بعد أن انتهى الفطور الإمبراطوري، وبدأت الوفود تنسحب ببطء من القاعة، سادت لحظة من الترقب في الأجواء، كأن الأنفاس تحبس بانتظار ما سيحدث بعد.
سيلينارا خرجت من القاعة بخطوات مترددة، أطراف فستانها البنفسجي الهادئ تلامس الأرض بخفة، وشعرها المائل للثلج يتراقص مع نسيم الصباح.
كان قلبها ينبض بعنف، وعقلها يصرخ: “لا تذهبي، لا تفعلي شيئًا أحمقًا”. لكن قدميها… كانتا تعرفان الطريق وحدهما.
من الجهة الأخرى، خرج كايرون ببطء من بوابة القاعة، يحيي بعض الدبلوماسيين بإيماءة رأس دون أن يراهم حقًا. كل ما كان يراه هو ظلها يتحرك نحو الحديقة.
لم يكن متأكدًا إن كان يتبعها، أم أنه فقط يمشي بلا هدف. لكن خطواته كانت تزداد ثقة كلما اقترب منها.
الحديقة الإمبراطورية كانت في أبهى حلّتها هذا الصباح، الزهور تفتحت وكأنها ترقص على نغمات غير مسموعة، والعصافير تغني ألحانًا ناعمة لا يدركها إلا العاشقون.
وقفت سيلينارا عند نافورة الرخام، تلمس الماء بأطراف أصابعها.
قال صوت خلفها، منخفضًا، ناعمًا، مشوبًا بتردد: “أنتِ… تحبين الزهور؟”
استدارت ببطء، لتجده يقف هناك، يده خلف ظهره، ووجهه مشوب بحمرة خفيفة تكاد لا تُرى.
قالت بابتسامة صغيرة:
“أجل… إنها أكثر صدقًا من البشر في التعبير عن مشاعرها.”
كايرون اقترب منها خطوة، ثم قال:
“سيلينارا… أنا آسف، أعني… على ما حدث في الحفل. لم أقصد أن أحرجك.”
هزّت رأسها: “ولِمَ تعتذر؟ لقد كانت رقصة جميلة. لم أشعر بهذا… الارتباك منذ زمن.”
ثم أضافت بخفة: “أنت ترقص أفضل مما توقعت.”
ضحك بخجل، وقال: “وأنتِ… كنتِ جميلة. أعني، دائمًا، لكن… في تلك اللحظة، كان الوقت كله… توقف.”
سكت الاثنان. مرت لحظة صمت طويلة، لم تكن ثقيلة بل دافئة، كأنها تقول كل ما لم يقال.
من بعيد، كانت إلينا تراقبهما من الشرفة مع لوريانا.
قالت إلينا وهي تبتسم: “ها هما. إنهما في مرحلة الإنكار الجميل.”
لوريانا ارتشفت من فنجانها وقالت:
“سيكذّبان مشاعرهما قليلًا، ثم يستسلمان لاحقًا. الأمور دائمًا تبدأ هكذا.”
أما إيليان فكان يجلس مع إيان في الصالة، يراقبان المشهد من خلال النوافذ الزجاجية.
قال إيان بنبرة مزعجة: “أتعتقد أنه سيؤذيها؟”
أجابه إيليان بهدوء:
“لا أعرف بعد، لكن إن فعل… فلن يجد مكانًا يختبئ فيه في هذه الإمبراطورية.”
في الحديقة، جلس كايرون وسيلينارا على المقعد الحجري الطويل بجانب الممر المزخرف بالياسمين.
قالت بخفة: “تبدو مختلفًا اليوم. أقل صرامة، أكثر… إنسانية.”
نظر إليها وقال ببطء: “أنتِ تجعلينني أبدو هكذا.”
ابتسمت، ثم نظرت بعيدًا:
“لا تبدأ بتلك العبارات، سنظن أنك شاعر.”
ضحك وقال:
“شاعر؟ لا، فقط رجل يحاول أن يفهم لماذا يتلعثم حين ينظر إلى عينيك.”
أخفضت رأسها، وقد احمر وجهها قليلاً. ثم قالت:
“ربما… لأنك تجهل ماذا تعني هذه المشاعر. ربما… لأنها جديدة.”
تبادلا نظرة طويلة، لم تكن فيها كلمات، لكن القلبين كانا يتكلمان بصوت خافت… خجول… صادق.
ثم نهضا معًا، دون اتفاق، كأن جسديهما قد تحركا بنفس الإيقاع.
قالت سيلينارا، وكأنها تخفي ارتباكها: “أعتقد أنني سأذهب لتحضير عرضي الليلي.”
قال كايرون وهو ينظر إلى السماء: “وأنا لدي بعض الأوراق العسكرية لأراجعها.”
لكن كلٌّ منهما علم أن الحقيقة هي: أنهما فقط خائفان… من البقاء أكثر.
ومع ذلك، حين افترقا عند أ
ول منعطف في الحديقة، استدار كل منهما في اللحظة نفسها لينظر إلى الآخر…
وابتسما.
التعليقات لهذا الفصل " 14"