الفصل 8 :
لم تكُن لتستطيع تفاديه.
ففي نهاية المطاف، أورورا ليست سوى ابنة كونت عادية جدًّا، باستثناء حبّها المفرط للتطريز.
فلو قادت حصانًا حتى القرية المجاورة، تنهك تمامًا،
وإن رقصت ثلاث مرات على التوالي، تُرهق تمامًا من شدّة التعب وضعف البنية.
فتاةٌ تقضي يومها جالسةً بهدوء تغزل الإبرة،
كيف لها أن تتفادى بجسدها النحيل شيئًا يندفع نحوها بسرعة؟
حدّقت أورورا مذهولة في السماء، فاغرة الفم بغباء شديد.
ذلك الوقت الذي لم يتجاوز بضع ثوانٍ، بدا كما لو أنّ الزمن قد توقف بسحرٍ ما، يسير ببطءٍ شديد.
الحدُّ الفضيّ للسيف اللامع المنعكس في عينيها الخضراوين الواسعتين، بدا كأنه نجمٌ ساطع في وضح النهار.
السيف يسقط عموديًا. من المؤكّد أنّه يستهدف رأس أورورا.
وذلك الصوت الطنّان، لعلّه صوت شفرة السيف وهي تخترق الهواء.
حتى إغلاق عينيها، لم تستطع فعله.
『كِرَتْتْ!』
صوتٌ قصيرٌ حادٌّ وغريب. في اللحظة التي دوّى فيها هذا الصوت،
طار السيف بعيدًا بشيءٍ ما.
“ماذا…؟”
“آنسة بوروتا!!”
مع صوت ارتطامٍ حادّ، سقطت أورورا على مؤخرتها كما لو انقطع بها الخيط،
وفي المقابل، ارتسم ظلٌّ فضّيّ أمامها.
رفعت نظرها بذهول، فإذا بعينين زرقاوين كنجمتين. طرفتا قليلاً قبل أن تُركّزا عليها ببطء.
فيليكس إيل لو ري=كلافيس.
“هل أنتِ بخير؟!”
“ن-نعم”
أجابت همسًا، ثم زفرت زفرةً طويلة.
تدفّقت الدماء مجددًا في بشرتها التي بردت، كتيّارٍ عنيفٍ يخترقها.
سخنت فجأةً، ثم داهمها دوارٌ، وما إن زال حتى بدأت تستعيد وعيها.
“هل تشعرين بألم؟ هل أُصبتِ؟”
“…فقط، تفاجأت…”
حين أدارَتْ نظرها ببطء، رأت السيف ساقطًا على الأرض الجافة،
وبجانبه كتلة جليديّة لسببٍ ما.
من الواضح أنّ ما غيّر مسار السيف هو تلك الكتلة.
‘أظنّني سمعتُ أنّ فيليكس ماهر في سحر الجليد…’
تذكّرت أورورا أنّه بارع في ذلك السحر.
يبدو أنّه صدّ نصل السيف بسحره في اللحظة الحاسمة.
‘بهذه اللفظة القصيرة، أطلق مثل هذا السحر… حقًا، فارسٌ ساحرٌ متميّز.’
“لماذا نزلتِ من مقاعد المتفرجين؟”
قبض على ذراعيها بقوّة، فعاد وعي أورورا من عالم الهروب من الواقع، مذهولةً، عيناها ترفرفان.
حين نظرت أمامها بتردّد، رأت فيليكس جاثيًا على ركبةٍ فوق الأرض الجافة، يحدّق بها بنظرة غاضبةٍ كأنّها سهم.
في مجال رؤيتها، لم يكن هناك سوى الشاب والسماء الزرقاء الصافية.
والمسافة بين عينيه وعينيها لم تكن تتعدى عرض ثلاث قبضات.
قريب… جدًّا.
‘آخر مرة اقتربنا بهذا القرب كانت في تلك الليلة الراقصة…’
فكّرت أورورا، بينما عقلها لا يزال مغمورًا في ضباب الصدمة.
هذا الفارس الصارم الجادّ القليل الكلام، لا يلمسها أبدًا بسهولة.
إنّه خطيبٌ يُجسّد المثالية في الطهر والانضباط.
لكن، أنّه تجاوز ذلك السلوك الآن… فلا بُدّ أنّ الأمر جلل.
خُطوة واحدة خاطئة فقط، كانت قد تؤدّي إلى إصابةٍ خطيرة، بل وربما موتها.
شعرت أورورا ببرودةٍ مفاجئة في عمودها الفقري، فارتجفت برعشةٍ خفيفة.
“ألم تكن تعلمين أنّ الاقتراب كان خطرًا؟”
قالها بلهجةٍ قاسية، أشبه ما تكون بتأنيب أحد مُدرّسي الأكاديمية العسكريّة للطلاب الجدد،
بينما عينيه الثاقبتين تُحدّقان بها.
نظرت أورورا مليًّا في عينيه الزرقاوين،
حيث ارتجف لهبٌ أرجوانيّ باهت، لا تدري أهو الغضب أم الاستياء.
وبشرته البيضاء الهادئة قد احمرّت، إمّا من أثر المعركة أو من الغضب الشديد.
وتكوّنت في وجهه ملامحُ مزعجةٌ لدرجةٍ تجعل طفلاً يبكي.
فيليكس اليوم، ومنذ أن وصل إلى هنا، بدا متجهمًا نوعًا ما.
لكن تعابيره الآن مختلفة تمامًا—واضحةٌ في شدّتها، غاضبةٌ بحقّ.
وجهه الجميل الهادئ، إن استطاع أن يتشوّه بهذا الشكل… فهو إنسانٌ حقيقيّ، وليس دمية.
لكن، ما إن رأت أورورا الخطّ الأحمر الغائر في وجنته، حيث تسرّب منه القليل من الدم،
حتى شهقتْ خفيفةً وكأنّها عادت إلى رشدها.
“آنسة بوروتا؟”
نداء فيليكس بصوتٍ منخفض وعبوسٌ أشدّ من قبل، أتى حين لم تُجبه أورورا سوى بتنهيدة صغيرة.
‘لو ظللتَ بهذا الوجه المُخيف، فالفتيات اللاتي يُعجبن بك سيتفاجأن حقًّا…
الوجه الجميل حين يغضب… يُصبح مرعبًا جدًّا، فعلًا.’
تلك الأفكار العقيمة خطرت على بالها، ثم أخرجت أورورا منديلًا جديدًا من جيب خفيّ في فستانها.
منديلٌ من الكتّان الأبيض، مطرّز بخيطٍ أزرق بزخرفة شرقيّة تُشير إلى “الحماية”.
كان من المفترض أن تُعطيه لفيليكس اليوم شكرًا على مرافقتها.
حقًّا، هل أنتَ بخير؟
سألتْهُ بعينيها وهي تُقابله بابتسامةٍ لطيفة، ثمّ مدت يدها الممسكة بالمنديل نحوه.
رمشتْ عيناه الزرقاوان المائلة للون البنفسجي، كأنها سماء المساء عند بداية الغروب،
واهتزّت رموشه الفضّية القصيرة.
حين لامست يدُ أُورورا وجنتَه،
ارتعش الشابّ قليلًا كأنّه أصيب بصدمة، واتسعت عيناه من الدهشة.
“مـ… ما الذي…”
“قلتَ ‘لِمَ’، أليس كذلك؟”
همستْ، ثم ضغطت المنديل على وجنته بقوة.
تلوّنت البياض الناصعة بلونٍ أحمرٍ قاتم، لطّخ القماش النقيّ.
زادت أُورورا من ابتسامتها وهي تهمس لخطيبها المتجمّد في مكانه:
“لأنّ السيّد كلافيس قد نزف دمًا.”
حين زادت الضغط قليلًا، وكأنّها تُوقف النزيف، شهق هو بصوتٍ خافت.
“شعرتُ بالقلق، ولم أتمالك نفسي حتى نزلتُ إليك.”
ما يمكنني فعله… هو أن أقلق عليك فقط.
لم تنطق بتلك الكلمات، واكتفت بابتسامةٍ هادئة.
شدّت قليلاً، فانكمشت حاجبا فيليكس من الألم.
فحتى إن كانت الإصابة سطحية، فلا شك أنها تؤلم.
برفق، بل برقة أشبه بالدغدغة،
مسحت وجنته بالمنديل، بحذرٍ شديد، كأنّها تُزيل الرطوبة عن شعرٍ مبتلّ.
“إن كنتَ تُريد إبقائي في منطقةٍ آمنة، فرجاءً، لا تُقلقني.”
إنه شخصٌ متهورٌ في أمورٍ غريبة، وشديد الإخلاص في أمورٍ لا حاجة لها.
وُلِد وريثًا لعائلةٍ ذات مكانةٍ مرموقة،
ومع ذلك، لو لم يهتمّ به أحد، فسيضيع في هذه الحياة بلا شك.
وما دامت مرتبطة به، حتى وإن كان ذلك بشكلٍ مؤقت،
فمن الطبيعي أن تهتمّ به وتقلق عليه.
فهي بالفعل تُستخدم كحاجزٍ للرياح ضد النساء،
فلا بأس إن أصبحت حاجزًا ضد الناس أيضًا.
أليس من واجب من ينتمي لعائلة نبيلة، أن يتحلّى بروح الخدمة؟
لنعتبر هذا توسيعًا لنطاق العمل الخيري.
ابتسمت أُورورا لفيليكس.
لكنها لم تكن تلك الابتسامة المجاملة التي تُستخدم في المجالس، ولا تلك المليئة بالحنان التي تُوجه لأحبّاء القلب، بل كانت ابتسامة كالتي يُطلقها فارس في وجه عدوّه.
حدّق فيليكس بها مذهولًا قليلًا، ثم صرف نظره عنها بتجهّم، دون أن يزيل العبوس من جبينه.
وخداه ارتفع عليهما شيء من الاحمرار.
“سيشفى إن غسلته.”
“عليك أن تُعالجه كما ينبغي. ثم إنّها إصابةٌ ما كان يجب عليك أن تتلقاها. أليس كذلك؟”
خفضت صوتها عند الشطر الثاني من حديثها،
ثم قطّبت حاجبيها وهي تُحدّق خلف فيليكس.
رجلٌ أشقر، يلتقط السيف الملقى بجانب كتلة الجليد الذائبة، يحدّق في ظهر فيليكس بنظراتٍ لاذعة.
وحين التقت عيناه بنظرات أُورورا، ابتسم بابتسامةٍ خبيثة تنضح بعداوةٍ خفيّة.
لكنها لم تكن تبدو للعيان سوى ابتسامة رجلٍ وسيم.
رجلٌ مزعج لا يروق لي.
“عدني… أنك لن تجعلني أقلق عليك مرةً أخرى.”
بَتشين
صفعتها برفق على وجنته فوق القفاز، كأنها مزحة،
لكنّها فعلت ذلك عمدًا لتُري الرجل ذاك.
وحين تظاهرت بالغضب وسحبت يدها، قبض على أطراف أصابعها برفق.
“…… سأبذل جهدي.”
سبقه صوته إلى وعيها قبل أن تعود إلى رشدها.
تفاجأت، ونظرت إليه، فرأت عينَيه البنفسجيتين المحدقتين بها.
شعرت أُورورا بقلقٍ غريب يتسلّل إلى أعماقها،
فسحبت يدها، ومع أنّه كان يستطيع منعها بسهولة، إلّا أنّ فيليكس تركها تذهب دون مقاومة.
عمّ صمتٌ غريب، وكانت أُورورا على وشك أن تعقد حاجبيها، لكنّ صوتًا حادًا قطَع الصمت.
بان، بان
صفقتان قاطعتان شقّتا الهواء.
“يبدو أنك ستكون خاضعًا لها تمامًا.”
كأنّ الجميع قد تحرّر من قيدٍ ما، بدأ الهواء يتحرك مجددًا.
وحين التفت كلٌّ من فيليكس وأُورورا إلى مصدر الصوت، رأيا رجلًا ذا شعرٍ أسود يتقدّم نحوهما مبتسمًا،
وعيناه بلون الجمشت، أرجوانيّ عميق لا يمكن أن تملكه عين بشرية، إنه اللون الأسمى، “الأرجوانيّ المطلق”.
ضاقت عينا أُورورا بشيءٍ من الشك، لكنّ الرجل ابتسم بلطافة.
“――――سيّد إيريك؟”
“أهلاً، مضى وقتٌ طويل، يا آنسة بوروتا.”
أحسنتِ التذكّر.
إنه ذلك الرجل الذي ادّعى أنه ساحر البلاط، والذي جاء يومًا ما يتفقد وجه أُورورا.
لقد حان الوقت… لِتبدأ المشاعر بالتفتّح.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 8"