءًا، ولكن لا يزال يحمل صرامة
-أريد إجابة الآن. من أنتِ؟ ولماذا كنتِ هنا بمفردكِ
تراجعت أنفاسها المتقطعة شيئًا فشيئًا، لكنها ما زالت تشعر بأن الأرض تهتز تحت قدميها. كل شيء حدث بسرعة شديدة، حتى أنها بالكاد تستطيع فهم ما وقع عليها. رفعت عينيها إليه، لكنها لم تستطع أن تتفوه بكلمة
مالذي تستطيع ذكره ان كانت هي نفسها لاتكاد تستوعب ما حصل لاتعلم من أين تبدأ وأين تنتهي هل ياترى تخبره أنها هربت من المنزل؟ أو تتحدث عن البوابة التي ظهرت فجأة وسحبتها إلى هنا؟ كيف تقول له ذلك إذ كانت غير متأكدة إن كان ما عاشته مجرد أوهام أو حقيقة غامضة.
فتحت شفتيها لتتكلم، لكن الكلمات علقت في حلقها، وكأن كل محاولاتها للتعبير تختفي قبل أن تخرج. وبصعوبه ، قالت بصوت متقطع، أشبه بالهمس..
-أنا… لا أعلم. لم أكن أقصد… فقط وجدت نفسي هنا. لا أعرف كيف…
وبصوت مهزوز، يكاد لا يُسمع، تابعت :
– أنا اود ان أشكرك … لمساعدتك شكرا جزيلا ..و أنا أعتذر… اعتذر بشدة على الإزعاج الذي سببته لك … صدقني أنا ايضاً لم اكن اقصد التطفل على ملكيتكم الخاصه ارجوك سامحني. … و… أنا… يجب علي أن أعود إلى المنزل الآن. لقد تأخرت كثيرًا، …ومن المؤكد أن والديَّ قلقان…
حين سمع اعتذارها، ظل صامتًا للحظة، عينيه تراقبانها بعناية. كان واضحًا أن ما مرت به اليوم لم يكن أمرًا عاديًا، وأنها كانت تكافح لإخفاء خوفها وارتباكها.
تنهد بخفة، مخففًا من حدة نظراته. لم يكن يريد الضغط عليها أكثر. ومع ذلك، لم يكن بوسعه أن يدعها تذهب بمفردها في هذا الوقت المتأخر.
بصوت هادئ وواثق قال:
-أفهم أنكِ ترغبين في العودة إلى منزلك، لكن… لا يمكنكِ أن تذهبي وحدك في هذا الوقت. الليل ليس آمنًا، خاصةً بعد ما حدث هنا لذلك اسمحي لي بمرافقتك .
حين طلب منها مرافقته، شعرت إنجيلكا بارتباك متزايد. وسؤال ظل يطن في عقلها بلا إجابة: من هذا الرجل ؟وكيف يعرف اسمي؟
أرادت فقط الابتعاد من هنا، أن تنسى كل ما حدث، أن تعود إلى حياتها الطبيعية. وان تنسى كل ماحدث اليوم
لقد كان مامرت به كثير عليها هذه الهالة المخيفة وتلك الأعين الذهبية كل ذلك يثقل كاهل أفكارها ، ما ان رفعت رأسها نحوه حتى تجمدت ملامحها وشعرت ببرودة تغمر جسدها ، وكأن الدم قد انسحب فجأة من عروقها عينيه كيف لقد تحولت من الذهبي الحاد إلى الأزرق المشع تراجعت خطوة إلى الوراء، محاولَةً التماسك رغم رعشة الخوف التي زحفت إلى أطرافها.
حاولت أن تتحدث، لكن كلماتها خرجت متقطعة..
-لا… لا داعي لذلك. أستطيع العودة وحدي. أنا … حقا بخير
لكنه لم يتحرك قيد أنملة، وكأنه كان يقرأ ما بين السطور في صوتها المرتبك. بنبرة هادئة لكنها حازمة، قال:
-لن يكون هذا خيارًا. العالم في الليل ليس آمنًا، خاصة لشخص تعرض لما مررتِ به.
هزت رأسها بسرعة، محاولَةً تجنب نظراته التي تشعرها وكأنها مكشوفة بالكامل. حاولت أن تجد عذرًا مقنعًا، ثم قالت بخجل:
-أمي… أمي لن تكون سعيدة إذا رأتني أعود في هذا الوقت مع… مع رجل غريب.
رغم كلماتها، لم يظهر عليه أي تردد. رفع حاجبه وكأنه يفكر للحظة، ثم رد بهدوء، بنبرة أكثر إقناعًا:
-لن أقترب من مسكنك. كل ما أريده هو أن أتأكد من أنكِ وصلتِ بأمان. يمكنني الوقوف بعيدًا، أراقبك فقط إلى ان تدخلين منزلك.
كانت ملامحه حادة لكنها خالية من التهديد .. شعرت للحظة أنه بالفعل لن يؤذيها رغم هالته المخيفة المنبعثة من حوله فقد حملت معها شيئًا آخر… قلقًا، أو ربما فضولًا غامضًا.
بالنسبة له، كان قرار مرافقته لها لا يتعلق فقط بحمايتها. كان عليه أن يعرف. من هي هذه الفتاة؟ كيف تبدو مألوفة إلى هذا الحد؟ هل هي حقيقة أم مجرد شبح عاد ليطارده؟
شعرت إنجيلكا بترددها يتلاشى أمام إصراره، لكنها أبقت مسافة بينهما وهي تومئ بخفة، وتقول بصوت خافت:
-حسنًا… لكن لا تقترب كثيرًا، فقط حتى أكون قريبة من المنزل
أومأ برأسه موافقًا ،ثم بدأ الاثنان بالسير معًا، بين صمت ثقيل وأسئلة لم يجرؤ أي منهما على طرحها…
:
:
سار الاثنان بخطوات بطيئة وسط الهدوء المشحون بالتوتر، كانت إنجيلكا تتبعه بصمت، مترددة في النظر إليه أو التحدث. أفكارها تتشابك حول ما حدث.
بينما كان يقودها نحو مخرج آخر، لم تستطع منع عينيها من العودة إلى الباب الذي دخلت منه. كانت تذكر جيدًا كيف كانت احد أبوابه مكسورة مايسمح لها بالدخول بسهولة ، لكن أبوابه الآن بحالة جيدة ومغلقة بسلاسل ثقيلة تبدو وكأنها موضوعة هنا منذ سنوات.
همست لنفسها بصوت بالكاد يُسمع:
– غريب … أنا متأكدة لم تكن هذه السلاسل هنا من قبل..
التفت إليها عندما لاحظ توقفها المفاجئ، وعينيه الزرقاوتين تلتمعان في العتمة.
– هل هناك شيء
هزت رأسها بتوتر، ثم حاولت تبرير أفكارها بصوت مهتز:
– لا… لا شيء… فقط… هذا الباب… لم يكن مغلقًا هكذا عندما دخلت.
توقف فجأة، ونظر إليها بتمعن، وكأن كلماتها حملت شيئًا أكبر مما يستطيع تفسيره. حدّق في عينيها للحظة، ثم عاد بنظره إلى الخلف وهو يجيب بنبرة منخفضة لكنها محملة بشيء من الشك:
– مستحيل… هذه السلاسل لم تُفتح منذ سنوات. إنها صدئة لدرجة أنه لا يمكن فكها بسهولة.
شعرت برعشة تسري في جسدها. هل ما رأته وتعيشه الآن حقيقي أم مجرد وهم؟ لم تستطع الإجابة على هذا السؤال، لكن ما كان يزيد ارتباكها هو يقينه بثبات هذه التفاصيل، وكأنه يعرف هذا المكان أكثر مما تعرفه هي.
سألها بنبرة حذرة:
– هل أنت متأكدة أنك دخلت من الباب الرئيسي؟
رفعت رأسها ونظرت إليه، عيناها تحملان خليطًا من الخوف والتشويش، لكنها أجابت بثقة مهزوزة:
– نعم … أنا متأكدة من ذلك .. لا اعرف أصلا مدخل آخر غير هذا الباب ..
عاود النظر إليها بصمت، وكأن هناك كلمات كثيرة تدور في رأسه لكنه لا يستطيع صياغتها. من تكون هذه الفتاة؟ وكيف يمكن لتصرفاتها ان تزداد غرابة مع كل موقف ، الفضول نحوها كاد يقتله يريد أن يسألها عن كل شئ ، لكن شيئًا ما في تعابير وجهها المذعورة ،والقلقة جعله يتراجع عن ذلك
قال أخيرًا بنبرة هادئة، لكنه لم يستطع إخفاء ارتباكه:
– حسنا لا داعي للقلق بشأنه ربما بطريقة ما اختلط الأمر عليك جراء كل ما حصل … على كل حال المخرج الآخر قريب من هنا بل كدنا نصل اليه
تبعته إنجيلكا، لكنها لم تستطع منع نفسها من الالتفات نحو الباب الذي تركته خلفها. كان شعورًا قويًا بداخلها، وكأنها خرجت للتو من كابوس، لكنها لم تستيقظ بعد.
حين وصلا إلى دراجته النارية اللامعة، توقفت إنجيلكا في مكانها تحدق فيها بتوتر. راقب حركاتها المترددة … ومع ذلك اخذ الخوذة بيده ومدها نحوها بنظرة واثقة، وكأنه يأمرها بركوب الدراجة.
قال بهدوء لكن بنبرة لا تحتمل النقاش:
-ارتديها. سأوصلكِ للمنزل بسرعة.
تراجعت خطوة للوراء ورفعت يديها وكأنها تحاول إبعاد الفكرة تمامًا:
-لا، لا داعي لذلك! حقًا، منزلي قريب جدًا. أستطيع الوصول إليه مشيًا… لا أريد أن أزعجك أكثر.
كانت كلماتها تحمل أكثر من مجرد رفض بسيط. كان هناك مزيج من الحرج والخوف في صوتها، لكنه لمح أيضًا نفحة من العناد. حدّق فيها للحظات بصمت، ثم أنزل الخوذة ببطء … قال أخيرًا، بعد أن أطلق تنهيدة ثقيلة تدل على ضجره:
– حسنًا، إذا كنتِ تصرين على ذلك… سنكمل طريقنا سيرا على الأقدام
– أخبرتك لا داعي لهذا أيضًا أنا بخير وحدي … اقسم لك المنزل على بعد خطوات من هنا ..
لكنه قاطعها بحدة لطيفة:
– إن كان منزلكِ قريبًا كما تقولين، فلن يأخذ الأمر وقتًا طويلًا. ولن أترككِ تتجولين وحدكِ في هذا المكان.
شعرت بالحرج من إصراره، لكنها لم تجد حجة أخرى. استسلمت للأمر، وبدأ الاثنان يسيران في الطريق.
:
مع كل خطوة يخطوها الاثنان، شعرت إنجيلكا وكأن الأرض من تحتها تفقد ثباتها. مشاعر متضاربة بدأت تتلاعب بها، خليط من الخوف والتشوش، وكأن شيئًا ما داخلها يحاول فهم الواقع الذي وجدت نفسها فيه.
عيناها لم تتوقفا عن التجول، تتفحص كل زاوية من المكان. هذا الشارع… هل يبدو مألوفًا؟ أو ربما لا؟ الحديقة الصغيرة التي مرا بها… لا، لم تكن كذلك. تأملت الأراجيح الصدئة المتمايلة بفعل الرياح، متيقنة أن هذه الحديقة لم تكن تملك هذا الشكل من قبل.
أفكارها بدأت تزداد جنونًا. هل فقدت ذاكرتها؟ ربما ما حدث لها تسبب بنوع من الصدمة جعلها تتخيل أمورًا غير موجودة. لكنها متأكدة من شيء واحد… الأشجار الطويلة التي تصطف بجانب الشارع المقابل، لم تكن هنا. كانت تقطع هذا الطريق يوميًا في حياتها السابقة، وهي تحفظ أدق تفاصيله.
لم تنبس ببنت شفة طوال الطريق، لكنها لم تستطع إخفاء توترها. كانت عيناها تتحركان بلا توقف، تتفحصان كل زاوية وكأنها تبحث عن شيء لتتمسك به، ومع كل هذا الارتباك كل ما استطاعت فعله هو الدعاء بصمت، “رجاءً… فقط دعني أجد منزلي في نهاية هذا الشارع. وبعدها، لأيهم ما كان قد حل بي … المهم الان أن أعود إلى بيتي “
اماً الرجل الذي كان يسير إلى جانبها بصمت، لم تغب عنه نظراتها الحائرة وتلفتها المستمر بخوف. كان يراقبها من طرف عينه، متسائلًا عما يدور في رأسها، لكنه قرر ألا يضغط عليها الآن. شيء ما في تصرفاتها أخبره أن الحديث لن يفضي إلى شيء في هذه اللحظة.
كانت خطواتهما تكسر صمت الليل، لكن فجأة توقفت إنجيلكا في مكانها وكأن قدّميها قد التصقتا بالأرض.
كانت تنظر نحو المنزل الذي يُفترض أنه منزلها. نفس الشكل، نفس التصميم، لكنه بدا وكأنه خرج من كابوس. الجدران التي كانت تعج بالحياة تبدو الآن متشققة، والسقف مائل كأنه على وشك السقوط. النوافذ مظلمة ومحطمة، والأعشاب البرية غطّت الحديقة الأمامية التي كانت مُرتبة يومًا ما.
نظرت إليه بعينين متسعتين، غير مصدقة لما تراه
-لا… هذا غير ممكن … ماهذا الذي يحدث هنا … تمتمت بصوت متهدج.
بحذر وخوف، تقدمت نحو الباب الأمامي، يدها ترتجف وهي تمدها نحو المقبض. لكن ما وجدته جعل قلبها يغرق أكثر في دوامة الذعر. الباب كان موصدًا بقفل كبير و صدأ ، عُلقت عليها لافتة تحذيرية مائلة جراء كونها أصبحت مثبته من جهه واحده وقد كتب عليها بخط بات باهتا
(منوع الدخول خطر انهيار)
عندما رأى ملامح المنزل رفع الآخر حاجبة بدهشة
-هل هذا… هو منزلك ؟!!
سأل بصوت منخفض، لكنه لم يتلقَ جوابًا منها.
حيث ان الطفلة التي كانت تحدق شاخصا في القفل على الباب غير مصدقة ماترى .. بل تشعر وكأنها داخل كابوس يجب عليها الاستيقاظ منه الآن… ظل عقلها في الوقت نفسه يصرخ بالأسئلة المنهمرة دفعة واحدة … كيف هذا ؟ متى حصل ذلك ؟ و لماذا يبدو هكذا؟” تقدمت خطوة أخرى، ويديها ترتجفان، وكأن محاولة فتح هذا الباب بالقوة هي نقطة نجاتها من هذا الوضع .
حاول الرجل الواقف خلفها البقاء هادئاً ، لكن أفكاره كانت تدور كإعصار. منذ البداية، كان يعرف أن هذه الفتاة ليست طبيعية. لا توجد فتاة عاقلة ستتجول بمفردها في مكان مهجور في منتصف الليل.
وبعدها جاءت تصرفاتها خلال الطريق … نظراتها المذعورة التي لم تهدأ للحظة، وتلفتها المستمر ، تمتمها الغير مفهومة والتي بالكاد استطاع التقاطها.
ثم ماذا ؟!!! الآن .. تقف أمام منزل مهجور واضح أنه لم يُسكن منذ سنوات، مدعية أنه كان منزلها!
لم يعد يستطيع تمالك اعصابه وبخفة خطا خطوة نحوها، ويده امتدت بغير وعي نحو ذراعها، وهو يوشك على إمساكها بقوة لإجبارها على الاعتراف. “من أنت؟ شبح؟ أم حقيقة ؟؟ أم مجرد فتاة مجنونة تتلاعب بي ؟! “
كانت هذه الأسئلة تحوم في ذهنه، وكان على وشك النطق بها.
لكن ما إن لمسها حتى تسمر مكانه.
إنجيلكا، التي كانت تحدق بمنزلها المهدم والمهجور وكأنها ترى وهما ، بدأت تتحطم أمام عينيه. تنفسها أصبح متقطعًا، وكأن الهواء يهرب منها. وجهها تحول إلى الأزرق، والدموع كانت تسيل على خديها بلا توقف.
كانت هذه القشة الأخيرة.
بدأت تهتز وكأن جسدها لم يعد قادرًا على حملها، ثم فجأة، وكأنها هلام بلا حياة، انهارت بين يديه.
– يافتاة صرخ ، بصوت مشحون بالقلق والارتباك. ركع على الأرض ممسكًا بها، محاولًا هزها بلطف لإيقاظها.
– أفيقي! لا يمكنك أن تفقدي الوعي هنا!….
لكن لا جواب. وجهها كان شاحبًا كالموتى، وعيناها مغمضتان وكأنها قد تخلت عن القتال.
في هذا الموقف لم يجد حل غير حملها بين ذراعيه قاصدا المستشفى.. لكن ولوهلة توقف قليلا لايعرف لماذا لكن ما ان حملها حتى شعر برغبة فضيعة ببقائها إلى جانبه … في النهاية وبشكل متهور قرر اخذها إلى المنزل و ثم الاتصال بطبيب العائلة للكشف على حالتها ومعالجتها .. تحت ناظريه.
التعليقات