تلاشَت نغمات التصفيق شيئًا فشيئًا في زوايا القاعة، وبدأ الحضور يتفرّقون بين أروقة الحفل المزينة بالذهب والأقمشة المخملية.
على أطراف القاعة، كانت نظرة عميقة لا تزال معلّقة بين عينَي كايرون وإيان…
كأن كليهما يقول: “هي ليست لك.”
وفي الوقت ذاته، انسحب أعضاء فرقة سيمفونية الظلال بخفّة خلف الستائر الجانبية لتبديل ملابسهم، استعدادًا للانضمام إلى الحفل الملكي.
كان كايرون واقفًا قرب أحد الأعمدة، كتفاه مشدودتان، نظراته تائهة في رقصة لم تُغادره بعد…
إلى أن سمع صوتًا ذكوريًا يقترب بثبات:
– “حضرة الأرشدوق، هل أتشرف بمرافقتك لشرب كأس هادئ… بعيدًا عن كل هذه الضوضاء؟”
استدار كايرون، ووجد أمامه إيليان أزريلثا، واقفًا بثباتٍ لا يخلو من احترام، وعيناه تعكسان نية أعمق من مجرد كأس.
للحظة… ارتبك كايرون.
كان يعلم أن إيليان رأى ما لم يكن أحد يُفترض أن يراه في قاعة الرقص، قبل أيام.
لكنه قال بصوته الرزين المعتاد:
– “بالطبع… يشرفني.”
سارا معًا نحو إحدى الزوايا الجانبية للقاعة، حيث الأرائك المبطّنة بالأزرق الملكي.
جلسا، وطلب إيليان كأسين من الشراب الأحمر الخفيف.
صمت أولًا.
ثم حرّك الكأس بين أصابعه، وقال بنبرة هادئة:
– “كان العرض… مذهلًا.”
– “رائع، بحق.”
ردّ كايرون وهو ينظر في كأسه، لا في عيني محدّثه.
ثم تبادل كلاهما رشفة، تلتها لحظة من الهدوء، إلى أن أتى السؤال:
– “راقبتك أثناء العرض.”
قال إيليان دون لف أو دوران.
– “وأنا كنت أراقب العرض.”
قالها كايرون بابتسامة خفيفة، لكنها لم تكن كافية لتغطية التوتر الذي بدأ يتسلّل إلى عنقه.
– “لا أملك رفاهية المزاح حين يتعلق الأمر بها.”
قال إيليان بهدوء، لكن بنبرة لا تخطئها أذن محنّكة.
رفع كايرون نظره إليه، وتلاقت العينان.
– “تقصد… سيلينارا؟”
– “بالضبط.”
قالها إيليان بلا تردد.
– “إنها ليست مجرد راقصة. إنها أختي… وأعز ما لدي.”
– “وأنا… لم أكن لأرى فيها شيئًا أقل من ذلك.”
قال كايرون بنبرة جمّد بها جزءًا من قلبه ليتحدث بعقل صافٍ.
– “لكنك لا تُجمد نظراتك، أرشدوق الشمال.”
قال إيليان وهو يميل للأمام قليلاً.
– “ولا هي تُجمد نظراتها حين تنظر إليك.”
تجمّد الهواء لثانية.
كأن قلوبهم تُراقب اللغة الصامتة بينهما.
– “ما الذي تريده مني، سيد إيليان؟”
قالها كايرون بصوت منخفض، لكن حادّ.
– “أريد الحقيقة.”
قالها شقيق سيلينارا بوضوح.
– “هل تنوي اللعب بقلبها؟ أم أنك لا تعرف ما الذي تشعر به أصلًا؟”
لكنه لم يتوقع أن يراه يصمت.
كايرون، الرجل الذي طالما أجاب عن كل شيء، جلس بصمت، يحدق في كأسه كأن فيه إجابة ضائعة.
في الخلف، بعيدًا، فوق شرفة داخلية من الطابق العلوي، وقف الإمبراطور أليريك، يراقب المشهد وهو يحتسي شرابه.
ابتسامة عريضة مرسومة على وجهه، ومُكر صامت ينمو في عينيه.
– “يا له من موقف… وأخيرًا سقط الذئب في فخّ الشعور.”
همس، وهو يُفكر كيف سيتدخّل لاحقًا… لكن في اللحظة المناسبة.
في الأسفل، أنهى إيليان كاسته ووضعه على الطاولة:
– “لن أُجبرك على قول شيء.”
قال بهدوء.
ثم أضاف وهو يهمّ بالوقوف:
– “لكن فقط تذكّر شيئًا واحدًا، يا كايرون:
أختي… لا تستحق قلبًا مترددًا.
ولا عينًا تُحبها حين ترقص، وتتناساها حين تغادر الخشبة.”
أدار ظهره، ومضى.
أما كايرون، فبقي مكانه، يضم الكأس بين كفّيه، وعيناه
تنظران حيث سارت سيلينارا.
وقد عرف حينها فقط…
أن سؤاله ليس “هل يشعر بها؟”
بل هل يستطيع أن لا يفعل؟
التعليقات