كانت شمس العصر تودّع السماء خلف أعمدة الرخام البيضاء، بينما تناثرت الظلال على أرضية قاعة الشرف كرقصة شفق صامتة. ستائر زرقاء مخملية ترفرف على وقع نسيم هادئ يتسلّل من النوافذ العالية، ونقوش من الذهب والفضة تلمع على الجدران بلون الشفق، وكأن الزمن ذاته يعزف سيمفونية راقية من صمت وفضول.
كانت سيلينارا تقف هناك، في منتصف القاعة، ترتدي فستاناً من الحرير الرمادي الفاتح مزينًا بريش فضي ينسدل على أكمامه كضوء القمر حين يتسلّل على صفحة البحيرة. حول خصرها حزام رقيق مرصع بأحجار زرقاء صغيرة كالياقوت، وشعرها الأبيض يتدلّى على كتفيها في ضفائر مفككة كأنها أنشودة من الثلج.
وعندما دلف كايرون أرغالوث من باب القاعة الكبير، بدا كظل يخطو من قلب الأسطورة. كان يرتدي سترة ملكية زرقاء داكنة بنقوش فضية، فوق قميص أبيض بياقة عالية، وسروالًا من المخمل الأسود. عيونه الذهبية لمعت للحظة حين التقت بعينيها، كوميض نجم نسي نفسه في وضح النهار.
تقدّم إليها بخطى ثابتة.
قال بصوت منخفض، كمن يختبر الأثر:
— “مساء الخير… آرا.”
رفّت رمشها بخفة، وارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها.
قالت، وهي تميل برأسها بخفة وكأنها تعترف:
— “أنت أول من يُناديني بذلك من خارج فرقتي… الذئب كاير.”
لم يجب. بل ارتفع حاجباه قليلًا، ثم انحنى لها ببطء كأنما يعترف بسرّ لم يُعلن.
كان بينهما صمتٌ، لكنه لم يكن فارغًا؛ بل مليئًا بتلك النظرات المتبادلة التي لا يعترف بها أحد.
قطع الصمت دخول إيان، صديق طفولة سيلينارا، إلى القاعة وهو يرتدي معطفاً بلون النبيذ فوق قميص أبيض وحذاء جلدي أنيق. ابتسامته المعتادة ارتسمت على وجهه، لكنه لم يترك الأمر يمر دون نظرة حادة نحو كايرون.
قال بمرح مصطنع:
— “أهلاً، آرا. كنت أبحث عنك في كل أروقة القصر.”
تقدّمت نحوه سيلينارا تعانقه كأخت صغيرة، بينما كايرون لم يحرّك ساكنًا، سوى ضيق غير ملحوظ في عينيه. الجو بين الرجلين توتّر للحظة… توترٌ صامت، لكنه محسوس.
إيان تمتم وهو يتجه نحو النافذة:
— “ظننت الذئاب لا تهوى القاعات المذهبة.”
كايرون رد بنبرة هادئة، دون أن يلتفت:
— “ولا الصيادون يحبون أن تُغلق الأبواب خلفهم.”
ابتسمت سيلينارا بإحراج وهي تراقب الموقف. ثم تقدّمت من كايرون وقالت، محاوِلة كسر التوتر:
— “أخبرني، كاير… كيف حال الشمال؟”
نظر إليها، فتبددت قسوته. أجاب بنعومة:
— “الثلوج تهدأ هذه الأيام، ولا وجود لمخاطر حقيقية. فقط… تحرّكات تجارية وبعض الحذر السياسي.”
ضحكت بخفة، وقالت:
— “كنت أظنّ أنك ستجلب أنباء عن تنانين جليدية أو تمرد سري.”
ضحك بدوره، تلك الضحكة الخفيفة النادرة التي لم يسمعها أحد من قبل، كأنها خرجت فقط لها.
سألها:
— “وأنتِ؟ ماذا كنتِ تفعلين بعد… رحيلي؟”
تقدّمت إلى الطاولة الصغيرة المزينة بأطباق من الفاكهة وحلوى اللوز، ثم قالت وهي تختار قطعة كأنها تفكر بصوت مرتفع:
— “كنت أعدّ الخطوات في الحديقة… أراقب الغيوم… وأنتظر.”
ثم نظرت له مبتسمة:
— “هل كنت ستفهم لو قلت لك إن المكان بدا فارغًا قليلاً؟”
صمت. ثم أجاب بصوت بالكاد يُسمع:
— “ربما… كنت سأفهم أكثر مما تتصورين.”
في زاوية أخرى من القاعة، كانت صديقة سيلينارا، إلينا، ذات الشعر الوردي كغزل البنات، تعبث بيد الطفل المدير ريان الذي كان يحاول إبعاد يدها عنه بوجه محمرّ، بينما يتمتم:
— “توقفي عن ذلك، لست طفلاً صغيراً!”
ضحكت إلينا، وقالت بصوت عالٍ:
— “بل أنت طفل صغير خجول غيور جداً على أخته الكبرى!”
ردّ بصوت جاد وهو ينظر نحو سيلينارا وكايرون:
— “لا أثق بذلك الرجل. يملك عيون الذئاب.”
إلينا رفعت حاجبيها بدهشة، ثم همست له:
— “لكن… ألا تبدو الذئاب وسيمة أحياناً؟”
وفجأة، دخل الإمبراطور نفسه. أليريك أرغالوث، شقيق كايرون الأكبر، ذو الشعر الذهبي والعينين اللامعتين كالذهب المصقول.
كان يرتدي عباءة ملكية حمراء بنقوش ذهبية، وخاتم الإمبراطورية يلمع في يده.
قال بصوت جهير وهو يفتح ذراعيه:
— “ما هذا؟ هل بدأتم الاحتفال من دوني؟”
ثم نظر نحو كايرون وضرب كتفه بلطف:
— “أترى؟ لقد أخبرتك أن قلبك المتجمد سيذوب يومًا.”
كايرون تجاهل التعليق، بينما ضحكت سيلينارا بخفة، وقالت:
— “يبدو أن العائلة المالكة تتلذذ بإحراج بعضها.”
قال أليريك وهو يغمز لها:
— “نحن لا نحرج. نحن… نكشف الحقيقة.”
وهكذا، وبين الهمسات والنظرات والكلمات التي تُقال وتُخفى…
بدأت القلوب تبوح، دون أن تعترف.
بين الذئب الأزرق وراقصة الثلج… بدأ الجليد يرقص مع النار.
التعليقات لهذا الفصل " 8"