الفصل 9 :
“يسرُّني أنّكِ تذكّرتِني.”
رمقَتْه أُورورا بنظرةٍ خفيفةٍ حادّة بينما كان يضحك ضحكة خافتة مرِحة، ثمّ تنهدت.
أن ينسى المرء رجلاً تسلّل إلى غرفة فتاة مخطوبة حديثًا، لولا أنّه سِحر لكان مجرّد غباء.
لكن أُورورا تصرّفت بحكمة، فاكتفت بالتراجع إلى خلف فيليكس ملتزمة بآداب السيدة النبيلة، وامتنعت عن الرد.
“ارفعي رأسكِ. يُسمح لكِ بالكلام. — اليوم زيارة غير رسمية.”
“معذرةً على تطفّلي… لقد غيّرتَ لون عينيك، أليس كذلك؟”
“إن كنتُ سأخرج بشكل غير رسمي، فلا بدّ من تغيير لون عينيّ، أليس كذلك؟ أعجبني اللون الرمادي. اسمي في الخارج هو ‘إيريك’.”
عندما ابتسم إيريك ورفع طرف فمه بابتسامة واسعة، لم يكن بوسع أُورورا إلا أن تشعر بالإرهاق.
في مملكة وِلبام، تُعدّ العيون البنفسجية النقيّة التي لا يمتلكها البشر دليلاً على الانتماء للعائلة المالكة.
الأطفال الذين ينحدرون من العائلة المالكة ضمن الدرجة الثالثة من القرابة يُجرى لهم طقس خاص في اليوم السابع من ولادتهم، حيث يُغيّر لون عيونهم بالسحر.
ويُقال إنّ هذا الطقس يمنح العيون البنفسجية النقيّة كلّما كان دم الملك القديم أكثر نقاءً في الطفل.
عيون إيريك كانت من اللون البنفسجي العميق النادر حتى بين أفراد العائلة المالكة،وهذا دليل قاطع على أنّه من السلالة الملكية المباشرة، بل ومن ذوي الدماء النقية.
ولم يكن من المقرّر أن يحضر من العائلة المالكة اليوم سوى شخص واحد.
“…أرجو أن تغفر لي جهلي بمظهر سموّكم، صاحب السموّ وليّ العهد.”
لم يكن بالإمكان أن يكون هذا الرجل سوى صاحب السموّ تيكستاس، وليّ عهد مملكة وِلبام، الذي عبّر عن رغبته في رؤية تطريز أُورورا.
*
“يبدو أنّي جعلتكم تنتظرون طويلاً… أعتذر.”
تحت الشجرة العتيقة الواقعة في عمق ساحة التدريب، جلس وليّ العهد إلى طاولةٍ نُصبت هناك، ومعه نائب قائد الحرس الملكي، وهو أيضًا أخوه في الرضاعة ومرافقه الشخصي، فيليكس، وريث عائلة مركيز وفارس سحري، وخطيبته أُورورا التي تهوى التطريز.
‘تشكيلة غريبة’، همست أُورورا في سرّها.
فرغم أنّ اللقاء غير رسمي، إلا أنّ خلف وليّ العهد وقف عددٌ من الحراس والخدم، مما زاد من رهبة الجو.
‘هل سبق وأن أُحيطتُ بهذا العدد من الرجال؟’
من جانبها، شعرت أُورورا بقطرات العرق البارد من نظرات فيليكس المتسائلة: ‘متى وأين قابلتِ سموّه؟’
ومن الأمام، هزّتها نظرات فاحصة لا تخفي فضولها، وكأنّها تنظر إلى مخلوق نادر، أما من الجانب الآخر، فكانت هناك نظرة طفلٍ مبتهجٍ بلعبةٍ جديدة، جعلت أُورورا تغتاظ.
ورغم كل ذلك، فقد جلست بهدوء دون أن تُظهر شيئًا.
“حين أخبرتكِ أنني ‘ساحر’ لم أكذب. أنا قبل أن أكون وليّ العهد، أنا ساحر.
وبينما أقوم بمهامي كوليّ عهد، أتابع أبحاثي في السحر كذلك.”
“قد سمعتُ بعض الإشاعات.”
“هاها، لعلّك تقصدين إشاعة ‘أمير الساحرات’؟ رغم أنّي لستُ ساحرة بالطبع. لقد كنتُ منذ أيام دراستي أبحث في السحر القديم، وأسعى لاكتشاف مصادره في كلّ مكان. وذات يوم، التقطتُ من منديلٍ كان أحد مرؤوسيّ يحمله طاقة سحرية تشبه الطاقة القديمة. — أحضِروا متعلقات الآنسة بورتا.”
“لم تكن هناك أيّ مشاكل.”
“ضعوها هنا.”
سُلّمت سلّة أُورورا التي كانت قد تركتها عند النزول من العربة، ويبدو أنّها خضعت لفحصٍ دقيقٍ للغاية.
تنهدت أُورورا بارتياح، ثمّ مدّت يدها نحو السلّة.
بالرغم من أنّها تحتوي على أدوات حادّة كالإبر والمقص،
إلا أنّ تفتيش أدوات التطريز التي تعتبرها كروحها كان مزعجًا لها.
لكن في القصر الملكي، أيّ تذمّر قد يُعدّ إساءة أو يُفسَّر كنيةٍ سيئةٍ تُفضي لتُهمة خيانة.
فوقفت أُورورا، اعتذرت عن وقوفها المفاجئ أمام سموّه، ثمّ بدأت تفرغ السلّة بيديها.
منديل من الكتّان لم يُطرّز بعد.
منديل نصف مطرّز.
منديل اكتمل تطريزه.
علبة الإبر والمقص، طارة التطريز.
خيوط استخدمتها في الخياطة، وأخرى لم تُستخدم.
ربطة عنق خاطتها لأخيها.
قطعة حرير زيّنت بها زينة شعر والدتها.
شريط كانت قد طرزته لنفسها عندما كانت طفلة.
“هنا تجدون ملخّصًا يحتوي على أغراض كل قطعة، وتاريخ صنعها، ومصدر المواد والأدوات. تفضّلوا، يمكنكم النظر فيها بحرية.”
أخرجت أُورورا الأوراق التي كانت في أسفل السلّة، وسلّمتها لأخ وليّ العهد الذي كان يبتسم بخبث إلى جانبه.
ثمّ جلست وهي تشعر بالإرهاق، لتشعر بذراع فيليكس تدعم ظهرها الخفيف الميل.
“— تينس، هذا سيء. لعلّها أكثر كفاءة من بعض الموظفين.”
“من النوع الأكاديمي كما يبدو. تشبهك كثيرًا، يا هذا.”
تفاجأت أُورورا من تعليقات أخ وليّ العهد الوقحة، بينما كان وليّ العهد يضحك قائلاً إنّه بمثابة أخٍ له، ثمّ مدّ يده بحماس إلى أدوات التطريز الصغيرة أمامه، كأنّ يده تُشعّ ببريقٍ بنفسجيّ ناعم يشبه توهّج خرز زجاجي مطليّ من الداخل.
“…أوه؟ هه… هاه؟ ما هذا…؟”
كان وجه وليّ العهد متوردًا بفرحٍ طفوليّ وهو يتفحّص القطع أمامه، فاستحضرت أُورورا ملامح أخيها.
كان أخوها كذلك من النوع الأكاديمي، رجلٌ ذكيّ تخرّج من أعلى مؤسسة تعليمية.
وكان أوّل ما أشعل حبّه للعلم، هدية تلقّاها من جدّه في طفولته: كرة سماوية.
“هل لي برؤية المنديل الذي مسحتِ به دم وجه فيليكس قبل قليل؟”
“…رغم أنّه ملوثٌ بالدم، إلّا أنّه هذا هو.”
“أشكركِ.”
‘صاحب السموّ الآن يُشبه أخي تمامًا عندما كان صغيرًا.’
أن تحمل هذه المشاعر الطفولية تجاه شخصٍ من طبقة أعلى بكثير من أخيها، أمرٌ لم تكن تتوقعه.
وراحت تنظر إليه بلطف، وهو يتفحّص كل قطعة تطريز بفرح، يتلمسها، ويتأملها، وينفث فيها شيئًا من السحر.
“آنسة بورتا، ما الذي كنتِ تفكرين فيه أثناء تطريزكِ لهذه القطع؟”
“…أثناء التطريز؟”
رفعت أُورورا رأسها باستغراب من سؤال وليّ العهد.
“لا أذكر… أظنّني كنتُ أطْرِز بلا تفكير.”
“هل كنتِ تعرفين لمن ستُعطينها قبل البدء بالتطريز؟”
“ما هو موجود هنا، نعم. لكن أحيانًا أطْرِز للتسلية، ثمّ أمنح القطعة لاحقًا إن طُلِبَت.”
لم تَقُل: “أليس هذا أمرًا بديهيًّا؟”، بل أجابت أُورورا بكلّ بساطة.
رغم أنّها من بنات العائلات النّبيلة، فإنّ التّطريز كان هوايةً لأُورورا، لا مهنة.
لم تكُن تُطْرِز من أجل أن يشتري أحدهم ما صنعت، ولم تكُن تستقبل الطّلبات.
كانت تُطْرِز حينما ترغب، وللتّسلية، وعندما تتبادر إلى ذهنها فكرة ما، تُطْرِزها.
كانت تُطْرِز كهديّة أو تحيّة لشخص ما، أو لأجل عائلتها وأصدقائها أو نفسها.
ومع ذلك، كان من حولها يرون أنّ مهارتها تفوق مهارة الحرفيّين، حتى أنّ البعض يطلب منها أن تُهديهم تطريزاتها، رغم كونها لم تُصنع لغرضٍ محدّد.
ومع ذلك، فليس هذا بالأمر الغريب بالنّسبة للفتيات الماهرات في التّطريز، وليس حكرًا على أُورورا.
فأُورورا نفسها حين كانت صغيرة، حصلت على تطريز لإحدى النّبيلات المشهورات بذلك، واستخدمته بدلًا من كتابٍ للتّعلُّم.
كما أنّها ما تزال تحتفظ بمنديلٍ مُطرَّز بالزّهور، أهدته لها خالتها التي تُجيد التّطريز الجميل.
“ألستِ ساحرة؟”
“لقد فحصتني زوجةُ كونت السّحر، وقالت إنّني لا أمتلك ما يكفي من القوّة السّحريّة لأكون ساحرة. لكن قواي ليست معدومة تمامًا أيضًا.”
“طالما أنّ ‘ساحرة القمر المُظلم’ هي من قالت ذلك، فلا شكّ في صحّته. … همم.”
أمال وليّ العهد رأسه وهو يُعيد تتبُّع التّطريزات واحدةً تلو الأخرى.
فانبعث من بين راحة يده والتّطريزات ضوءٌ خافتٌ لطيف، يتلألأ ببطء.
“… باختصار، من بين هذه التّطريزات، وحدها تلك التي تحتوي على التايل، والحرير، والشّريط، ومنديل فيليكس، هي ما حُفِرَ فيها سحرٌ قديم — أو بعبارةٍ أخرى، ‘تعويذة’.”
“‘تعويذة’؟”
اتّسعت أعين كلٍّ من أُورورا، وفيليكس، وأخِ وليّ العهد من الرّضاعة، سينتنس.
واصل وليّ العهد حديثه بوجهٍ جاد:
“هي مثل ‘تعويذة النّجاح في الحب’ التي تستخدمها الفتيات، أو ‘تعويذة الطّقس’ التي يُصلّي بها الأطفال للسماء قلقًا من طقس الغد — هي من نفس النّوع في الأساس.”
“… أليست ‘التّعويذات’ مجرّد وسيلةٍ للتّخفيف عن النّفس؟”
“عادةً ما تكون كذلك، لكن في حالات نادرة، يوجد أشخاص يمتلكون جسدًا يمكنه صبّ القوّة السّحريّة في ‘التّعويذة’. — ومن هنا بدأت السّحرة.”
تألقت عينا وليّ العهد البنفسجيّتان بوميضٍ غريب.
فرفعت أُورورا صوتها دون قصد: “هاه”، بطريقةٍ قد تُعدّ غير مؤدّبة.
بينما أصبح وجه فيليكس خاليًا من أيّ تعبير، وتنهّد سينتنس قائلًا: “آه”.
“السّبب في أنّ ‘التّعويذة’ أصبحت تُعرف كتعويذة، هو أنّها، رغم ندرتها، كانت تُحدث أثرًا. وكان هناك أشخاص يستطيعون بالفعل إلقاء تعويذات فعّالة. هؤلاء النّاس بدؤوا تدريجيًّا يعملون في مجالات مثل ‘التّعويذات’ و’التّنجيم’ و’تركيب الأدوية’. ومع توارث هذه الطّرق، وُلدت ‘السّاحرة’. ثمّ، حين أصبح بالإمكان ‘تعلُّم’ هذه المعارف، وُجد ‘السّحر’، وبعد أن أصبح السّحر يُدرّس بنظامٍ علميّ، نشأ ‘علم السّحر’. — أي أنّ هذه التّطريزات تحتوي على قوّةٍ تسبق وجود السّحر نفسه…”
“تـــــوقّف! الحديث سيطول، أليس كذلك!؟ سيطول حتمًا!!”
قاطعه سينتنس بصوتٍ عالٍ وهو يشعّ بالحماسة وكأنّه أستاذ جامعة يُلقي محاضرة.
همست أُورورا وقد ارتبكت، بينما اقترب فيليكس بعينين نصف مغلقتين وهمس بصوتٍ خافت:
(‘حين يتعلّق الأمر بالسّحر، فإنّ وليّ العهد يُطيل الحديث جدًّا.’)
(‘… على ما يبدو.’)
“ما بك يا تِنس؟! كان هذا هو الجزء الممتع،”
“اقطع الحديث! ادخل في صُلب الموضوع! إلى متى ستُبقي الآنسة النّبيلة في ساحة التّدريب؟!”
“على الأقل دعني أتحدّث عن أهمّيّة هذا البحث،”
“سيحين الغد قبل أن تنتهي!!”
(بالمناسبة، ما قاله للتّو ليس مبالغة.)
(…………… يا له من أمرٍ عظيم.)
“لا بأس. … لنُجمل الحديث إذًا.”
دون أن يُعير نظرات أخيه من الرّضاعة التي تكاد تنفجر غضبًا أيّ اهتمام، هزّ وليّ العهد كتفيه وكأنّه يقول “لا حيلة في الأمر”، وبدأ يلخّص حديثه.
وقد بدا على أُورورا ارتياحٌ واضح، لا يُمكن لأحد أن يلومها عليه.
أمّا فيليكس، فقد ازدادت مشاعره بالاحترام نحو هذا الرّئيس المهيب، ولم يكُن ذلك بالأمر القابل للتّجنُّب.
“التايل يحتوي على تعويذة ‘الشّفاء’. الحرير والشّريط يحتويان على تعويذة ‘الجاذبيّة’. والمنديل يحتوي على تعويذة ‘الحماية’. والأرجح أنّ الآنسة بورتا غرست تلك التّعويذات دون وعي، حين كانت تُفكّر في الأشخاص الذين سيستخدمون تلك الأشياء.”
تبادل كلٌّ من أُورورا وفيليكس النّظر بشكلٍ عفويّ.
فأُورورا ليست ساحرة، بل فيليكس هو السّاحر.
وما يشعر به فيليكس من قوّةٍ سحريّة في أُورورا، لا يرقى لأن تكون ساحرة.
فحتى بعد تدريبٍ طويل، لن تتمكّن سوى من استخدام أبسط أنواع السّحر.
“شقيق الآنسة بورتا هو لومينوكس إيل ري=بورتا، أليس كذلك؟ أذكر أنّه كان ضعيف الجسد. لذا، لا شكّ أنّ تعويذة ‘الشّفاء’ قد ساعدته إلى حدٍّ ما. أمّا الحرير، فقد كُتب أنّه كان من أجل زينة شعر والدتها. واستخدام تعويذة ‘الجاذبيّة’ في هذه الحالة أمرٌ مناسب.
وكذلك الشّريط، فرغم أنّه لطفلة صغيرة، فإنّه لا يزال زينة شعرٍ لأنثى، لذا الأمر ينطبق عليه.
وفيليكس فارس، ومعرّضٌ للخطر دائمًا، لذا من الطّبيعي أن يحتوي منديله على تعويذة ‘الحماية’.
— أمّا التّطريزات التي صُنعت خصّيصًا لهذا اللّقاء ولم تحتوي على أيّ تعويذة،
فذلك لأنّها ببساطة ‘خالية من الغرض’.”
واصل وليّ العهد حديثه بحماسٍ لا ينتهي حين يتعلّق الأمر بالسّحر، ثمّ وجّه لأُورورا التي بقيت مذهولةً، ابتسامةً فاتنة تنبعث منها هالةٌ من السّحر لا تُقاوم.
“بمعنى آخر، أعتقد أنّ الآنسة بورتا تمتلك قوّة ‘السّاحرة البدائيّة’ — وهي ما نُسمّيه في المصطلحات البحثيّة: ‘السّاحرة الأصليّة’، أي ما قبل أن تُصبح السّاحرة تُدعى بساحرة.
— ولهذا، أرجو منك أن تتعاوني معي في بحثي.”
كتابة أشياء مثل هذه التي تبدو “مهمّة” أمرٌ ممتع فعلًا،
لكن بما أنّها لا ترتبط كثيرًا بجوهر القصّة، فقد تمّ اقتطاعها من النّص.
شكرًا لك، يا سينتنس.
أنت حقًّا البطل.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 9"